إشاعَة حرب
مايكل يونغ*
من الواضحِ أننا عُدنا إلى النقطة التي تُهدّدُ فيها إسرائيل بالشروع في عمليةٍ عسكريةٍ كُبرى في لبنان. قد يكونُ هذا شيئًا حقيقيًّا، أو قد يكونُ، مرّةً أخرى، محاولةً لزيادةِ الضغط الإسرائيلي في المفاوضات غير المباشرة مع “حزب الله” حتى يقبل الحزب ترتيباتٍ أمنية جديدة على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية.
في محادثةٍ جرت يوم الاثنين بين المبعوث الرئاسي الخاص للولايات المتحدة آموس هوكستين ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، والتي نقلتها صحيفة “نيويورك تايمز”، ذَكَرَ الوزير أنَّ “العملَ العسكري هو” السبيل الوحيد “لإنهاءِ أشهرٍ من العنف عبر الحدود بين إسرائيل و”حزب الله” …” جاء هذا في الوقت الذي أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ إعادةَ الإسرائيليين إلى ديارهم في الشمال أصبحت الآن هدفًا للحرب.
على الرُغم من كلِّ هذا الحديث العسكري، فما زالَ من غير الواضح ما الذي يأمل الإسرائيليون في اكتسابه من تصعيدِ الحرب في لبنان، والذي قد يتضمّن محاولةَ غزوِ جنوب البلاد. لم تتغيَّر المُعادَلة بشكلٍ أساس منذ أشهر. ويبدو أنَّ إسرائيل لديها خياران رئيسان في التعامل مع لبنان: توسيعُ منطقةِ إطلاق النار الحرة على طول الحدود حتى لا يتمكّن “حزب الله” من شنِّ هجماتٍ عبر الحدود؛ أو احتلالُ أجزاءٍ من جنوب لبنان وإنشاءُ نسخةٍ أُخرى من الحزام الأمني الذي أنشأته إسرائيل قبل عقودٍ من الزمان، وهو ما يعني الاحتفاظ بقوّةِ احتلالٍ في الأراضي اللبنانية إلى أجلٍ غير مُسمّى.
لا يزالُ من غيرِ الواضحِ كيف يُمكنُ لأيٍّ من هذَين الخيارَين استعادة الاستقرار والأمن في شمال إسرائيل. ذلك أنَّ منطقة إطلاق النار الحرة بحُكمِ الأمرِ الواقع على طولِ الحدود اليوم لم تَحمِ إسرائيل. حتى لو دخلت القوات الإسرائيلية لبنان، فإنَّ “حزب الله” يستطيعُ أن يُطلِقَ النارَ فوق رؤوسها ويُسبّبَ الكثيرِ من الدمار في الشمال. وقد أكّدَ الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام ل”حزب الله”، على هذا في خطابٍ ألقاه يوم السبت الماضي، مُحذِّرًا من أنه إذا استفزّت إسرائيل حربًا واسعة النطاق، فإنَّ هذا من شأنه أن يؤدّي إلى “مئات الآلاف من النازحين [الإسرائيليين]” من الشمال. لا يُمكن ل”حزب الله” أن يسمحَ بعودة الإسرائيليين إذا حاول الجيش الإسرائيلي الدخول إلى لبنان، ويستطيع الحزب بسهولة أن يضربَ الشمال من وراء نهر الليطاني إذا حاولت إسرائيل دفعه إلى هذا الحد.
ربما وَجَدَ الإسرائيليون صيغةً سحرية لمُعالجة الموقف. لكن إذا كان الأمرُ كذلك، يبدو أنه لا يوجَدُ إجماعٌ حول هذا الأمر في مجلس الوزراء الإسرائيلي، وسط تقارير تُفيدُ بأنه لا يزالُ مُنقَسمًا بشأن عمليةٍ عسكرية في لبنان. والسؤال الآخر هو إلى أيِّ مدى يرغبُ الجانبان في التصعيد. تُفيدُ بعض المعلومات أنَّ هوكستين أخبر غالانت أنه لا يعتقد أنَّ عمليةً عسكرية إسرائيلية من شأنها أن تُعيدَ سكان الشمال إلى ديارهم، وأنه قلقٌ من أنها قد تؤدّي في الواقع إلى إشعالِ صراعٍ إقليمي. لكن هل النقطة الثانية صحيحة بالضرورة؟
من المؤكّد أنه من المُمكن أن يبدأ “حزب الله” وحلفاؤه ضربَ الأهداف المدنية والبنية الأساسية في إسرائيل إذا عبرت القوات الإسرائيلية إلى لبنان. ولكن إذا امتنعَ الإسرائيليون عن ضربِ المدن والبنية الأساسية اللبنانية، فمن المُمكن أيضًا أن يُفكّرَ “حزب الله” مرّتين قبل التصعيد الكبير إلى تلك المستويات، على الأقل على الفور، مُفضّلًا ترك الحرب على الأرض تُحدّدُ خياراته. لقد صوَّرَ الحزب تقليديًا قدرته على قصف المدن الإسرائيلية باعتبارها ردود فعل على قيام إسرائيل بذلك أوّلًا. وإذا كان “حزب الله” قادرًا على التسبب في خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجنود الإسرائيليين الذين يدخلون لبنان مع تجنُّبِ التصعيدِ إلى قصفِ المدن والبنية الأساسية في الدولة العبرية، فقد يكون هذا مُفَضَّلًا لأنه قد يتجنّب أيَّ ردِّ فعلٍ سلبي محلي ضد خيارات الحزب.
