“المُنظَّمة تحتَ المجهر”: الخصوصيّةُ الفلسطينية والشموليّةُ العربية!
سنة 1984 نشرت “دار هاي لايت للنشر” في لندن، بالتعاون مع “جامعة كامبرِدج” البريطانية العريقة، كتاب “المنظمة تحت المجهر” للباحثة هيلينا كوبان، التي عملت في الصحافة في بيروت، فكتبت لجريدة “دايلي ستار” البيروتية، وراسلت كُبريات الصحف العالمية مثل “صنداي تايمز”، و”كريستيان ساينس مونيتور”. وضع نصه العربي الكاتب والصحافي سليمان الفرزلي.
ننشر ها هنا، بتَصرُّف، المُقدّمة القَيِّمة التي وضعها الزميل الفرزلي للكتاب، لأهمّيتها في عرض، وتحليل، حقبة مهمة من تاريخ النضال الفلسطيني.
سليمان الفرزلي*
(…) بصَرفِ النظرِعن التناقُضِ بين القائلين بفلسطين أوَّلًا، وبين القائلين بالوحدة العربية أوّلًا، فإنَّ السياقَ العام للخوضِ في التأريخ، والتوثيقِ لهذا التناقُض، ينقلُ فكرةَ “الخصوصية الفلسطينية” الى حَيِّزِ التجريبية الذي لم يُسفِر عن نتيجة، عدا عن التضحيات اللبنانية والعربية والفلسطينية الكبيرة، سوى عن تأكيد ما سمّاه باحثون، وهيلينا كوبان منهم: “الهويَّة الفلسطينية”، أي محاولة مُقارعة الصهيونية بسلاحها.
لكن هذه التجريبية الفلسطينية المأخوذة على مَحمَلِ الخصوصية، نقلت الهدفَ الفلسطيني من مدارٍ إلى أكثرِ من مَدار.
وإذا شئنا أن نُطابقَ هذه المدارات، لوَجَدنا أنَّ مُسلسَلَ التنازُل في الهدفِ الفلسطيني ترافَقَ مع مسلسلٍ آخرٍ في العملِ السياسي والعلاقات الدولية. فمن هدفِ التحريرِ الكاملِ لفلسطين، إلى هدفِ “الدولة الديموقراطية العلمانية في كامل فلسطين التاريخية”، إلى “السلطة الوطنية على أيِّ أرضٍ فلسطينية يزولُ عنها الاحتلال”، إلى “الدولة الفلسطينية المستقلة”، إلى “السلطة الوطنية في الضفة الغربية وغزة”. وفي المقابل، هناك انتقالٌ مُوازٍ في العلاقات الدولية من الصين الشعبية الى الاتحاد السوفياتي، فإلى أوروبا الغربية، إلى الأمم المتحدة، وأخيرًا إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي لم يستطع الفلسطينيون اختراقها، فوصفتها الكاتبة في فصلها الأخير بأنها “عقبة كأداء لا تتزحزح”!
هنا تصلُ الحركة الفلسطينية إلى المأزق، وخصوصًا بعد الخروج الفلسطيني من لبنان.
فكيفَ الخروجُ من المأزقِ الراهن؟
هل يكونُ باسترضاءِ الولايات المتحدة لزحزحتها بالمزيد من التنازُلِ عن الهدفِ الفلسطيني، أي بالتنازُلِ عن وحدانيةِ تمثيل “منظمة التحرير” للشعب الفلسطيني والدخولِ في ثُنائيةٍ فلسطينية-أردنية كما تُريدُ واشنطن؟
هل يكون بمُجافاة الولايات المتحدة لزَحزَحتها، بالمُقارعة، ضد مصالحها في المنطقة، أي بإعادةِ الاعتبارِ للنضال القومي ضد الاستعمار، على أساس أنَّ أميركا هي الأصل، وإسرائيل هي الفرع؟
هذان الخياران يبدوان غير مُمكِنَين في الظروف الراهنة (في ثمانينيات القرن الفائت) لأنهما بطبيعتهما يُلغيان مُبرّرات وجود الحركة الفلسطينية في شكلها المعروف منذ أواسط الستينيات، وفي شكلها المُعتَرَف به عربيًا ودوليًا منذ أواسط السبعينيات، وعلى وجهِ التحديد منذُ إقرارِ قمّتَي الجزائر والرباط في 1972 و1974 بأنَّ منظّمةَ التحرير هي المُمثّلُ الشرعيُّ الوحيد للشعب الفلسطيني.
