مُغالَطَةُ الابتكار: في سباقِ التكنولوجيا بين أميركا والصين، الانتشارُ أهمُّ من الاختِراع
تشيرُ الثوراتُ الصناعية السابقة إلى أنَّ النجاحَ الحقيقي في عَصرِ الذكاء الاصطناعي سوف يأتي إلى تلك البلدان التي تضعُ شعوبها وصناعاتها في أفضلِ وضعٍ لاحتضانِ التقنياتِ الجديدة ــ وليس مُجرّد اختراعها.
جيفري دينغ*
في تصريحاتٍ أدلى بها في العام 2018، سَلّطَ الزعيم الصيني شي جين بينغ الضوءَ على إمكاناتِ “الابتكار التكنولوجي التخريبي” لتغيير التاريخ. وأصرَّ شي على أنَّ تطوّراتٍ رئيسة أعادت تشكيلَ العالم. وسَرَدَ عن “المكننة” في الثورة الصناعية الأولى، و”الكهرباء” في الثورة الصناعية الثانية، و”المعلوماتية” في الثورة الصناعية الثالثة. وقال شي الآن إنَّ الاختراقاتَ في التقنيات المتطوّرة مثل الذكاء الاصطناعي جلبت العالم إلى أعتابِ الثورةِ الصناعية الرابعة. وأولئك الذين كانوا رواد التقنيات الجديدة سيكونون الفائزين في السنوات المقبلة.
في الأشهرِ التالية، شَرَحَ المُحلّلون والعلماء الصينيون خطابَ شي، وكشفوا عن العلاقة بين الاضطراب التكنولوجي والجغرافيا السياسية. وقد أوضح أحد التعليقات في منشورٍ رسمي للحزب الشيوعي الصيني عواقِبَ الثورات التكنولوجية الماضية: “اغتنمت بريطانيا فرصة الثورة الصناعية الأولى وأسّست ميزةً إنتاجيةً رائدة عالميًا… وبعد الثورة الصناعية الثانية، انتزعت الولايات المتحدة هيمنة بريطانيا على الإنتاجية المُتقدّمة”. في تحليله لتصريحات شي، زَعَمَ جين كانرونغ، وهو باحثٌ صيني مؤثّر في العلاقات الدولية، أنَّ الصين لديها فرصة أفضل من الولايات المتحدة للفوز في المنافسة عبر الثورة الصناعية الرابعة.
لكنَّ المُحلّلين الصينيين ليسوا وحدهم الذين يُفكّرون بهذه الطريقة بشأنِ الابتكارِ التكنولوجي والقوة. إذ يرى صنّاعُ السياسات في الولايات المتحدة أيضًا رابطًا حيويًا. ففي أول مؤتمر صحافي له بعد تولّيهِ منصبه، أكّدَ الرئيس جو بايدن على الحاجةِ إلى “امتلاكِ المستقبل” في ما يتصل بالمنافسة في التكنولوجيات الناشئة، وتعهّدَ بأنَّ هدفَ الصين في أن تُصبِحَ “الدولة الأكثر قوة في العالم” “لن يتحقّقَ في عهدي”. وفي العام 2018، أنشأ الكونغرس لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي، وهي الهيئة التي جمعت مسؤولين حكوميين وخبراءَ تكنولوجيا وعُلماءَ اجتماعٍ لدراسةِ آثار الذكاء الاصطناعي. وبمقارنةِ التأثير المُحتَمل للذكاء الاصطناعي بالابتكارات السابقة مثل الكهرباء، حذّرَ التقريرُ النهائي للجنة من أن الولايات المتحدة ستَفقُدُ قريبًا زعامتها التكنولوجية للصين إذا لم تستعِدّ بشكلٍ كافٍ لـ”ثورة الذكاء الاصطناعي”.