ومن الممكن أيضًا أن يكونَ الخطابُ العسكري الصادر عن إسرائيل هذه الأيام مجرّد المزيد مما رأيناه في الماضي، أي محاولة لزيادة نفوذها وضغطها النفسي على “حزب الله” حتى يوافقُ على تسويةٍ تفاوضية. وفي هذا الصدد، ربما يكون هوكستين قد سرّبَ محادثته مع غالانت إلى صحيفة “نيويورك تايمز” من أجلِ جَعلِ “حزب الله” أكثر تقبُّلًا لمقترحاته في المحادثات غير المباشرة التي يجريها. وإذا كانت التقارير الصحافية الإسرائيلية صحيحة بأنَّ العديدَ من الوزراء الإسرائيليين الرئيسيين، بمن فيهم رون ديرمر، وزير الشؤون الاستراتيجية وحليف نتنياهو، يُعارِضُ حملةً في الشمال، فقد يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي يستخدمُ مثل هذا التهديد لتوسيع هامش المناورة في أماكن أخرى.
لا شكَّ أنَّ عودةَ سكان الشمال لم تَكُن مُلحّة على الإطلاق في تموز (يوليو) الفائت، عندما أعلن وزير التعليم الإسرائيلي يوآف كيش أنَّ الطلاب من المجتمعات هناك سوف يعودون إلى الفصول الدراسية في المناطق التي نزحوا إليها. والواقع أنَّ غضبَ المجتمعات الشمالية أمرٌ لا بُدَّ أن يأخذه نتنياهو على محمل الجد، ولكن ليس أكثر من غضب مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين يلومون رئيس الوزراء على عدم اكتراثه بمصير رهائن إسرائيل في غزة. وكما تمكّنَ نتنياهو من مقاومة الأخير، فإنه سوف يقاوم أيضًا الأوّل إذا شعر بأن حربَ لبنان قد تُهدّد بقاءه السياسي.
قد يضحك كثيرون من مثل هذا الاستنتاج، نظرًا للتفوُّق العسكري الساحق الذي تتمتع به إسرائيل على “حزب الله”. والمشكلة هي أنه لا توجدُ نقاطُ نهايةٍ حقيقية في الحرب الإسرائيلية مع الحزب. في أيِّ مرحلة يستطيع نتنياهو أن يُعلن النصر؟ لا يوجد حتى الآن أي إعلان عن واحدة. وإذا نجحت القوات الإسرائيلية في التقدّم إلى داخل لبنان، فإنَّ كلَّ تلّةٍ أمامها سوف تُصبحُ موقعًا يمكن ل”حزب الله” أن يُطلقَ منه النار، وهو ما يُبرّرُ الاستيلاء على تلك التلة ودفع إسرائيل إلى عمق المستنقع. قد لا تكون إسرائيل راغبة في الانجرار إلى لبنان إلى ما لا نهاية، ولكن “حزب الله” قد يرى في هذا ميزة ــ وخصوصًا عندما لا يكون لدى القوات الإسرائيلية هدفٌ واضحٌ تعمل من أجله.
يُدركُ نتنياهو كل هذا، ولهذا السبب ربما يفكّرُ مرَّتين قبل الدخول إلى “عشّ الدبابير” في لبنان. ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي هو لاعبٌ بهلواني هائل ــ يُرضي حلفاءه اليمينيين المتطرّفين، ثم يرمي عظمة لأُسَر الرهائن، وهنا يقول بصوتٍ عالٍ لسكان شمال إسرائيل إنه لم ينساهم، وهناك يُرضي الأميركيين بعد اتخاذ تدابيرهم المتواضعة. ربما تكون حرب لبنان أحدث تلاعباته. ولكن من ناحية أخرى قد لا تكون كذلك. لكن، هناكَ أمرٌ واحدٌ مؤكّد: وهو أنَّ بنيامين نتنياهو لن يخوضَ حربًا قد تُكلّفهُ غاليًا، وبالتالي تُقوِّضُ بقاءه السياسي.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية (قبل تفجير “البايجر” ل”حزب الله”) وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.