هيلينا كوبان، ترى مخرجًا ثالثًا هو العمل الفلسطيني من داخل الأرض المحتلة، أي من داخل فلسطين التاريخية، كما عُرِفَت حدودها منذ الانتداب البريطاني في العشرينيات (القائتة)، لتغييرِ إسرائيل من الداخل بالعمل العسكري والعمل السياسي معًا، من أجلِ إحياءِ هدفِ “الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين كلّها”، لأنَّ هدفَ إقامة دولتَين، واحدة اسمها “إسرائيل”، وأخرى اسمها “فلسطين”، باتَ مُتعذّرًا. وهذا يقتضي التسليم بأنَّ مركزَ الثقل في الحركة الفلسطينية قد انتقلَ من الخارج إلى الداخل، بحيثُ تتحوَّلُ الحركة الفلسطينية في الخارج إلى مُساندٍ وداعمٍ للحركةِ الفلسطينية في الداخل.
هذا الانتقالُ من فكرةِ “الدولتَين” إلى فكرةِ “الجناحَين”، هو الشيء الذي تراه الكاتبة كوبان مَنطِقيَا ومُمكِنًا، مع تحفُّظٍ واحدٍ هو ردُّ الفعل الإسرائيلي بالإقدام على عملياتِ إبعاد وتهجير واسعة النطاق للفلسطينيين من الداخل إلى الخارج، وخصوصًا بعد عودة الدولة الإسرائيلية إلى الاهتمام بنظرية مناحيم ملسون، التي تلفتُ الانتباهَ إلى خطورةِ تكاثُرِ الفلسطينيين في إسرائيل، ولا سيما في الجليل!
أذكرُ أنني في صيف 1982، أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، دخلتُ في مُناقشةٍ حولَ هذا الموضوع بالذات مع المرحوم الدكتور عصام السرطاوي، الذي قال إنه بإمكانِ الفلسطينيين تحقيق هدفهم على المدى الطويل من خلال التحكُّمِ باللعبة السياسية داخل إسرائيل، من طريق العملية الانتخابية كمواطنين إسرائيليين. والهدف المقصود هنا، هو “الدولة الديموقراطية العلمانية”.
وأذكرُ أيضًا أنني قلتُ للسرطاوي إنَّ مناحيم بيغن، في أوّلِ زيارةٍ له إلى بريطانيا، بعد تسلُّمه الحُكم في إسرائيل، حيث تعالت أصواتٌ بريطانية تدعو إلى القبضِ عليه لقيامِهِ بعملياتٍ إرهابية ضدّ القوات البريطانية في فلسطين أيام الانتداب، ردَّ على سؤالٍ في التلفزيون البريطاني عن رأيه في دعوة ياسر عرفات إلى “دولةٍ ديموقراطية علمانية” في فلسطين، يعيشُ فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون على قدم المساواة، بقوله: “إنَّ إسرائيل هي هذه الدولة لأنها تتسع لليهود والمسلمين والمسيحيين… وللملحدين أيضًا”…
إشارة الى أنَّ الدولة التي يدعو إليها عرفات لا تتسع لهؤلاء، أو على الأقل لا يستطيع أن يُنادي بالاتساع لهم علنًا، ليؤكّد على طريقته، أن إسرائيل هي الحلُّ الأخير بما هي عليه الآن. ومع ذلك، أصرَّ السرطاوي على إمكانية التغيير من خلال التحالفات الداخلية في إسرائيل.
لكن الخلوصَ إلى هذه النتيجة في الفكر الفلسطيني السائد، لا يحلّ التناقضَ بين الخصوصية الفلسطينية والشمولية العربية، وهو تناقضٌ امتدَّ إلى الأرض المحتلة في العام 1948، بطبيعةِ الحال، كما هو واضحٌ من عرض هيلينا كوبان لحركة “الأرض”، ثم لحركة “أبناء البلد”، تجسيدًا لوَعي هؤلاء الفلسطينيين، الذين تُطلِقُ عليهم اسم “عرب إسرائيل”، بهويتهم الفلسطينية كنتيجةٍ لاتِّساعِ حركة المقاومة الفلسطينية في الخارج من جهة، وللدور الحاسم الذي لعبه الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) من جهةٍ ثانية، قبل وبعد انفضاض “الجبهة الوطنية”، التي وجد العمل الفلسطيني طريقه من خلالها لإثباتِ وجوده داخل إسرائيل.
