إنفجاراتُ أجهزةِ ال”بايجر” في لبنان: مَن يُسَرِّبُ المعلومات إلى إسرائيل؟
مايكل يونغ*
لا شكَّ أنَّ قدرةَ إسرائيل الواضحة على تفخيخ أجهزة “النداء” (بايجر) الخاصة بآلافٍ من مقاتلي “حزب الله” من شأنها أن تزيدَ بشكلٍ كبير من مستوياتِ القلقِ في صفوف الجماعة.
لقد انخرط الإسرائيليون على مدى أشهرٍ في عملياتِ اغتيالٍ مُستَهدَفة ضدّ أعضاء “حزب الله”، ما يشيرُ إلى أنهم اخترقوا الجماعة. وقد دفع هذا الأمر الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، إلى مُطالبةِ الأعضاء بتجنُّبِ استخدامِ الهواتف المحمولة، التي كانت إسرائيل تخترقها وتُراقِبها. وقد اعتُبِرَ استخدامُ أجهزة “النداء” (بايجر) وسيلةً للالتفاف على هذا الضعف. لكن بعد العملية التي جرت يوم الثلاثاء (والأربعاء)، لم يَعُد “حزب الله” يثقُ كثيرًا في شبكة اتصالاته.
لكي نَفهَمَ ما تعنيه الشبكة ل”حزب الله”، يَتعيَّنُ علينا العودة إلى أيار (مايو) 2008. ففي ذلك الوقت، كان لبنان مُنقَسِمًا بين تحالف أحزاب “14 آذار” وتحالف “8 آذار” بقيادة “حزب الله”. وكانت الحكومة في حينه برئاسة فؤاد السنيورة قد اتّخذت قرارًا بالتحقيق في شبكة الاتصالات المستقلة ل”حزب الله”، والتي رأت فيها الجماعة ضرورةً أساسيةً لأمن اتصالاتها، ولكن جماعات “14 آذار” اعتبرتها أداةً لاستهدافها، بعيدًا من الأعين المُتَطفّلة للدولة.
في غضونِ أيام، شنَّ “حزب الله” عمليةً عسكريةً للسيطرة على غرب بيروت، وحاولَ التحرُّكَ نحو مُعتَكَف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في الشوف، الذي دفع الحكومة لاتخاذ هذا القرار. كان هذا الصراع الصغير أقربَ ما وصلَ إليه لبنان لإحياء الحرب الأهلية التي دارت رُحاها بين العامين 1975 و1990. إنَّ استعدادَ “حزب الله” للجوء إلى مثل هذا العنف لحماية شبكته يُظهِرُ مدى تأثير ضربة إسرائيل لهذه الشبكة اليوم.
في القتال بين “حزب الله” وإسرائيل منذ هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 التي شنّتها “حماس”، كان من المبادئ الأساسية ل”حزب الله” الحفاظَ على التكافؤ في الردع مع الإسرائيليين. مع ذلك، أصبحَ تحقيقُ هذا الهدف أكثر صعوبة بشكلٍ مُطرد، حيث انتهكَ الإسرائيليون مرارًا وتكرارًا قواعد الاشتباك السابقة بين الجانبين.
يُدرِكُ الإسرائيليون أنَّ “حزب الله” يُقاتلُ بيدٍ واحدة خلف ظهره. لا تريدُ المجموعةُ إثارةَ حربٍ شاملة مع إسرائيل تُدمّرُ لبنان وتُنتجُ ردَّ فعلٍ عنيفًا من الطوائف الأخرى في البلاد، وحتى من السكان الشيعة.
