ماذا يَحدُثُ في عالَمِ المال والأسواق العالمية؟
حيدر المجالي*
شهدت الأسواقُ المالية العالمية في الأسبوع الفائت حالةً من الاضطرابِ وعَدَمِ اليقين بسببِ المخاوف من حربٍ عالميةٍ ثالثة مُحتَمَلة والتضخُّمِ وارتفاعِ أسعار الفائدة، ما أدّى إلى عملياتِ بَيعٍ تاريخية نتجَت عنها انهياراتٌ مالية كبيرة ومؤلمة، حيثُ انخفضت أسواق الأسهم بأكثر من 10 في المئة بعد انتعاشِ قوي في فترات سابقة، وخصوصًا لأسهُم التكنولوجيا. وشهد العالم المالي أحداثًا عنيفة أثّرت سلبًا في أداءِ السوق، ما أسفرَ عن خسائر فادحة بتريليونات الدولارات ساهمت في تبخُّرِ أكثر من 3 تريليونات دولار من قيمة سوق الأسهم في بداية الأسبوع.
لقد ارتَفَعَ مؤشِّرُ الخوف والقلق إلى أعلى مستوى له في 4 سنوات، مُرتفعًا بأكثر من 120 في المئة عن الأسبوع الذي سبقه. وشهد مؤشر “نيكي 225” الياباني أكبر انخفاضٍ له، حيث خسر 620 مليار دولار من قيمته السوقية، وفقًا لتقارير “العربية بزنس”، بالإضافة إلى خسائر في أسهمٍ يابانية أخرى. وخسر مؤشر “MSCI” للأسواق الناشئة 504 مليارات دولار، في حين خَسِرَ مؤشر “Stoxx 600” الأوروبي أكثر من 300 مليار دولار. وفي الولايات المتحدة، ومع افتتاح الأسواق الأميركية على خسائر الأسبوع الماضي، اتسع نطاق الخسارة بشكلٍ كبير، ليتجاوز تريليونَي دولار. وانخفضت القيمة السوقية لأكبر 9,143 شركة حول العالم إلى 101.8 تريليون دولار، نزولًا من 103.8 تريليونات دولار. وأشارَ خبراءٌ ماليون إلى أنَّ هذه الخسائر هي الأكبر منذ جائحة “كوفيد-19”.
شهدت الأسواق المالية العالمية حالةً من الذعر وبيع عنيف للأسهم والعملات المشفرة بسبب تزايد المخاوف من عمليات تجارة الفائدة منذ الأسبوع الماضي، عقب رفع أسعار الفائدة في اليابان وارتفاع الين إلى 143 ينًا للدولار، إلى جانب بياناتٍ متواضعة عن التوظيف في الولايات المتحدة وقرار بنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك الأميركي المركزي) بالإبقاء على أسعار الفائدة بدون تغيير. وزادَ الضعفُ العام في الأداء الاقتصادي الأميركي من حدّةِ الذعر في السوق، حيث انخفض مؤشر “نيكاي 225” بنسبة 18.2 في المئة في يومَين و12.4 في المئة يوم الاثنين، مُسَجِّلًا أسوأ أداءٍ للسوق منذ العام 1987. بالإضافة إلى ذلك، خسرت الأسواق الأميركية 7 تريليونات دولار من قيمتها السوقية خلال الأسبوع الفائت، مع انخفاضاتٍ كبيرة في مؤشّرات وول ستريت: انخفضَ مؤشر “داو جونز” و”ستاندرد آند بورز 500″ بأكثر من 4.3 في المئة، و”ناسداك” بنسبة 6 في المئة. وشهدت العملات المشفّرة أيضًا انهيارًا كبيرًا، حيث تم تصفية أكثر من مليار دولار خلال 24 ساعة، وانخفضت القيمة السوقية لعملة البيتكوين بأكثر من 270 مليار دولار في يومٍ واحد.
إنَّ انهياراتَ الأسواق المالية التي شهدها العالم ليست غير مسبوقة. فقد حدثت نكساتٌ مالية ملحوظة منذ ما يقرب من مئة عام، بما في ذلك انهيار سوق الأوراق المالية في العام 1929 (الكساد الأعظم) مع انهيار بورصة نيويورك، ما أدّى إلى انكماشٍ اقتصادي حاد وطويل الأمد في الولايات المتحدة وأوروبا بسبب المضاربة المُفرِطة وعدمِ الاستقرار الاقتصادي، الأمر الذي أدى بدوره إلى تغييراتٍ جوهرية في السياسات الاقتصادية والمالية العالمية. كما تسبّبت أزمة الديون السيادية الأوروبية (2010-2012)، والتي بدأت بأزمة الديون اليونانية وامتدت إلى دول أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، في تقلّباتٍ كبيرة في أسواق الأسهم والسندات الأوروبية، ما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة البطالة. وبدأت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة (2007-2009) بانهيار سوق الرهن العقاري وانتشرت إلى الأسواق المالية العالمية، ما أدّى إلى انهيار مؤسّساتٍ مالية والتسبّب في أزمةٍ اقتصادية عالمية. وأخيرًا، بدأت فقاعة ال”دوت كوم” (2000-2001) مع انهيار أسهم التكنولوجيا والإنترنت بسبب المضاربة المفرطة والتقييمات المُبالَغ فيها، ما أدّى إلى خسائر كبيرة للمستثمرين وتباطؤ الاقتصاد.