من حُسنِ الحظّ، أنَّ هيلينا كوبان، عادت بالتفصيل إلى بدايات حركة “فتح” من خلالِ مجلة “فلسطيننا”، الصادرة في بيروت في نهاية الخمسينيات، أي قبل عشر سنوات تمامًا على إعلان الحركة عن نفسها بتعيين ياسر عرفات ناطقًا رسميًا باسمها. في تلك المرحلة، كُنتُ لا أزالُ طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت، وقد التقيتُ مع الصديق منح بيك الصلح حينئذ، بعض مؤسّسي تلك المجلّة ممن لمعت أسماؤهم في الحركة الفلسطينية في ما بعد. وفي ذلك الوقت، كانت حركة القومية العربية، مُمَثَّلةً بالبعثيين والناصريين و”حركة القوميين العرب”، في عزِّ تألُّقها. وكان واضحًا أنَّ مؤسّسي “فلسطيننا”، الذين هم مؤسِّسو “فتح”، يحملون نبرةً مختلفةً، أو لهجةً، وربما لغةً أخرى.
إنَّ تلك المرحلة، في اعتقادي، طُمِسَت إلى حدٍّ بعيد، من حيث مدلولاتها الإيديولوجية. وكذلك الأمر بالنسبةِ إلى نشرة “ثأر”، التي كان يُصدرها الفلسطينيون في “حركة القوميين العرب” في الجامعة الأميركية تحت شعار “دم، حديد، نار”. وإذا شئنا أن نبحثَ عن سببٍ أساسي لطَمسِ تلك البدايات، فإننا لا نجد سوى تغيُّر المدار الفلسطيني، خصوصًا بعد حرب حزيران (يونيو) 1967.
سواء كان الأمر يتعلَّقُ بتعاظُمِ موجة القومية العربية، في ذلك الوقت، أو بالنزعة التكتيكية الواضحة في العمل الفلسطيني، فإنَّ الفكرَ الأوّل في الحركة الفلسطينية، لم يَكُنْ مُناقضًا تمامًا للفكر القومي، بل إنَّ عددًا غير قليل من مؤسّسي “فتح”، نشأ بين الحركات والأحزاب القومية. كما إنَّ “حركة القومية العربية”، لم تَكُن مُتجاهلة للخصوصية الفلسطينية، أو غافلة عن أهمّيتها في العمل القومي.
وفي تقديري أيضًا، أنَّ المُنادين بالوحدة العربية، والمُنادين بفلسطين أوّلًا، لم يكونوا على تناقُضٍ نهائي من حيث الهدف، بقدرِ ما كانوا على اختلافٍ في الاجتهاد حول السلوك السياسي والعسكري. ذلك أنَّ الحركةَ الفلسطينية، منذ البداية، ومن خلال ما عبَّرت عنه “فلسطيننا”، اعترفت بأنَّ الفلسطينيين لا يستطيعون بلوغ هدفهم لوحدهم، وأنَّ الهدفَ المباشر للكفاح الفلسطيني المسلح، هو إقحام الجيوش العربية في الحرب ضد إسرائيل بصورةٍ فعَّالة، لأنَّ الجيوشَ العربية وحدها قادرةٌ على مُنازلة إسرائيل، والحركة الفلسطينية هي طليعةٌ مُحرِّكة للصراع.
إلّا أنَّ بعضَ القادة الفلسطينيين أدركَ خطأ هذا التصوُّر، بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967، فتراجعَ عنه، مؤثرًا العمل السياسي والديبلوماسي لنيل هدفٍ أدنى من تحريرِ فلسطين تحريرًا كاملًا!