في ضوءِ هذا، حظي الإسرائيليون بالحرية الكافية لتوسيع نطاق ضرباتهم ضد أعضاء “حزب الله”، بمن فيهم كبار المسؤولين العسكريين في المجموعة، وخصوصًا قتل القائد العسكري فؤاد شكر في تموز (يوليو). في لعبة الردع، تمَّ تجاوُز “حزب الله”، وهو ما يقودنا إلى سؤالين يتعلّقان بالمستقبل القريب:
السؤالُ الأوّل والأكثر إلحاحًا هو كيف سيردّ “حزب الله” على هجمات الثلاثاء (والأربعاء) السيبرانية. لن يكونَ إطلاقُ الصواريخ أو الطائرات المُسَيَّرة على أهدافٍ إسرائيلية كافيًا. بل على العكس، يجب أن يُقابل التطوّر التكنولوجي للعملية الإسرائيلية برَدٍّ من العيار نفسه، في حين أنَّ أيَّ شيءٍ أقل من ذلك لن يؤدّي إلّا إلى تسليطِ الضوءِ على التفاوت بين الجانبين. لهذا السبب من المرجح أن يأخذَ “حزب الله” وقته، ويمتصَّ الضربة، ويكتشفَ كيف اخترقت إسرائيل شبكة إمدادات أجهزة “النداء” الخاصة به، ويستعدُّ بعناية لعقابٍ مُدمِّر.
قد يكونُ هناك أيضًا قلقٌ ثانٍ لدى الحزب. من المؤكّد أنَّ إيران و”حزب الله” يشتبهان منذ فترة طويلة في أنَّ الهجمات الاستفزازية الإسرائيلية ضدّهما كانت مُصَمَّمةً لاستفزازِ ردِّ فعلٍ مُضاد قوي من جانبهما، مما قد يجبر الولايات المتحدة على التدخُّلِ نيابةً عن إسرائيل. كان جرُّ الولايات المتحدة إلى حربٍ مع إيران منذ فترة طويلة هدفًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لذلك، أخذت كلٌّ من إيران و”حزب الله” هذا في الاعتبار عند التخطيط للانتقام من إسرائيل.
أما السؤال الثاني والأوسع نطاقًا فهو: ماذا تُخبرنا العملية الإسرائيلية عن استراتيجيةِ “وحدة الساحات” التي صاغتها إيران و”حزب الله” و”حماس” وحلفاؤها في العام الماضي؟ لقد سعت الاستراتيجية إلى خلقِ التنسيق بين أطرافِ ما يسمى “محور المقاومة” بقيادة إيران، بحيث إذا هاجمت إسرائيل أحدها، فإنَّ الأطراف الأخرى ستدخل المعركة ضد إسرائيل نيابةً عن شركائها.
لقد بانت حدودُ هذه الاستراتيجية من خلال تجنُّب “حزب الله” الدؤوب للتصعيد الكبير في لبنان. لكنَّ الإسرائيليين ذهبوا إلى أبعد من ذلك من خلال عمليتهم هذا الأسبوع، فأظهروا أنَّ لديهم مجموعةً من الإجراءات المُحتَملة التي تجعلُ مجموعات “محور المقاومة” في وَضعٍ غير مؤاتٍ إلى حدٍّ كبير.
بَيدَ أنَّ التفوُّقَ التقني الإسرائيلي، حتى وإن كان واضحًا، لا يعني أنَّ الإسرائيليين سوف يُرحّبون بحربٍ شاملة مع “حزب الله”. فإذا دخلت قواتهم لبنان، فإنَّ هذا من شأنه أن يخدُمَ مصالح “حزب الله”، حيث قد تتمكّن المجموعة من تكييف قنوات اتصالاتها لضمان قدرٍ أعظم من السرّية.
وهو ما يثيرُ التساؤل حول سبب كشف الإسرائيليين عن تفوّقهم هذا الأسبوع من خلال تفجيرِ أجهزة “النداء” (والتوكي ووكي). فإذا كانوا قادرين على اختراق “حزب الله” إلى هذا العمق، فلماذا يكشفون عن ذلك من خلال إثارة انفجارات كانت لتكون أكثر فعالية لو نُفِّذَت في خضمِّ معركةٍ مع إسرائيل؟ أشارَ بعضُ التقارير إلى أنَّ “حزب الله” كانت لديه شكوكٌ حول أجهزة “النداء”، الأمر الذي أجبرَ الإسرائيليين على التحرّكِ بسرعة.
ربما. لكنَّ الواقعَ هو أنَّ “حزب الله” يبدو وكأنه يُسرِّب المعلومات مثل الغربال، وما لم يتمكّن من اكتشافِ مَن يُمرّرُ معلوماته الحيوية إلى الإسرائيليين، فسوف نشهد المزيد من الضربات المُدمّرة مثل تلك التي تلقّاها الحزب هذا الأسبوع.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.