الهوية والانتماء بين الولاء والوفاء
هنري زغيب*
مُثمرةً كانت سنواتيَ الستُّ في الولايات المتحدة، بين مقالي الأُسبوعي في “الهدى” (نيويورك)، وتدريسي تَواليًا لدى ثلاث جامعات (جورج تاون – واشنطن، جامعة فلوريدا – غينزڤيل، معهد ميدلبُري الجامعي – ڤيرمونْت)، ومحاضراتي تَنَقُّلًا في عددٍ من الولايات، بعضُها لجمهورٍ أَميركي والآخَرُ للُبنانيين في المهجر الأَميركي، وكثافة كتاباتي عربيًّا وإِنكليزيًّا في مجلات أَكاديمية أَميركية..
مثمرةً، قلتُ؟ بل أَكثر، مفيدةً على المستويَيْن: الثقافي الشخصي، والإِنساني العامّ تجربةً وسُلوكًا، حتى أَنني حين عدتُ إِلى لبنان نهائيًّا (1994) كرَّرتُ في اللقاءَات الصحافية والإِعلامية والمنبرية أَن سنواتي الأَميركية الستّ صقَلَت شخصيتي ذاتيًّا وغَيريًّا..
أَسوقُ هذا الأَعلاه لا عرضًا شخصانيًّا فلذةَ عمرٍ من مسيرتي الأَدبي والشخصية بل لأَخلُصَ إِلى أَنَّ إِقامتي في المهجَر الموَقَّت بقِيَت مُوَقَّتة وكنتُ يوميًّا أَنتظر عودتي.. وإِذ لم أَنقطع عن إِرسال مقالاتي دوريًّا إِلى “النهار” كنتُ أَكتب حدّ اسمي “المنأَى الموَقَّت” لأَنني لم أَشعر يومًا هناك أَنني باقٍ أَو أَنني أَنتمي إِلى الوطن الأَميركي برغم الغنى الذي رَفَدني به، ولا أَزال أُعلن وفائي له..
أَقول الوفاء ولا أَقول الولاء لأَنني لا ولاءَ لي إِلَّا لوطني لبنان، مع كل غضبي أَنهالُ به دومًا على سُلْطته الأُمِّــيَّــة التي على قياسها ظلَّت تُنَجِّر بدولته حتى نَهَشَتْها وتركَتْها أَشلاءَ اهترأَت بأَبشع حالات السُوس والسوء..
الولاء للوطن! هذا ما ينقصُنا كي نسترجعَ لبنان إِلى جميع أَبنائه، مُقيميهم والمهاجرين.. فلا هُمْ سيعودون إِليه بسبب دولته الطائشة، ولا هو سيُرضيهم بما يَتَنَاسل فيه من سُلطة فاسدة منخورة باليوضاسيين والبيلاطُسيين والنيرونين والهولاكيين..
من هنا أَنَّ فقدان الوفاء للوطن ناجمٌ عن فقدان الشعور بالانتماء.. والانتماءُ أُمُّهُ الهوية وأَبوه الولاء.. ومَن لا يشعر بهذا الانتماء بل يتطلَّع (أَو ينتمي) ذهنيًّا إِلى وطنٍ آخرَ أَو دولةٍ أُخرى أَو أَيِّ إِيديولوجيا أَو أُوتوقراطيا أَو تيوقراطيا، يؤْمنُ أَنه يعيش في لبنان استعارةً لكنه يحيا هناك: في حيثما يَشعر أَنه ينتمي.. فلُبنانَ له ليس سوى موطئِ سكَنٍ لا موطن حياة..
ومن مآسينا أَنَّ في بعض شعبنا مَن يعتبرون لبنان مَعبَرًا مُوَقَّتًا (ولو وُلِدوا فيه) يَبُثُّون منه إِيديولوجياهُم السياسية أَو الدينية أَو الطائفية.. لذا لا يُرجى من هؤُلاء أَن يرفعوا ولاءَهم للبنان لأَن وفاءَهم للخارج ومربوطٌ إِراديًّا أَو قمْعيًّا بولائهم لهذا الخارج.. ومَن كان من هذه الفصيلة لا يؤْمن بالهوية اللبنانية التي هي فئةُ دمي ودمِ كلِّ مؤْمن بلبنان اللبناني وطنًا واحدًا وحيدًا موحَّدًا أَوحَد..
تجربتي الأَميركية ستَّ سنواتٍ ليست سوى فاصلة ضئيلة في سُطُور جبران الذي بقيَ 36 سنة في أَميركا (إِلَّا 3 سنوات في مدرسة الحكمة-بيروت)، ومع ذلك بقيَ لبنان الوطن في قلبه (أَحاديثه عنه مع ماري هاسكل وباربرة يونغ)، وعلى أَهداب ريشته (وادي قاديشا في خلفيَّة معظم لوحاته)، وفي لحظاته الوجدانية (قَولَتُه لأَخيه الروحي ميخائيل نعيمه :”أُمنيتي يا ميشا أَن أَزورَ وادي قاديشا قبل أَن أَموت”)، وفي وصيَّته أَن يُدفَنَ في بشَرّي، وفي نهدات قلمه العميقة: “بشَرّي موطنُ قلبي” (من مخطوطة له في متحفه) أَو “لو لم يكُن لبنان وطني لاتخَذْتُ لبنان وطني”… ذاك كان وفاؤُهُ لأَميركا بما أَعطته من شهرة عالمية (مع ذلك لم يتقدَّم بطلب الحصول على جنسيتها)، إِنما وَلاؤُه دامَ للبنان الوطن، حتى إِذا غضبَ على لبنان الدولة طَرَدَها بصَرخته: “لكم لبنانُكم ولي لبناني”..فلا سنواتُه الثلاثُ والخمسون أَمْركَتْ هُويتَه، ولا صومعتُه النيويوركية أَبعدَتْه عن مار سركيس بشَرّي..
هكذا يكون الولاءُ للأَرض الأُم، والوفاءُ للأَرض الـمُضيفة.. وهكذا تكون الهوية اللبنانية بنْتَ الانتماء إِلى لبنان اللبناني..
خارجَ هذا الانتماء لا يستاهلُ أَيُّ لبناني بطاقةَ هويةٍ ولا وثيقةَ سفَرٍ على تاجها المبارك أَرزةُ لبنان المقدَّسة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).