الصمتُ يسودُ بينما يَحبُسُ أهلُ بيروت أنفاسَهم

منى فوّاز*

عندما نشأتُ أثناء الحرب الأهلية في بيروت، في السبعينيات والثمانينيات الفائتة، تعلّمتُ بسرعةٍ أنَّ الصمتَ يُمكِنُ أن يأتيَ بأشكالٍ عديدة. والنسخةُ الأكثر شيوعًا التي اختبرناها آنذاك هي الهدوء النسبي، الذي غالبًا ما كان مصحوبًا بالقلق الذي نشعرُ به قبل المعركة التي يُمكنُ أن تندلِعَ في أيِّ لحظة، ولكن أيضًا بفُرصةِ التنفُّس والاطمئنان على أحبائنا بينما لا يزالُ ذلك مُمكنًا.

يُمكِنُ أن يكونَ الصمتُ أيضًا مُتَوتِّرًا، مُشيرًا إلى الاستعدادِ للجولةِ التالية من العنف. يُمكِنُ أن يكونَ مُخيفًا، كما عندما كان الجميع يختبئون في الملاجئ. يأتي الصمتُ قبل المعركة، ولكن أيضًا بعدها، كلحظةِ راحة. وكمُراهِقين، حاولنا أحيانًا إغراقَ الصمتِ في المنزلِ بالموسيقى الصاخبة من أجهزة الراديو – في محاولةٍ للتظاهُر بأنَّ الحربَ لم تَكُن مُستَعِرة.

في الأشهُرِ الأخيرة، تسرَّبَ الصمتُ مرةً أُخرى إلى الحياةِ اليومية لأولئك الذين يعيشون في بيروت، في شكل فتراتِ توقُّفٍ مؤقتة. إنها فتراتٌ نتوقف فيها لنُفكّرَ في كيفية الإجابة عن سؤالٍ عادي مثل “كيف حالك؟”. كما هناك فتراتُ توقُّفٍ أيضًا قبل اتخاذِ قرارٍ بأَخذِ أو تَركِ شيءٍ ما في السوبر ماركت، في ظلِّ فقدانِ القدرة الشرائية.

في الأسابيع الأخيرة، طلبت السفارات الأجنبية من رعاياها في لبنان الإجلاء، وألغت شركات الطيران الأوروبية رحلاتها، ما يعني أنَّ الصَمتَ امتدَّ أيضًا لتغطيةِ الحُزنِ عندما يُغادرُ الأحبة في وقتٍ مُبكِر أو يلغون رحلتهم السنوية إلى بيروت بسبب التهديد الوشيك بحربٍ أوسع نطاقًا.

في الأيام الأخيرة، يبدو الأمر وكأنَّ الصمتَ يغمُرُ بيروت، ويُغَطّي أحياءها بقماشٍ من الحذر والإرهاق. يسودُ الصمتُ بينما تزرع الطائرات الحربية الإسرائيلية الخوفَ بغاراتٍ وهميةٍ وتفجيراتٍ صوتية فوق المدينة.

لقد هدّدَ الساسة الإسرائيليون بتحويلِ بيروت إلى غزّة أُخرى. الصمت يُصبحُ أعلى عندما يكون السيد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله” على وشك التحدُّث، حيث يُتابعُ أتباعه وكارهوه على حدٍّ سواء عبر أجهزة التلفزيون ما سيقوله، على أمل أن تساعدهم كلماته على التنبؤ والتوقُّع بما ستجلبه الساعات أو الأيام المقبلة.

على الرُغمِ من هذا الصمتِ المُشتَرَك، لا توجدُ استراتيجياتٌ أو استجاباتٌ جماعية أو مُنَسَّقة لهذه التهديدات. إذا كانت انتفاضةُ الشعب اللبناني في العام 2019 وَعَدَت لفترةٍ وَجيزةٍ بانتماءٍ مُشتركٍ للأُمَّةِ المُنهَكة، فإنَّ الفشلَ في فَرضِ المُساءلة على النُخبِ الفاسدة التي استولت على الدولة منذ نهاية الحرب الأهلية قد أدّى إلى إضعافِ هذه التطلُّعات.

لقد انتهت الاحتجاجات والتعبئة إلى حدٍّ كبير، واقتصرت الجهود الرامية إلى تأمين المُساءلة ضد سرقة الثروة على أيدي البنوك التي تمَّ الوثوقُ بها لتأمين وضمان مُدَّخرات الناس مدى الحياة على بضعِ عملياتِ احتجازٍ فردية انتهت بمفاوضاتٍ معزولة. وقد تعزّزَ الشعورُ بالعجزِ على مدى السنوات الأربع الماضية منذُ انفجارِ مرفَإِ بيروت مع إعادةِ تشكيلِ القضاء والتدخّل السياسي فيه لضمانِ الإفلاتِ من العقاب والحماية للمُجرمين المُشتَبه بهم بدلًا من السعي إلى تحقيقِ العدالة.

