رومَنسيَّة دولاكْرْوَى بين الشاعرية والإِباحية والشغَف (3 من 3)
هنري زغيب*
عن تاريخ الفن التشكيلي في القرن التاسع عشر أَنَّ الرسام الفرنسي أُوجين دولاكْرْوَى (1798-1863) هو الممثل الأَول للرومنسية في عصره. وهو حافظ على هذه النزعة طيلة حياته وعلى امتداد أَعماله جميعها. وبلغ من الشهرة، منذ هو في الأَربعين، أَن تتالت عليه طلبات الدولةُ رسميًّا بـوضع لوحاتٍ لوجوه ومناظر في الأَماكن العامة ومؤَسسات الدولة، منها على القماشة البيضاء، ومنها على الجدران والسقوف. وإِلى اللوحات، ترك محفورات وليتوغرافيات ومقالات كثيرة لعدد من المجلات في عصره، ودفتر مذكرات طُبِع بُعَيْد وفاته وأُعيد طبعه مرارًا. لفتَ إِليه المعنيين منذ “صالون باريس 1824” وانطلق ينتج أَعمالًا كبرى ذاتَ مواضيع تاريخية أَو أَدبية أَو وطنية عامة.
في الجُزءَين السابقَين عرضتُ عددًا من لوحات دولاكْرْوَى وما فيها من سماتٍ تجعله أَبرز الرومنسيين وممثل التيار التشكيلي الرومنسي في عصره. في هذا الجزء الثالث تتمة أَخيرة لتلك الأَعمال الخالدة.
الغرابة في لوحاته
الستة الأَشهر التي قضاها دولاكْرْوَى في أَفريقيا الشمالية خلال النصف الأَول من سنة 1832، تركَت أَثَرها البيِّن على لوحاته اللاحقة. وكما عدد كبير من الرسامين في القرن التاسع عشر، انسحر هناك بالأَزياء الشعبية المحلية والعادات والتقاليد والهندسة المعمارية والأَلوان في الطبيعة وفي جدران البيوت. كل ذلك كان جديدًا عليه وجاذبًا إِياه إِلى القلم والريشة. فأَفريقيا الشمالية كانت للرسامين الرومنسيين مثالًا غريبًا شدَّهم إِليها لما فيها من حضارة وطبَعية عفوية وشغف أَكثر ومدنية أَقل. صحيح أَن دولاكْرْوَى بالغ في خطوطه وأَلوانه عند نقل تلك الأَجواء، لكنه يَعتَبر أَنه نقل ما رآه كما رآه، وكما دوَّنه في دفتر مذكراته وملاحظاته، وفيها تفاصيل كثيرة ودقيقة عما عاينه في الشوارع وبين البيوت وداخلها، ما ظهر في لوحاته طيلة العشر السنوات اللاحقة.
وهو في لوحته “عرس في المغرب” (1839) رسم واقعًا عاينَه ونقلَه كما هو. وكان دعاه إِلى حضور العرس دليلُهُ ومترجِمُهُ، فرسم تمامًا ما كان دَوَّنَه كتابيًّا في دفتر ملاحظاته لتلك المناسبة. من هنا أَصاب في نقل الأَزياء والآلات الموسيقية والهندسة المعمارية في المنزل، مع ما شعر به من مزاج حين حضَر ذاك العرس، وعاين حر الشمس والجلوس في الظل ومتابعة الاحتفال المحلي التقليدي.
دولاكْرْوَى الإِباحيّ بضوابط
المواضيع الاستشراقية، كما في مشاهد أَفريقيا الشمالية، كانت جاذبةً أَيضًا رسامي القرن التاسع عشر، لما فيها من ملامح إِباحية وكان منافس دولاكْرْوَى الرسام الفرنسي جان أُوغست دومينيك إِنْغْر (1780-1867) اشتهر برسم الجواري في الحرَم، وحاول دولاكْرْوَى مقاربة تلك المشاهد. سوى أَن إِنغْر بقي متفوقًا بمهارته وبراعته وحذاقته في نقل تلك المشاهد التي تنضح منها إِباحية العري إِنما من دون تبذُّل. قارب دولاكْرْوَى تلك الإِباحية في بعض لوحاته مثل “نساء جزائريات في الحرَم” (1834) لكنه استعاض عن العري الكامل بتلميح ذكي في أَوضاع النساء وجلساتهنّ في الحرَم. وفي لوحته “جارية تستلقي على أَريكة” (1825) لم يستطع تجنُّب بعض العري الضروري لخلْق الجو العام، خصوصًا في وضعية استلقائها، وعينيها الزائغتين، وشفتيها المفتوحتين شهوةً، وما حولها من ظلال، ما أَوحى ببيئة كانت سائدة عصرئذٍ داخل الأَحرام في تلك المنطقة من الشرق.
أَبرز الرومنسيين إِطلاقًا
سنة 1827 عرض دولاكرى لوحته الشهيرة “موت ساردانابالوس” (آخر ملك أَشوري)، فكانت علامة تاريخية حدَّدَت الفن التشكيلي في القرن التاسع عشر. والموضوع متخيَّلٌ كليًّا، مستوحى من قصيدة اللورد باريون (1788-1824) “الأَمبراطور الأَشوري ساردانابالوس” آخر أَباطرة السلالة الأَشورية في نينوى، وهو أَمَرَ عند انهيار عرشه أَن يُعدَمَ كلُّ ما يملك من ممتلكات وأَحصنة ونساء إِبان إِحراق جثته. وعمد دولاكْرْوَى إِلى وضع لوحته الضخمة (نحو خمسة أَمتار) بشحنِها عددًا كبيرًا من الأَشخاص من دون تركيز على أَحد منهم بشكل خاص، حتى ليكاد ضجيج الإِعدام يُسمَع من اللوحة.
ومهما حاول النقاد إِيجاد علامة خاصة لدولاكْرْوَى في هذه اللوحة بشكل خاص، يبقى دولاكْرْوَى في جُلِّ أَعماله مدقِّقًا مدركًا ماذا يريد وكيف يريد، بكل ما في خطوطه وأَلوانه من عاطفة وانفعالات. فهو كان عالي الثقافة، يقرأُ كثيرًا، يكتب كثيرًا، ويترجم انفعالاته وأَحاسيسه بخطوط واضحة وأَلوان ساطعة على القماشة البيضاء في تأْليف تشكيلي بارع هو الذي، بكامل تلك العناصر، وَسَمَهُ أَكبر الرسامين الرومنسيين في عصره وفي كل عصر.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.