بل إنَّ هزيمة 1967 كانت تُمثِّلُ افتراقًا عن التصوُّرِ القومي الكامن في الحركة الفلسطينية في بداياتها. فقد كانَ التصوُّرُ الأساسي للحركة الفلسطينية مُمارسةَ العملِ العسكري ضدّ إسرائيل، مع إقامةِ “شبكةٍ” من الدعم الشعبي العربي في جميع البلدان العربية. لكن هذا لم يتحقَّق لأنَّ طفرةَ الإقبالِ على العمل الفدائي، بعد هزيمة 1967، حالت دون التنظيم السياسي المُتقَن على الصعيد العربي، كما تقول المؤلفة.
إلّا أنَّ المرحلة السابقة لحرب 1967 لا تَجدُ عند هيلينا كوبان تفسيرًا للعداء الذي استحكَمَ بين جمال عبد الناصر وبين “العاصفة”، قبل الإعلان عن حركة “فتح” صراحةً، إلى درجةٍ أنَّ وسائلَ الإعلام الناصرية اتَّهَمَت القائمين بالعمليات الفدائية ضدّ إسرائيل، بأنهم عملاء “حلف السنتو” (منظمة المعاهدة المركزية، أي “حلف بغداد” بعد خروج العراق منه في أعقاب إطاحة الحكم الهاشمي). إذ إنه من غير المعقول أن تكونَ هذه الحركة قد وَضعت نفسها في وَضعِ الأداة التي يطمح إليها خصوم عبد الناصر لتحطيمه، ولا من المعقول أن يكونَ الأمرُ مجرَّدَ سباق على الزعامة الفلسطينية، بعدما أقام مؤتمر القمة العربي الأول، الذي دعا اليه عبد الناصر في 1964، “منظمة التحرير الفلسطينية” برئاسة أحمد الشقيري.
الأقربُ إلى المعقول، هو أن السباقَ في تلك المرحلة كانَ على الأولويات، لأنَّ مؤتمر القمة العربي الأوّل شكَّلَ مُفترقًا أساسيًا في العمل المشترك. ذاك المؤتمر الذي وُلدت فيه “منظمة التحرير الفلسطينية”، ربما أثَّر تأثيرًا سلبيًا في الحركة الفلسطينية السرّية التي عُرِفَت باسم “العاصفة”، ثم “فتح”، والتي برزت ملامحها النظرية في مجلة “فلسطيننا”، قبل خمس سنوات من ذلك، باستعجالِ ظهورها إلى العلن قبل استكمالِ أدواتها النظرية والسياسية والعسكرية.
هذا الاستعجالُ، هو الذي أعطى الانطباع الخاطئ بأنَّ الهمَّ الأول لتلك الحركة هو توريط جمال عبد الناصر والدول العربية في حربٍ مع إسرائيل قبل الأوان. لكن من الفلسطينيين مَن يقول إنَّ “استعجالَ” الحركة الفلسطينية مردُّهُ إلى “تباطؤ” الدول العربية في مواجهة إسرائيل، وبخاصة بعدما أبلغ عبد الناصر أهالي غزة أنه ليست لديه خطَّة لتحرير فلسطين. على أنَّ هذا لا يُشكِّلُ دليلًا قاطعًا، لأنَّ عبد الناصر لم يَكُن مُضطَرًّا إلى البَوحِ بخطَّته، إذا كانت لديه مثل هذه الخطَّة!
الواقعُ أنَّ مؤتمر القمة العربي الأول، يُنبئُ بتصوُّرٍ ما، إن لم يكن يُنبئُ بخطةٍ كاملة. فقد حقَّقَ هذا المؤتمر إنجازاتٍ مُهمَّة ليس أقلُّها تأسيس “منظمة التحرير الفلسطينية”. فالقيادة العربية المُوَحَّدة، التي أنشئت أيضًا بقيادة الفريق علي علي عامر بدعوى حماية المشاريع العربية لتحويل روافد نهر الأردن، ردًّا على المشروع الإسرائيلي بتحويل مياه نهر الأردن، باشرت فعلًا بإقامةِ شبكةٍ دفاعيةٍ عسكرية عربية للرَدِّ على أيِّ عدوانٍ إسرائيلي.