في هَوَسِهم بالفوز بالمستقبل، يُخاطِرُ القادةُ الصينيون والأميركيون بالتغاضي عن حقيقةٍ أساسيةٍ حول التكنولوجيا والتحوُّل. فهُم قلقون بشأن الهيمنة على الابتكارات التكنولوجية الحاسمة في الصناعات الجديدة السريعة النمو، مُعتَقدين أنَّ التوازُنَ العالمي للقوة الاقتصادية يميلُ نحو الدول التي تقود الابتكارات الأكثر أهمية. ومن هذا المنظور، أصبحت المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر الاقتصاد الأكثر إنتاجية في العالم لأنها كانت مَوطِنًا للتطوّرات الجديدة التي حوَّلت صناعة النسيج الناشئة فيها، مثل آلة الغزل.
لكنَّ الابتكارَ لا يُوصِلَكَ إلّا إلى حَدٍّ مُعَيَّن. فبدون التعهُّدِ الأكثر تواضُعًا بالانتشار –كيف تنتشرُ الابتكارات ويتمّ تبنِّيها– لن تكونَ حتى أكثر التطوُّرات غير العادية ذات أهمية. إنَّ قدرةَ أيِّ بلدٍ على تبنّي تكنولوجياتٍ على نطاقٍ واسعٍ تُشَكّلُ أهمّيةً خاصة بالنسبة إلى تكنولوجياتٍ مثل الكهرباء والذكاء الاصطناعي، وهي تطوراتٌ أساسية تُعزّزُ الإنتاجية فقط بعد أن تبدأ قطاعات اقتصادية عدة استخدامها. ويُشيرُ التركيزُ على انتشار التكنولوجيا إلى تفسيرٍ بديلٍ لكيفيةِ تغييرِ الثورات التكنولوجية للجغرافيا السياسية: لا يَهمُّ كثيرًا أيّ بلدٍ يُقدّمُ أوّلًا ابتكارًا كبيرًا، بل ما يَهمُّ أكثر هو أيّ بلدانٍ تتبنّى وتنشر هذه الابتكارات.
مَن تبنّى هذه الابتكارات بشكلٍ أفضل
غالبًا ما يُنظَرُ إلى صعودِ المملكة المتحدة في أعقاب الثورة الصناعية الأولى، التي استمرّت من العام 1780 إلى العام 1840 تقريبًا، باعتباره المثال الرئيس لكيفية قيادة الاختراقات التكنولوجية إلى التفوُّق الجيوسياسي. وتميلُ الروايات التقليدية إلى عَزوِ صعودِ البلاد إلى احتكارها للابتكار في المنسوجات القطنية وغيرها من القطاعات الرائدة. ووفقًا لهذا الرأي، نشأت الزعامة التكنولوجية البريطانية من القدرة المؤسّسية على رعاية المخترعين العباقرة.
لكن مع تحسُّنِ البيانات والمَنهَجيات، تحدّى المؤرّخون الاقتصاديون هذا السرد السائد. وهم يزعمون أن تبنّي الآلات الحديدية في مجموعةٍ واسعة من الأنشطة الاقتصادية أثبت أنه أكثر أهمية في صعودها الاقتصادي من الريادة في التقنيات الجديدة في مجال المنسوجات، على سبيل المثال. وعلى الرُغمِ من أنَّ مُنافسيها الصناعيين كانوا يتباهون بأنظمةٍ مُتفَوِّقة للتعليم التقني العالي لتدريب العلماء والمهندسين الخبراء، فقد استفادت المملكة المتحدة من معاهد المَكننة والمراكز التعليمية مثل كلية مانشستر للفنون والعلوم، وغيرها من المؤسسات التي وسّعت نطاق الوصول إلى الثقافة التقنية والمعرفة الميكانيكية التطبيقية لشريحة أوسع من المجتمع.
لقد ساعد انتشار التكنولوجيا أيضًا على تحديدِ كيفية استفادة البلدان من الثورة الصناعية الثانية، التي بدأت حوالي العام 1870 وانتهت حوالي العام 1914. وكانت الثورةُ الصناعية الثانية مدفوعةً بالاختراعات في مجال أدوات الآلات ــ الإنتاج الصناعي للأجزاء القابلة للتبديل. خلال هذه الفترة، لم تنتج الولايات المتحدة أكثر الآلات تطوورًا في العالم، لكنها تفوّقت على المملكة المتحدة في الإنتاجية من خلال تكييف أدوات الآلات في جميع فروع الصناعة تقريبًا. وفي العام 1907، كانت كثافة الآلات (التي تقيس قوة حصان الآلات المثبتة لكل عامل تصنيع) في الولايات المتحدة أكثر من ضعف نظيرتها في المملكة المتحدة وألمانيا. وكما حدث في المثال البريطاني السابق، لعب التعليم والسياسة العامة دورًا رئيسًا في تأمين الميزة الأميركية. كانت الولايات المتحدة تتمتّعُ بمجموعةٍ واسعةٍ من الخبرات في مجال الهندسة الميكانيكية، بدعمٍ من مدارس منح الأراضي، والمعاهد التقنية، وجهود التقييس في مجال صناعة البراغي ومكوّنات الآلات الأخرى. وقد عملت هذه المؤسسات على توسيع قاعدة الخبرة، وخلق المزيد من المهندسين الأكفاء وليس مجرد إنتاج نخبة تقنية ضيّقة. ولقد سادت ديناميكية مماثلة في مجال الهندسة الكيميائية، حيث ساعدت مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة على تنمية لغة مشتركة ومجتمع مهني من المهندسين الكيميائيين الذين يمكنهم المساعدة على تسريع الإنتاجية في مجموعة واسعة من الصناعات، بما في ذلك السيراميك، ومعالجة الأغذية، والزجاج، والمعادن، وتكرير البترول.
القوة الانتشارية
مَن سيقودُ الطريق في الثورة الصناعية الرابعة؟ في ظلِّ انشغالِ المُفكّرين وصنّاعِ السياسات في كلٍّ من الولايات المتحدة والصين باحتكارِ الابتكارات، يُرَكّزون بشكلٍ مُفرِطٍ على ثلاثِ نقاط: مدى سرعة تشكيل الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الناشئة لنمو الإنتاجية؛ أينَ تتمُّ ريادةُ التقدُّم الأساسي أوّلًا؛ والتوقُّع بأنَّ مجموعةً ضيِّقة من الصناعات ستقودُ النمو من خلال تسخيرِ التقنيات الجديدة. إنهم يهملون العامل الحاسم الحقيقي في هذه المنافسة: قدرة الدولة على نشر تقدُّم الذكاء الاصطناعي عبر مجموعةٍ واسعة من الصناعات، في عملية تدريجية من المرجح أن تستمر على مدى عقود من الزمن.
عندما تتمُّ إعادةُ صياغة المنافسة بين القوى العظمى على الذكاء الاصطناعي بهذه الطريقة، تبدو الولايات المتحدة في وَضعٍ جيد للحفاظ على تفوُّقها التكنولوجي. كانت الشركات الأميركية أسرع بكثير في تبنّي تقنيات المعلومات والاتصالات الأخرى، مثل الحوسبة السحابية، وأجهزة الاستشعار الذكية، والبرامج الصناعية الرئيسة. وفقًا لمؤشرٍ مؤثِّر واحد، تحتلُّ الصين المرتبة 83 في العالم من حيث الوصول إلى هذه التقنيات، مُتَخلّفةً عن الولايات المتحدة بـ67 مكانًا. عندما يتعلّقُ الأمر بالذكاء الاصطناعي، لا يوجد في الصين سوى 29 جامعة تُوظّفُ باحثًا واحدًا على الأقل نشر ورقة بحثية واحدة على الأقل في منشور مؤتمر رائد للذكاء الاصطناعي (وهو مقياس تقريبي لمدى قدرة الجامعة على تدريب مهندسي الذكاء الاصطناعي)؛ في حين تضم الولايات المتحدة 159 جامعة. كما بنت الولايات المتحدة روابط وثيقة بين الأوساط الأكاديمية والصناعة تساعد على نشر تقدُّم الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء الاقتصاد – أكثر بكثير مما فعلته الصين.
لكن بدلًا من الحفاظِ على مزاياها في نشر الذكاء الاصطناعي، تُركّزُ الولايات المتحدة على الهَيمَنة على دوراتِ الابتكار في القطاعات الرائدة. وينهمِكُ صنّاعُ السياسات الأميركيون في ضمان عدم تسرُّب الابتكارات المُتَطوّرة إلى الصين، سواء من خلال رفضِ مَنحِ تأشيراتٍ للطلّاب الصينيين الذين يودّون التخرُّجَ في المجالات التقنية المتقدمة أو من خلال فرض ضوابط التصدير على الرقائق المتطوّرة لتدريب النماذج الكبيرة. وقد أثبتت الثورات الصناعية السابقة أنه لا يمكن لأيِّ دولة واحدة أن تحتكرَ الابتكارات الأساسية، لذلك سيكون من غير الممكن للولايات المتحدة قطع الصين عن الذكاء الاصطناعي.
بدلًا من ذلك، ينبغي للولايات المتحدة أن تعطي الأولوية لتحسين واستدامة المُعدّل الذي يصبح به الذكاء الاصطناعي جُزءًا لا يتجزّأ من مجموعةٍ واسعةٍ من العمليات الإنتاجية. وينبغي لواشنطن أن تُركّزَ على السياسات المُوَجَّهة نحو توسيع مجموعة المواهب، مثل تزويد الكليات المُجتَمَعية بدَعمٍ أكبر لتدريب قوة عاملة مُتمرِّسة في مجال الذكاء الاصطناعي بشكلٍ أفضل وتنفيذِ مُبادرات القوى العاملة “CHIPS” و”Science Act” التي توسع التدريب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. والاستثمارات في مراكز التكنولوجيا التطبيقية، التي تسد الفجوة بين عمليات البحث الأساسية والاحتياجات الصناعية من خلال توفير خدمات الاختبار وإجراء البحث والتطوير التطبيقي؛ خدمات ميدانية متخصِّصة، مثل شراكة توسيع التصنيع، التي تستضيف مُتَخصّصين ذوي خبرة يساعدون الشركات على دمج التقنيات الجديدة وتنويع أسواقها؛ ومؤسسات أخرى لنشر التكنولوجيا، يمكن أن تشجع على اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي من قبل الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
للتوضيح، إنَّ فَهمَ أهمّية الانتشار لا يستبعدُ دعمَ الأبحاث المثيرة في المختبرات والجامعات الرائدة في أيِّ بلد. ومما لا شك فيه أنَّ زيادةَ الإنفاق على البحث والتطوير وتوفير مرافق أفضل لعلماء النخبة من شأنه أن يُساهِمَ بشكلٍ غير مباشر في انتشارِ استخدامِ الذكاء الاصطناعي على نطاقٍ أوسع. لكن في كثيرٍ من الأحيان، يُصبِحُ الإنفاقُ المُتزايد على البحث والتطوير بمثابةِ التوصية النمطية لأيِّ تقنيةٍ استراتيجية. ويتطلّبُ الذكاءُ الاصطناعي مجموعةَ أدواتٍ مختلفة.
عندما يُعلنُ بعضُ كبار المفكّرين في ذلك العصر أنَّ ثورة الذكاء الاصطناعي ستكون أكثر أهمية من الثورات الصناعية السابقة، فمن السهل أن ننجرفَ في حماسهم. وينتهي الأمر بالعديد من الناس في كلِّ جيلٍ إلى الاعتقاد بأنَّ حياتهم تتزامن مع فترةٍ مهمّة بشكلٍ فريد في التاريخ. لكن اللحظة الحالية قد لا تكون غير مسبوقة إلى هذا الحد. وتشير الثورات الصناعية السابقة إلى أنَّ النجاحَ الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي سوف يأتي إلى تلك البلدان التي تضعُ شعوبها وصناعاتها في أفضلِ وضعٍ لاحتضانِ التقنياتِ الجديدة ــ وليس مجرّد اختراعها.
- جيفري دينغ هو أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن ومؤلف كتاب “التكنولوجيا وصعود القوى العظمى: كيف يؤثر الانتشار في المنافسة الاقتصادية” (منشورات جامعة برينستون)، والذي تم اقتباس هذا المقال منه.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.