نتيجةً لذلك، ينتظرُ سكان بيروت –صغارًا وكبارًا، لبنانيين، زوارًا أو لاجئين—إلى حدٍّ كبير جولةً أخرى من العنفِ من خلالِ ردودِ فعلٍ ارتجالية وقاعدية. إنهم يفعلون ذلك كعائلات، وأحيانًا كجيران، وربما كأصدقاء، ولكن ليس في أيِّ مكان من خلال عملٍ مُتضافِرٍ تحت إشرافِ وكالةٍ عامة مُختصّة.

أقولُ أنتَظِرُ، وليس أستَعِدُّ، لأنَّ معظم سكان بيروت لا يستطيعون فعل الكثير للاستعدادِ للحربِ التي وُعِدوا بها. لقد أدّى الإفلاسُ الوطني إلى أنَّ حتى الاحتياطات الأساسية، مثل تخزين الأطعمة المُعلَّبة، مُمكنة فقط للأقلّية. وبحسب تقييمٍ أجراه البنك الدولي أخيرًا، يعيش 80% من سكان لبنان تحت خط الفقر، وغالبية سكان المدن ليست لديها مُدَّخرات.

عندما يتعلّقُ الأمرُ بالوصولِ إلى الخدمات الأساسية، فإنَّ سكانَ بيروت يعتمدون إلى حدٍّ كبيرٍ على أنفسهم منذ سنواتٍ عدة؛ وأيُّ “خطةٍ بديلة” تمَّ وضعها لتأمين الاحتياجات الأساسية موجودة أصلًا. يتم تأمين المياه والكهرباء من خلال مُوَرِّدين غير رسميين، يشبهون المافيا، للأسر المتواضعة أو الثرية، من خلال التوليد المباشر على مستوى المبنى،، فيما وفّرت الشبكة الوطنية ما يصل إلى ثلاث ساعات من الطاقة يوميًا على مدى السنوات الأربع الماضية.

علاوةً على ذلك، فإنَّ حقيقةَ أنَّ الإسكانَ كانَ الأصلَ المالي الجوهري المُستَخدَم لجذبِ رأسِ المال الأجنبي في العقود الثلاثة الماضية يعني أنَّ أسعارَ العقارات أعلى بكثير من إمكانيات الجميع تقريبًا. تُقدِّرُ الأبحاثُ الصادرة عن “مختبر المُدن” في بيروت أنَّ أرخصَ الشقق في المدينة تُكلّفُ أكثر من 1,000 ضعف الحدِّ الأدنى للأجور قبل العام 2018؛ ووجدت مسوحاته أنَّ أكثرَ من 20 في المئة من شقق المدينة فارغة، ويحتفظُ بها المستثمرون الغائبون كأصلٍ مالي لتحقيقِ مكاسب مستقبلية.

في الحروب السابقة، كما حدث أثناء الهجوم الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، كانَ الناسُ الفارون من العنفِ قادرين على استئجارِ شققٍ مؤقتة في مناطق أُخرى من المدينة. لكنَّ الأمورَ أصبحت أكثر تعقيدًا هذه المرة، حيثُ لم يَعُد الناسُ أكثر فقرًا والشقق أكثر تكلفة فحسب، بل أصبحت الانقسامات الطائفية في المدينة أكثر وضوحًا. الواقع أنَّ مافيا أمراء الحرب والمصرفيين التي سيطرت على البلاد منذ العام 1990 ضاعفت من خطاباتها الطائفية الانقسامية والمُعادية للاجئين لتحويل الانتباه عن مسؤوليتها المباشرة عن إِحداثِ الإفقار المُتَكَشِّف.

إنَّ فشلَ الانتفاضة الشعبية يعكسُ تفكيكَ أشكالِ الحُكم العام المُشتركة. فقبل عقد من الزمان، كان المخططون لا يزالون يرسمون الخططَ لمُستقبلٍ مُشرِقٍ ومُوَحَّدٍ للعاصمة اللبنانية التي كانت مزدهرة سابقًا. لكن اليوم، فقد عَثّرت التأثيرات المتضافرة للأزمات المتداخلة، والتوترات والانقسامات المُرتَبطة بكلٍّ من هذه الأزمات، حتى مظهر حُكمِ المدينة.

إنَّ أعضاءَ مجلس بلدية بيروت، الذين مَزّقتهم الصراعات الداخلية بين الفصائل السياسية التي عيَّنتهم، لم يجتمعوا منذ شهور إن لم يكن لسنوات. وتشير إحدى المنشورات الخجولة على موقع فايسبوك إلى اجتماعٍ تحضيري في مكتب محافظ المدينة، لكنَّ الجميعَ يعلمون أنه لا توجدُ خططٌ للإخلاء أو خططٌ للاستجابة للطوارئ. وإذا اندلعت الحرب، فسوفَ يتمُّ تفويضُ الإغاثة إلى وكالاتٍ إنسانيةٍ دولية، وسوف يؤدي هذا إلى إضعافِ بُنيةِ الحُكمِ في الدولة والتضامُن المحلّي.