إنَّ هذا المُفترق أدَّى، في النهاية، إلى انهيارِ التصوُّرِ العربي العام من خلال القيادة المُوَحَّدة وأولويات عبد الناصر، وإلى انهيار التصوُّر الفلسطيني الأصلي من خلال استعجالِ العمل الفدائي بفعلِ التناقُض الزمني بين الحركتَين. فعندما أثارت جريدة “الأحرار” البيروتية في 1965، وكان يرأس تحريرها جان عبيد، قضية مقتل الفدائي جلال كعوش، المُنتَمي إلى “فتح”، تكشَّفَ من خلالها أنَّ الدول العربية الحدودية مع إسرائيل كانت مُهتمّة غاية الاهتمام بمنع التسلُّل عبر الحدود بأمرٍ من القيادة العربية الموحدة، لأن تلك القيادة لم تكن راغبة في الدخول بمواجهةٍ عسكرية مع إسرائيل نتيجةً لعمليات التسلُّل غير المسموح بها رسميًا، قبل استكمال استعداداتها الدفاعية.
إنَّ “العملَ العربي المشترك”، من خلال القيادة العربية الموحَّدة، ومن خلال” منظمة التحرير الفلسطينية”، كان في الواقع يتَّجه نحو ملامح خطةٍ للمواجهة العسكرية على مدى أطول مما كانت تبتغي القيادات الفلسطينية الجديدة. ويبدو أنَّ ملامحَ تلك الخطة تقوم على الموقف الهجومي سياسيًا تجاه الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الموقف الدفاعي العسكري تجاه إسرائيل. لكن ذلك لم يكن مفهومًا في حينه، بل فُهِمَ على أنه تأجيلٌ جديد للمعركة مع إسرائيل، فبدا العمل الفدائي الفلسطيني وكأنه بالفعل خطة مضادَّة لإجهاض هذا التأجيل باستعجالِ المعركة.
من الأدلّة على هذا التطوُّر، أنَّ الولايات المتحدة في تلك المرحلة بالذات، بدأت لأول مرة بالتسليح المباشر لإسرائيل من طريق ألمانيا الغربية، مما حمل الدول العربية في العام 1965 على قطع علاقاتها مع بون.
لكن المُصالحة التي تمَّت بين العمل الفدائي وبين الأنظمة العربية بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، والتي أدَّت إلى تسليم “منظمة التحرير” إلى التنظيمات الفدائية، بقدر ما كانت تُمثِّلُ تراجُعًا من الطرفين عن سياساتهما السابقة، سياسة التأجيل من جانب الأنظمة وسياسة التعجيل من قبل العمل الفدائي، مثَّلت في الوقت ذاته مظهرًا من مظاهر المنافسة الفلسطينية على المنظمة. وقد قُلنا سابقًا، إنه من غير المعقول أن يكونَ السباقُ على المنظمة هدفًا أساسيًا للحركة الفدائية الفلسطينية من البداية، ولو أنَّ وصول الحركة إلى المنظمة قد تمَّ فعلًا ليُعطي مثل هذا الانطباع. فهو نتيجةٌ جانبيةٌ للتطورات، أكثر مما هو سبب لها، على الرُغمِ من صعوبةِ التفريقِ بين الأسباب والنتائج، في تلك المرحلة المزدحمة بالتناقضات السياسية والفكرية.
الملفت للنظر، على صعيد التوجُّه الدولي، أنَّ الحركة الفدائية ومنظمة التحرير، كلتيهما، اتجهتا نحو الصين الشعبية في البداية. فالحركة الفدائية ذهبت إلى بكين أوّلًا من طريق الجزائر، ثم ذهب الشقيري إلى هناك على رأس وفدٍ فلسطيني رسمي، وهو ما وثَّقته الكاتبة جيداً في كتابها.
أذكُرُ أنه عندما عاد الشقيري من الصين، وكُنتُ في حينه أعمل في جريدة “الأنوار” البيروتية، أننا نشرنا جانبًا من محادثات الوفد الفلسطيني مع الصينيين، حصلنا عليه من أحد أعضاء وفد الشقيري، تحت عنوانٍ رئيسي في الصفحة الأولى: “ماذا قال ماو تسي تونغ للفلسطينيين”. وقد كان من الطبيعي، في ذلك الوقت، أن يتَّجه الفلسطينيون إلى الصين باعتبارها الجهة الدولية الوحيدة، في حينه، التي كانت تأخذُ من المسألة الفلسطينية والصراع العربي–الإسرائيلي، موقفًا أكثر جذريَّةً من غيرها، وأقرب بالتالي إلى المنطلق الأساسي للحركة الفلسطينية الداعية إلى تحرير فلسطين.
لكن هذا أيضًا ظهرَ على أنه من قبيل المنافسة الفلسطينية على زعامة العمل الفلسطيني. وما ساعد على إظهاره بهذا المظهر، في ما بعد، تغيُّر طبيعة علاقات الصين الدولية بعد انتهاء “الثورة الثقافية”، والذي توافق مع تغيُّرٍ في طبيعة علاقات منظمة التحرير، بعد استيلاء الحركة الفدائية عليها. كذلك، لا يمكن أن نُسقِطَ من الحساب عنصر المنافسة الفلسطينية، الذي اتخذ في أحيانٍ كثيرة شكلَ المزايدة.
كذلك، تُذكَر المزايدة الفدائية على القمة العربية الأولى، وعلى منظمة التحرير، من الأسباب الرئيسة لهزيمة حزيران (يونيو) 1967، وتُذكَرُ أيضًا المُزايدة الثورية داخل الحركة الفدائية في العام 1970، على أنها من الأسباب الرئيسة للصراع الأردني-الفلسطيني، الذي انتهى بخروج الفدائيين من الأردن. وقد ركَّزت هيلينا كوبان، على الشقِّ الثاني من الموضوع، ووثَّقته جيدًا، في سياقِ استعراضها ل”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، ربما لحصرِ الموضوع في الإطار الفلسطيني، وربما لأنها عاصرت تلك الحقبة أكثر مما عاصرت الحقبة السابقة… في موضوع الجبهة الشعبية، أخفت شيئًا من الانحياز المُسبَق، بوضع الجبهة، نسبةً إلى أصولها في “حركة القوميين العرب”، على هامش التيار العام للحركة الفلسطينية. ف”حركة القوميين العرب”، بشكلٍ عام، والدكتور جورج حبش بشكلٍ خاص، لم يَدخُلا في السباقِ لاقتطاعِ نصيبٍ في الحركة الفلسطينية، بل كانا فيها من البداية، على الرُغمِ من تغيُّرِ لبوس هذا الفصيل، من حركة قومية إلى حركة يسارية ماركسية، إلى حركةٍ فلسطينية ضمن التوجُّه الفلسطيني الوطني القطري، سواء بوجهها المُتطرِّف المُزايد، أو بوجهها المعتدل المُساوِم. فقد كان الهمُّ الفلسطيني هو أساسُ شرعية “حركة القوميين العرب”، ومن ثمَّ “الجبهة الشعبية”.
لكن الحركة، ومن ثمَّ الجبهة، كانتا دائمًا مسبوقتين قبل أي سباق. “حركة القوميين العرب” كانت، في العمل القومي، مسبوقةً من “حزب البعث”، وفي العمل اليساري الماركسي، كانت مسبوقةً من شتى أشكال الحركات الشيوعية، وفي العمل الفدائي الفلسطيني، كانت مسبوقةً من “فتح”. ولهذا، كانت “الجبهة الشعبية” تبدو دائمًا وكأنها فاقدة لمبرر وجودها، مع أنها لم تكن يومًا خارج التيار العام للحركة الوطنية الفلسطينية، حتى من قبل ظهورها كقطبٍ آخر، موازٍ لحركة “فتح” في العمل الفلسطيني.
على أنَّ عدم ارتقاء القوميين العرب السابقين إلى المرتبة الأولى، سواء في العمل القومي، أو في العمل اليساري، أو في العمل الفلسطيني، لا ينتقص من أساس شرعيتهم الأصلية في العمل الفلسطيني أوّلًا.
المرّة الوحيدة التي حاوَلَت فيها السيدة كوبان وضع “حركة القوميين العرب” في المرتبة الأولى، هي ذكرها للمرحلة التي قادت فيها الحركة جمعية “العروة الوثقى” في الجامعة الأميركية، يوم قادت تلك الجمعية مظاهرات بيروت ضد حلف بغداد في العام 1955، مما أدَّى إلى طردِ عددٍ كبير من طلاب الجامعة، كُنتُ أنا شخصيًا واحدًا منهم، لكن الظروف شاءت أن أكونَ أحد القلائل الذين لم يُلبّوا دعوة الرئيس جمال عبد الناصر للالتحاقِ بجامعة القاهرة، مؤثرًا العودة إلى الجامعة الأميركية بعد سنتين، ولم أكُن في عداد “حركة القوميين العرب”.
هذه الواقعة، على الرُغم من أهمّيتها، لا تُشكّلُ مركزًا قياديًا أو طليعيًا لحركة القوميين العرب خارج الحرم الجامعي، أو حتى في داخله، لأنَّ المزاجَ الشعبي العربي العام كان في هذا الاتجاه، سواء في لبنان، أو في سوريا، أو في العراق، أو في مصر، أو حتى في المملكة العربية السعودية والأردن. لكن طبيعة الحياة السياسية في لبنان، وطبيعة الشارع البيروتي على الخصوص، من شأنها أن تُعطي لأيِّ حركةٍ عاملة وزنًا أكبر من وزنها الحقيقي في بقية الأقطار العربية. فلبنان، كان بطبيعته، مركز الاستقواء على بقية العرب، وعلى إسرائيل أيضًا، وربما على الدول الكبرى. وقد يكون هذا من أهم أسباب تدميره، لتدمير هذه الخاصية فيه.
يصحُّ هذا على “فتح”، كما يصحُّ على “حركة القوميين العرب”، و”الجبهة الشعبية”، منذ تأسيس مجلة “فلسطيننا” أواخر الخمسينيات، إلى معركة بيروت في العام 1982. ولعلَّ خسارة الفلسطينيين للبنان، ولبيروت بالذات، لا يمكن تعويضها حتى بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية أو في الأردن. وحتى في صعود العلاقة الفلسطينية المُمَيَّزة مع سوريا وهبوطها، في التلاقي أو في التناقض، كان لبنان هو الذي يعطي الحركة الفلسطينية عنصر التكافؤ في هذه العلاقة.
فالصورة العربية والعالمية، لحركة “فتح”، والحركة الفلسطينية، هي صورة “فتح اللبنانية”. إذ على الساحة اللبنانية، من دون غيرها، تعملقت الحركة الفلسطينية، وتحجَّمت إسرائيل، مع أن العمليات الفدائية التي شُنَّت من خارج لبنان، كانت أشدَّ ضررًا بإسرائيل ماديًّا، من العمل العسكري المنطلق من الأراضي اللبنانية. ومع أنَّ مرحلةَ الوجود الفلسطيني في لبنان، تحتاجُ إلى أكثر من كتاب بحدِّ ذاتها، فهذا لا يُعفي أي كاتب في الموضوع الفلسطيني، بمَن فيهم مؤلفة هذا الكتاب، من التعمُّق بفشل الحركة الفلسطينية في فَهمِ الحقيقة اللبنانية، بدلًا من تبريرِ هذا الفشل.
لا يكفي أنْ يُقال إنَّ الحركة الفلسطينية لم تَكُن راغبة في المشاركة بالحرب اللبنانية، من ضمن توجُّهها العام بعدم التدخُّلِ في الشؤون الداخلية للدول العربية، إنما اضطرّت إلى ذلك اضطرارًا، أو دُفِعَت إليه دفعًا. ذلك أنَّ شكلَ الوجود الفلسطيني في لبنان، كان من الأسباب الرئيسة للحرب، سواء شاركت الحركة الفلسطينية فيها أم لم تُشارك.
ربما كان موضوع العلاقات الفلسطينية-الأميركية، هو الأكثر عُمقًا في تحليل العلاقات الدولية للحركة الفلسطينية، لا سيما أنَّ السياسة التي رسمها هنري كيسنجر، هي التي لا تزال سارية على الرُغم من تغيُّر الإدارات الأميركية ومُعالجتها للموضوع. فهي ترتكز على الحلول الجُزئية المُنفردة، إذا كان لا بدَّ من الحلول، وعلى عدم التعاطي مع العرب ككتلةٍ واحدة، بل مع كلِّ دولةٍ على حدة.
فماذا كان يمكن أن تكون عليه الصورة الفلسطينية، والعربية، والعالمية، لو أنَّ هذا التطور كان البداية، لا النهاية؟
حتى هذا السؤال، يبقى في إطار التجريبية!
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.