وقد تأجّجت حالةُ الذعر المالي الراهنة بأسبابٍ اقتصادية وسياسية مختلفة، بما في ذلك التوتُّرات الجيوسياسية وتصاعُد الصراع مع إيران وروسيا والصين، وأزمة الشرق الأوسط التي زادت المخاوف من حربٍ واسعة النطاق مُحتَملة، والتوترات في أوروبا الشرقية، وزيادة النشاط العسكري. بالإضافة إلى ذلك، هناكَ المواجهة في المحيط الهادئ، والتي اتَّسَمت بزيادةِ الوجود العسكري، إلى جانب الضغوط الاقتصادية بسبب ضعف الاقتصاد الأميركي، وانخفاض عائدات السندات، وارتفاع التضخم، وركود الأجور وقضايا العقارات الأخيرة في الصين.
وبخصوصِ الاستراتيجيات للاستعداد لتقلُّبات السوق المستقبلية المُحتملة، فهي تشملُ التنويعَ والاستثمارَ في مجموعةٍ متنوِّعة من الأصول مثل الأسهم والسندات والعقارات والسلع؛ والحفاظ على السيولة الكافية للتعامل مع الانخفاضات المفاجئة؛ وإدارة المخاطر باستخدامِ أدواتِ التحوُّط المدروسة والمثبتة مثل عقود الخيارات والعقود الآجلة للحدِّ من التعرُّض في حالة انخفاض السوق؛ والتركيز على الاستثمارات طويلة الأجل والأصول عالية الجودة المُتَوَقَّع أن توفِّرَ عوائد جيدة في المدى الطويل بدلًا من المضاربة قصيرة الأجل؛ ومراقبة الاتجاهات الاقتصادية والسياسية للتنبؤ بالتقلبات المحتملة؛ وأخيرًا، التنوُّعُ الجغرافي من خلالِ الاستثمار في الأسواق والأصول في مناطق مختلفة.
أما بالنسبة إلى سياسات التحوُّط، فإنَّ المستثمرين يستخدمون عادةً أدواتٍ مختلفة للتحوُّط ضد مخاطر السوق، بما في ذلك الخيارات (التي تمنح المستثمرين الحق ولكن ليس الالتزام بشراء أو بيع أصل بسعر محدد في تاريخ مستقبلي)، وعقود المستقبل (اتفاقيات مُلزِمة لشراء أو بيع أصل بسعر محدد في تاريخ مستقبلي)، والمقايضات (اتفاقيات لتبادل التدفقات النقدية بين الأطراف بموجب شروط محددة)، والعقود الآجلة (اتفاقيات مُلزِمة لشراء أو بيع أصل بسعر محدد في تاريخ مستقبلي) والتنويع، مثل الاستثمار في مجموعةٍ متنوِّعة من الأصول من قطاعات مختلفة.
ولتجنُّبِ الأزمات المالية، هناكَ العديدُ من الأساليب التي تمَّ اختبارها واعتمادها دوليًا، بما في ذلك تعزيز الرقابة والتنظيم للقطاع المالي، وتنفيذ قوانين وقواعد أكثر صرامة وفعالية للتخفيف من المخاطر، وتعزيز الشفافية والإفصاح في الأسواق المالية، وتحسين قدرات الهيئات التنظيمية على الرصد والتحليل، وتطوير سياسات مالية ونقدية أكثر فعالية لمعالجة التقلبات الاقتصادية، وتعزيز الثقافة المالية والوعي بين المستثمرين، وزيادة التدريب والتعليم المالي للمستثمرين. بالإضافة إلى ذلك، تعزيز التعاون والتنسيق الدولي وتطوير أُطُر تنظيمية وإشرافية دولية متَّسقة لتسريع تبادل المعلومات بين الهيئات التنظيمية والتعاون لإيجاد حلول دولية للأزمات المالية عبر الحدود.
في الختام، ورُغم أنَّ أسواق الأسهم العالمية وصلت أخيرًا إلى مستوياتٍ مرتفعة، ما دفع المستثمرين إلى التحرُّك نحو أسواق السندات الآمنة مثل سندات الخزانة الأميركية لأجَلِ عشر سنين، وهو ما أدّى إلى تكهّنات كبيرة لتعديل الأسواق، إلّا أنَّ الكثير من هذه التكهنات كانت وهمية واعتمدت على عقودٍ مالية مختلفة مثل تجارة المناقلة والصفقات المستقبلية. وعلى الرُغم من هذا التسونامي المالي، فمن غير المرجح أن يتسبّبَ في ركودٍ اقتصادي أو يتطلّبَ تدخُّلًا طارئًا من بنك الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة. وتشير مؤشرات السوق إلى خفضٍ مُحتَملٍ لأسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في أيلول (سبتمبر)، وهو ما قد ينعش الأسواق المالية التي تحتاج إلى تصحيحٍ ولو تدريجًا.
- حيدر المجالي هو خبير اقتصادي ومالي أردني.