يُواجِهُ الناسُ في بيروت خطرَ الحربِ كأفرادٍ وعائلات، لكنهم لا يواجهونه على قدمِ المُساواة. الواقع أنَّ تصاعُدَ الصراعِ ليس سوى أحدث حلقةٍ في سلسلةٍ من الكوارث، التي أعادت كلٌّ منها تنظيمَ النسيجِ الاجتماعي والمكاني للمدينة إلى خليطٍ غير مُتماسِك من المباني والكتل.

خُذّ حيّ الحمرا حيث أعيش. تتقاسَمُ المباني السكنيةُ الراقية مُتعدِّدة الطوابق، التي لديها أنظمة مياه وكهرباء وأمن خاصة بها، الجدرانَ مع هياكل مُتهالِكة حيثُ يتقاسَمُ فيها السكان اللاجئون والأُسَر اللبنانية الأكثر فقرًا الشقق غالبًا. وخلال الصيف، لجأ كثيرون إلى النوم في الشوارع، والتي هي أقل ازدحامًا من الشقق المُكوَّنة من غرفةٍ واحدة التي يستأجرونها لعائلتين أو ثلاث أُسَر.

تتشبّثُ حفنةٌ من الأحياء بالحياة من خلال إغراقِ الصمتِ بالحياة الليلية النشطة حيثُ تُشيرُ الموسيقى الصاخبة من المطاعم والحانات إلى فراغِ الشقق السكنية فوق مستوى الشارع. وهذا هو الحال بشكلٍ خاص في المناطق المتضرّرة مباشرةً من انفجار المرفَإِ في العام 2020 حيث لا تزال كدمات الانفجار ظاهرة. وأصبحت أحياءٌ أخرى صامتة بشكلٍ مُخيف بعد غروب الشمس منذ انقطاع الكهرباء في العام 2020.

إنَّ الفوارقَ هي أكبر حتى على مستوى المدينة الكبرى إذا ما اعتبرنا الضاحية الجنوبية لبيروت جُزءًا لا يتجزّأ من المدينة. هنا تكون العلاقات مع جنوب لبنان أقوى حيث يعودُ معظم السكان بجذورهم إلى ذلك الجُزء من البلاد. كما كان الجنوب تقليديًا ملاذًا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بعيدًا من ضجيج المدينة وازدحامها، وخصوصًا في أشهر الصيف الحارة. لكن حتى قبل اندلاع الحرب، كانت تكاليف الوقود المُرتفعة سببًا في الحدّ من الهروب المُعتاد في عطلة نهاية الأسبوع.

لقد عانت هذه المنطقة من ضربتين إسرائيليتين منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لكن هناك سوابق. فقد أدّى موقع المقر العام ل”حزب الله” والارتباط القوي بين المنطقة والحزب إلى تدميرها بالكامل على أيدي القوات الإسرائيلية في العام 2006. ودُمِّرَ يومها أكثر من 20 ألف وحدة سكنية، لكنَّ حلفاءَ لبنان الإقليميين هبّوا في حينه للمساعدة وأصبح من الممكن إعادة إعمارها.

مع اقترابِ الحرب المقبلة، وباستثناء نسبة ضئيلة من السكان الذين تسمح لهم مواردهم المالية باستئجارِ شققٍ خارج المناطق المُستَهدَفة، قرّرت غالبيتهم ـ-على غرار أقاربهم في جنوب لبنان– “الموت في منازلهم” لأنهم لا يستطيعون تحمُّلَ تكاليف استئجار مسكنٍ في مكانٍ آخر. والواقع أنَّ القلقَ من الدمارِ المُحتَمل يتزايدُ بشكلٍ خاص لأنَّ الجميعَ يُشكّكون في وجودِ قدرٍ كافٍ من التضامُن الدولي لإعادة البناء في المرة المقبلة.

على الرُغمِ من هذه الاستجابة غير المُنَسَّقة للأزمة الوشيكة في مدينةٍ مُقَسَّمة، فإنَّ أغلبَ السكان يشتركون في مخاوف مماثلة؛ إذ يحبسُ أهلُ بيروت أنفاسهم في انسجامٍ تام. وقد يختلفون حول أفضل السُبل للمضي قُدُمًا، أو الاستراتيجيات التي يتعيّن عليهم تَبَنّيها، ولكن لا أحدَ يستعدُّ للحرب الآتية. إنَّ الحربَ هنا وبيروت تواجهها بمواقف مُنقَسِمة، لكنَّ هناك إدراكًا مُشتركًا مفاده أنَّ إسرائيل لا تُريدُ السلام. وما دام الغرب يدعم وحشية إسرائيل وطموحاتها ويزوّدها بالأسلحة، فلن يكونَ بوسع غالبيتنا إلّا أن نختبئَ ونَنتظرَ بقلقٍ، في صمتٍ، بدون حمايةٍ من الدولة، كما فعلنا مرات عديدة من قبل.

  • منى فواز هي أكاديمية لبنانية و أستاذة الدراسات والتخطيط الحضري في الجامعة الأميركية في بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى