العِراقِيُّ الغامِضُ
قِراءَةٌ مُتَأَخِّرةٌ في عَقلِ صَدّام حسين
(13)
المُحَاصَرُ
سليمان الفرزلي*
ينتشرُ خبرُ غزو العراق للكويت. تَضُجُّ شعوبُ الخليج أمامَ هذا الواقع الجديد، الذي فَرَضَ تناسي ما بينها من حزازاتٍ، ومُناكفاتٍ، وتآمر بالخفية… فهي ما كانت يومًا، على رأيٍ واحد، تُظهِرُ للملأ ما لا تَضمُر، وبعضُها ليس بينه وبين آل الصباح مَوَدَّة.
الحادثُ الجلل هذا، جعل هذه الشعوب تطرحُ الصوتَ، تستجيرُ بالغريبِ البعيد، لرَدعِ الجارِ القريب!
تولّت مارغريت ثاتشر، سيدة بريطانيا الحديدية، الزمام. انقادَ إليها الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، فأرغمتهُ، منذ البداية، على ما لم يكن، في قرارة نفسه وحسب ما ذكر في ما بعد، يرغبُ به ويُريده… أرغمتهُ على الحرب.
في السادس من آب (أغسطس) سنة 1990، اليوم الرابع لغزو الكويت، التأمَ مجلس الأمن الدولي، وأصدرَ القرار 661 الذي قضى بفَرضِ عقوباتٍ اقتصاديةٍ خانقة على العراق، لإجبار صدّام حسين على سحب عسكره من الإمارة الصباحية.
القرارُ كان قاسيًا، جائرًا، ظالِمًا، سَيِّئَ النيَّةَ، غايتهُ تجويعُ شعبٍ بأكمله، لتجريدِ شخصٍ واحدٍ من سلطته!
ثلاثُ عشرة سنة رزحَ العراقيون تحت نيرِ وضَيمِ الحصار، (رُفِعَ الحصار وأُلغي القرار 661 في 22/5/2003 بعد غزو الأميركيين، ومن حالفهم وتآلف معهم، لبلاد الرافدين الذي بدأ في 9/4/2003)، الذي لامَسَ حدودَ الإبادةِ المُمَنهَجة… يَتَّضِحُ ذلك جليًّا من مراجعةِ القراراتِ الدولية بشأنِ العقوبات الاقتصادية. فمنذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة، بعدما وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها سنة 1945، كانت العقوبات التي تُفرَضُ على الدول، في المنازعات المختلفة، تستثني الغذاء والدواء والحاجات الأساسية للسكّان… إلّا في الحالة العراقية، حيث شمل القرار 661 الحظر على المواد الغذائية والأدوية والحاجات الأساسية والضرورية.
صدّام حسين المُحاَصَر، ظلَّ يُعانِدُ ويُكابِرُ ويسعى إلى اختراقِ الحصار بكلِّ ما أوتي وما كانَ في مُتناوَلِ يديه، فأطلقت تلك المرحلة الصعبة والقاسية أحسنَ ما في صدّام حسين، واسوأَ ما فيه أيضًا، على قولة أبي نواس:” خَيرُ هذا بشَرِّ ذا”!
***
بعدَ رُبعِ قرنٍ على “غزوة” دولة الكويت واحتلالها، لمَّا تزل أسبابها غيرَ جَليَّة، فالجدليةُ السائدة في سردية الاحتلال، طمستها وغطّتها “المظلومية الكويتية”، فكانَ من الطبيعي أن يفشلَ صدّام حسين في إقناع عالمٍ أصَمٍّ ومُصمِّمٍ، بأنَّ العراق هو “المظلوم” وليس “الظالم”… لذلك، لم يعدم وسيلةً في كسرِ طوقِ الحصارِ الخانقِ على البلاد والعباد، إلّاَ لجأ إليها وانتهجها.
مدَّ اليد إلى “المُهَرِّبين” عبر الحدود، من كلِّ جانب، لتزويد البلاد المُحاصَرة بالمواد الغذائية الضرورية، والحصول على الأدوية، التي قضى شِحُّها على الآلاف من الأطفال، والنساء، والمعوّقين، والعجزة، والمُسنّين.
وقد وَجَدَ صدّام حسين أنَّ ميناءَ العقبة الأردني، على البحر الأحمر، المنفذُ الوحيدُ المُتاح أمامه، فكانَ التفاهُم مع العاهل الأردني آنذاك الحسين بن طلال على تصديرِ كمّياتٍ من النفط الى عَمَّان بأسعارٍ تفضيليّة، لقاء فتح الحدود البرية، لإدخال البضائع المستوردة. وفي الوقت ذاته، على الرُغمِ من الخصومة بين “البَعثَين” الحاكِمَين في بغداد ودمشق، غضَّت السلطات السورية الطرف عن دخولِ البضائع إلى العراق عبر معبر “التنف”.
في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تأمّنَ لصدام حسين خطَّ إمدادٍ إضافي مهم في شمال العراق، فقد قامت قوات الزعيم الكردي الكاكا جلال الطالباني، بدعمِ ومؤازرة إيران، باحتلال المنطقة العائدة الى خصمه التاريخي مسعود البارزاني، ومنها عاصمته “أربيل”، فاستجار البارزاني بصدام حسين، الذي أنجده على الفور بقوة ضاربة من “الحرس الجمهوري”، قوامها نحو 30 ألف جندي، أعادت له ما انتُزِعَ منه.
كسبَ صدّام حسين في تلك الحملة المفاجئة فوائد ومنافع أخرى لها أهمّية سياسية قصوى. فقد أجهزت قواته، التي أوفدها لنجدة البارزاني في شمال العراق، على مكاتب “وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية”، وكذلك على أعدادٍ من رجال المعارضة العراقية، الذين اتخذوا من المناطق الكردية، المُنفَصِلة وقتذاك عن بغداد، مراكز لنشاطاتهم السياسية المُعادية للنظام في الداخل.
***
منذُ أسابيع الحصار الأولى، قامَ صدام حسين، خِفيةً، بتدمير ترسانة ” أسلحة الدمار الشامل” تدميرًا كاملًا، من غير أن يُعلِنَ عن ذلك، أو يتركَ وراءه سجلّات وقيودًا تدلُّ على وجود مثل تلك الأسلحة في الأصل، أو أنه أزالها ودمّرها… وظلَّ الأمرُ محصورًا في قلة قليلة من المسؤولين العسكريين، الذين ضربوا بدورهم حول ذاك التصرف طوقًا من التكتُّم.
لقد افتَرَضَ صدّام حسين أنَّ أجهزة الاستخبارات الدولية، وفي مقدمها ” وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية”، تعرفُ ما يجري داخل العراق، والأجهزة الدولية، بدورها، افترضت أنه يُخفي تلك الأسلحة وما زال يُطوِّرُها في السر. وما رسَّخَ هذا “الافتراض”، حرصُ الرئيس العراقي خلال سنوات الحصار الطويلة والمريرة، الظهور بمظهر “القوي”، الواثق والمُتمَكِّن من قدراته العسكرية، فلبس وجه “لاعب البوكر”، الذي لا تُفَسَّرُ ملامحه، ولا يُعرَفُ إنْ كان يُخادِعُ أم لا. وهذا التشبيه، هو لمسؤولٍ عراقي، من الصفوة المقرَّبة من صدام حسين، ذكره لصحافي لبناني زاره خلال الحصار.
والحقيقةُ أنَّ صدام حسين المُحاصَر كان يخشى أن يبدو ضعيفًا “فتنهشه الكلاب”، كما قال صديق عراقي، التقيته في لندن سنة 1998، فكتبتُ، من فحوى ما دار بيننا، في جريدة “الميزان”، التي أصدرتها في لندن مع مجموعةٍ من زملاءِ المهنة، وترأستُ تحريرها، مقالًا عنوانه “أبو المعارك”، ها هنا مقطعٌ منه:
“مما لا شك فيه، أنَّ الرئيس العراقي تستهويه المعارك الكبرى، ويُقبِلُ عليها غير هيَّاب، مهما كانت النتائج. فهو، من هذه الناحية، يمكن وصفه بأنه “أبو المعارك”، لأنَّ عينه دائمًا على التاريخ، بصرفِ النظر عن دروسِهِ وعِبَرهِ، ولا فرقَ عنده، في ذلك، بين المعارك الكبرى الطاحنة، وبين التشييد والعمران. إنه يبغي، كما يبدو، أن يتركَ خلفه معالم لا تُمحى، لا من الأعيان، ولا من الأذهان”. (“الميزان”، بروفيل “أبو المعارك”، المجلد الثالث، العدد السابع، الصفحة 16، تموز/يوليو 1996).
ما يؤكّدُ كلامي هذا، حديثٌ كان لي مع “السيّد الرئيس”، قبل سنوات عشر من غزوه الكويت، إذ قال: “أليس الذين شيَّدوا هذه الحضارات العظيمة في بلادنا من العراقيين مثلنا؟ فإذا كان العراقيون القدماء قد فعلوا ذلك، فإن بمقدور العراقيين الآن، أن يفعلوا مثله وأحسن منه”.
إنَّ المُراجعة المُتَأنّية لمسار التطوُّر الذي شهده العراق خلال فترة وجود صدام حسين في موقعٍ مُتقَدِّمٍ في السلطة، ثم في فترة رئاسته، تُبَيِّنُ مدى التطوُّر النوعي في مراحل، وأساليب الإنتاج التي نقلت العراق من مدارٍ مُتَخَلِّف، الى مدارٍ أرفعَ شأنًا وقدرًا، إنْ في الصناعة، أو الزراعة، في الإدارة، أو في الثقافة والتعليم…
وكان واضحًا لكلِّ ذي عقلٍ، أنَّ المسارَ الإنمائي المُتصاعِد، والمُنجَزات التي حقّقها النظام البعثي، كانت من الأهداف الأساسية في المخططات التي تَوافَقَ عليها المعتدون بعساكرهم على العراق سنة 2003، لتدميره، واستكمال احتلاله وإذلاله.
كانَ صدّام حسين، في وجهه التقدّمي، يشعرُ ويُفَكِّرُ، ويُصَدِّقُ شعورَه وتفكيرَه، بأنه يكتب التاريخ بصُنعِ التاريخ. فكأنهُ انتدبَ نفسه لاستئناف المسيرة الحضارية القديمة للعراق، من حيث بلغتها في الدولة العباسية، أو ربما في الدولة البابلية!
منذُ تأميم النفط، في الأول من حزيران (يونيو) 1972، بلغت المداخيل النفطية الواردة إلى الخزانة العامة في بغداد أرقامًا غير مسبوقة، وترافق ذلك مع “اتفاقية الحكم الذاتي لكردستان العراق”، ثم إنهاء التمرُّد الكردي بالاتفاق مع شاه إيران، بحيث أنَّ تلك الفترة من السلم الداخلي، المدعومة بتفاهُمٍ مع “الجار الإيراني”، على قِصَرِ المدة الزمنية لدوامه، شكّلت مُنطَلقًا لواقعٍ جديد، اقتُلِعَ قبل تجذُّره.
بسحرِ ساحر، انقلبَ الفائضُ الطافحُ في الموارد إلى شحٍّ فاضح، فتقلّصت أموال الاستثمار، وارتفعت المديونية، وتفاقمت خدمتها. وقد ظهر سنة 1993، أي بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب مع إيران، وثلاث سنوات من حرب الكويت، أنَّ الديونَ المُترتّبة على العراق بلغت 101 مليار دولار، مُقسَّمة على النحوِ التالي:
- 35 مليار للدول الغربية (أميركا وأوروبا الغربية)؛
- 40 مليار دولار للدول العربية (دول مجلس التعاون الخليجي)؛
- 11 مليار دولار للكتلة الشرقية (الاتحاد السوفياتي السابق، وكتلته في أوروبا الشرقية)؛
- 15 مليار دولار لخدمة تلك الديون (فوائد متراكمة وجارية على مجمل تلك الديون).
لذلك، ليسَ من المُستَغرَب أن يكونَ ردُّ فعلِ صدّام حسين، على “حشر” الكويت له بمطالبته بسداد ديونه، في ذات الوقت الذي عُمِدَ إلى خفضِ أسعار النفط إلى أدنى مستوى هبطت إليه منذُ سنوات، على نحوِ ما حدث.
***
إنَّ الظروفَ الصعبة، والقاسية، التي كان يمرُّ بها، لم توقف صدام حسين عن المناورات السياسية، كما فعل في توسعة مجاله لكسر الحصار الجائر، سواء في الجوار الإقليمي، أم في قرع طبولِ الحربِ من جديد. فحرَّكَ قواتٌ من الجيش العراقي باتجاه الكويت مرَّةً أخرى، وكأنه “يمازح” الأميركيين ووكلاءهم الكويتيين، بأنَّ أنيابه ما زالت حادَّةً وجارحة، لمجرَّد أن يُكشِّرَ عنها!
لكن المناورة الأهم، تلك التي استهدفَ بها المملكة العربية السعودية، مُعبِّرًا عن امتعاضه من “تراجع” الملك فهد عن التفاهُم معه قبل غزوة الكويت، ثم سماح العاهل السعودي للقوات الأميركية وحلفائها، بالتجمُّعِ في مملكته للانقضاض عليه بعدها، إلى جانب تضايُقِهِ من السياسةِ النفطية، التي انتهجتها السعودية خلال الحصار الدولي، الرافضة للحدِّ من الإنتاج النفطي، بغية رفع أسعاره المُتدنّية، على الرُغم من انقطاع النفط العراقي. فقد رأى صدام حسين أنَّ التصرُّفَ السعودي هو المُسَبِّبُ في إصرارِ الأميركيين على إبقاء الحظر على النفط العراقي.
السعوديون، من جهتهم، برَّروا سياستهم تلك، بحجَّةِ أن المحافظة على حصّتهم في أسواق النفط، أهم من رفع الأسعار، فاعتبرتها القيادة العراقية “حجّةً مُفتعلة”، وأن السعوديين يعملون على إطالة أمد الحظر والحصار، لأن عودة العراق إلى الأسواق العالمية تُشكّلُ مأزقًا لهم!
بعد سماح الأمم المتحدة للحكومة العراقية، ببيع كميات محدَّدة من النفط، بموجب قرار مجلس الأمن 986 سنة 1995، وسُمِّي وقتها “برنامج النفط مقابل الغذاء”، وَسَّعَ صدام حسين من هامش المناورة المتاح له، ببيع كميات إضافية من النفط في “السوق السوداء”، وتقديم “كوبونات” بكميات قليلة إلى الدول الفقيرة الصديقة للعراق، وإلى شخصياتٍ سياسية وإعلامية مُتعاطِفة معه.
***
في أواسط تسعينيات القرن الماضي، رَوَّجَ الأميركيون أنهم يتخوَّفون من اندلاعِ “حربٍ خليجية ثالثة”، وهذه المرة، بين العراق والسعودية، (في جريدة “الميزان”، نشرنا وقتذاك، رسماً كاريكاتوريًا بريشة الفنان المبدع الراحل، علي عثمان، الذي سار ذكره برسوماته على صفحاتها كل مسار، وصف فيه تلك المنازلة الوهمية بين صدام حسين والملك فهد، بأنها بين “السيف المثلوم والكيس المفخوت”) (“الميزان”، المجلد الثاني، العدد 7، نيسان/ أبريل 1995، بعنوان: “حرب الخليج الثالثة بين العراق والسعودية”).
كانت تلك “مناورة صوتية” أطلقها الأميركيون لترسيخِ تحكُّمهم بالسوق النفطية العالمية، وكان الرأي السائد في التحليلات السياسية لتلك الفترة، يشيرُ إلى أنَّ تلك التوقُّعات مَرَدُّها إلى رغبةِ واشنطن في استمرارِ الحظرِ والحصار على العراق. وقد أبلغني الزميل الراحل سعيد أبو الريش (واضع كتاب “صدّام حسين: سياسة الانتقام”)، نقلًا عن الصحافي الأميركي جيم هوغلاند (الكاتب والمحلل السياسي في جريدة “واشنطن بوست”)، أنَّ خلاصةَ الموقف الأميركي: “تقليل قابلية العراق لاستعادة قدراته القتالية في وقتٍ قريب، وإفساح الوقت الكافي للسعودية لبناء أكبر قدر ممكن من القابلية العسكرية”، (أي إرغام الرياض على تزويد ترسانتها بالسلاح الأميركي)!
وقد سبق لجيم هوغلاند أن كتبَ سنة 1994 مقالًا مُلفِتًا في “واشنطن بوست” ما مفاده: “إنَّ على الأميركيين، في يومٍ من الأيام، أن يُقيموا تمثالًا لصدام حسين، تقديرًا لكلِّ ما فعله، الأمر الذي عزَّز الدور الأميركي في العالم”!
***
إنَّ برنامجَ “النفط مقابل الغذاء”، ما زال يستدعي إعادةَ البحثِ فيه من الناحية “الجرمية”، فهو يُشَكّلُ دليلًا قاطعًا على” النيَّات الجرمية” وراء الدفع الأميركي للمنظمة الدولية لإحكامِ الحصار ضد العراق، ويُشكِّلُ أيضًا اعترافًا صريحًا بأنَّ الحصارَ الدولي، كان فعل “إبادة جماعية”…
تنبَّهَ الأميركيون إلى ذلك، وتعجّلوا في طرحِ، وإقرارِ، فكرة أن يُباعَ مقدارٌ من النفط العراقي، بإشراف الأمم المتحدة، يكفي ليُشرى بثمنه الغذاء، للتخفيف من تفاقم المجاعة في بلد يحتضن اثنين من أكبر الأحواض المائية في العالم: دجلة والفرات… وبعدما حصد الموت آلاف العراقيين.
إلّا أنَّ برنامج “النفط مقابل الغذاء”، أوجدَ بؤرًا للفساد لم تكن منظورة. وقد لَفَتُّ النظرَ إليها، سنة 2000، فكتبتُ في مجلة “الحدث”، (كان يصدرها في باريس، ويرأس تحريرها الزميل الراحل قصي صالح الدرويش)، نقلًا عن رجال أعمال، لهم مكانتهم التجارية، بأنَّ عمليات “النفط مقابل الغذاء” تشوبها الرشاوى والتنفيعات. وبعد صدور المقال، بعثت الأمم المتحدة بكتاب رسمي إلى رئيس التحرير، تُدافِعُ فيه عن سمعة موظفيها، بالقول إنَّ عملهم يجري “بكلِّ أمانة وشفافية”، وطلبت نشر هذا التوضيح في العدد التالي من المجلة، وهكذا كان.
بعد أسابيع قليلة، من رَدِّ الأمم المتحدة هذا، انتشرت على نطاقٍ واسعٍ أخبارُ الفساد في صفقات النفط مقابل الغذاء، بحيث اضطرّت المنظمة الدولية إلى فتحِ تحقيقٍ رسمي كُلف برئاسته، بول فولكر، الحاكم السابق لبنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي). وقد أدين بعض موظفي الأمم المتحدة بجني أموالٍ غير مشروعة من خلال عملهم في برنامج “النفط مقابل الغذاء”. لكنني ما زلتُ إلى اليوم، أعتقدُ بأنَّ التحقيقَ الذي أجراه بول فولكر كان هامشيًا وسطحيًا، مُكتفيًا بإدانةِ الصغار لحمايةِ الكبار!
ويَذكُرُ الذين عايشوا تلك الفترة، من وجهةِ الحرصِ على الأمانة والعدالة، كيف كان رجل الاعمال كوجو أنان، نجل كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة في حينه، يستغلُّ سلطة أبيه في تمرير الصفقات التجارية من خلال برنامج الأمم المتحدة بشأن العراق.
***
دَخَلَ بيل كلينتون، سنة 1993، المكتب البيضاوي في “البيت الأبيض”، ومعه ملف الأزمة الخليجية، فانتَهَجَ، حيال العراق وإيران، سياسةً مُلتَبِسة، فحواها “تجميد الوضع” في البلدين، على ما رسا عليه عند مجيئه إلى الحكم، فأطلق أنطوني لايك، مستشاره للأمن القومي، ما سمَّاه، “سياسة الاحتواء المُزدَوِج للعراق وإيران”.
قضت تلك السياسة بالاستمرار في محاصرة البلدين، ليس بالحرب المُعلَنة، كما فعل جورج بوش الأب، ومن بعده ابنه، بل في إطار “اللاحرب واللاسلم”، بغية إضعاف كلٍّ من العراق وإيران، وتهميشهما، ومنعهما من التلاقي، كما حدث بين صدام حسين والشاه محمد رضا بهلوي في العام 1975.
لكن فريقًا وازنًا في الولايات المتحدة، منه “المحافظون الجدد” في” الحزب الجمهوري”، وبعض الأوساط الصناعية في “الحزب الديموقراطي”، زِد عليه “اللوبي الصهيوني”، كان يرى أنَّ سياسةَ “الاحتواء المزدوج”، لا تقف على ساقَين، وهي بعيدة من منطقِ الأمور، فإذا كانت الغاية المنشودة هي “إزاحة صدام حسين”، فإنَّ الحوارَ مع إيران شرطٌ لازمٌ!
هذا هو الأساس الذي قامت عليه تاليًا مفاوضات أميركا والدول الغربية مع إيران وأدّت إلى “الاتفاق النووي”، الذي عاد دونالد ترامب خلال رئاسته (2017–2021) فانسحب منه، وأوقف العمل به.
لكن بيل كلينتون، عندما كان ينوءُ تحت ثقلِ الضغوطِ التي تُمارَس عليه، من أجلِ تعجيلِ بلوغِ الهدفِ المطلوبِ بإزاحة صدّام حسين، كان بين الحين والآخر، يرشق العراق برشقةٍ من” صواريخ كروز”!
***
لقد أدَّى هبوطُ أسعار النفط، في مطالع سنة 1996، إلى تفاقُمِ الأزمة الاقتصادية في السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، فقرّرت دوائر التخطيط الجيو- سياسي في واشنطن، أن ترفعَ الأسعارَ بصورةٍ مُفتَعَلة لنجدةِ الرياض، بالدرجة الأولى، على الرُغم من مُعارَضةِ الصناعيين والمُستَهلِكين الأميركيين لهذه الخطوة. لكنَّ الأساسَ الذي قام عليه قرار استمرار الحظر والحصار على العراق، بقي ساري المفعول بتعليله الأصلي، وهو أنَّ عودةَ العراق إلى أسواق النفط تشكّلُ مأزقًا للسعودية.
والحقيقة أنَّ “المأزقَ السعودي”، ليس مردُّهُ إلى هبوط أسعار النفط وعائداته فحسب، إنَّما بسببِ عدم قدرةِ الرياض على تَحمُّلِ ما يترتّب عليها بفعل “ضعف” العراق. وكان أن اختصرَ أحدُ المُحَلِّلين تلك الحالة، بأنها “عراقٌ ضعيفٌ عبءٌ سعوديٌّ”!
إنه لا بدَّ من فَهمِ المغزى العميق للقرار الأميركي الذي أخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الخليجية، من أجلِ فَهمِ ما جرى في ما بعد خلال رئاسة جورج بوش الإبن، وما انتهى إليه إلى احتلالِ العراق، وإطاحة نظام صدام حسين. وأيضًا، لفَهمِ تطور المقولة السائدة قبل ارتفاع الأسعار، من أنَّ “العراقُ الضعيفُ عبءٌ سعودي، والعراقُ القويُّ همٌّ إيراني”، بحيث أنَّ “الجمهورية الإسلامية ” في طهران، خلال تلك المرحلة، طالبت بالسماح للعراق باستئناف تصدير الكميات المُقرَّرة من النفط سابقًا، فيما الأسعار على ارتفاع، حتى لا يؤدّي نزول كامل إنتاج النفط العراقي الى الأسواق في وقتٍ لاحق إلى خلخلةٍ فيها وفي الأسعار.
فالحجّةُ الظاهرة، أو المُعلَنة، هي أنَّ رفعَ أسعار النفط في حينه يُخفِّف من الضائقة المالية في دول الخليج المُنتِجة للنفط، ومن التململ والاحتقان السياسي والشعبي فيها، مما يُهدّدُ أمن واستقرار تلك المنطقة، وينعكسُ ذلك سلبًا على كلِّ دولِ العالم، وخصوصًا على أميركا وحلفائها الأوروبيين.
تلك الحجّة كانت مُطَمئِنةً للخليجيين، لكنها لم تكن مُقنِعة للصناعيين وللمستهلكين في الغرب، الذين ارتفعت فواتير استهلاكهم للطاقة بصورةٍ غير مفهومة وغير مُتَوَقَّعة.
لكن الأهم من ذلك، أنه يفسر “جدلية النفط والسلاح”، من زاويةِ تَجاوُزِها لانعكاساتٍ سلبية على الأوضاع الاقتصادية والسياسية للدول الصناعية (وتحديدًا تلك المُصَنِّعة للأسلحة).
إنَّ الحجّة الأميركية المطروحة داخليًا أمام الفئات المُعتَرضة على تلك السياسة، تُفيدُ بأنهُ بوجودِ أموالٍ فائضة في بيوت مال الحكومات الخليجية، (نتيجة الارتفاع المُفتَعَل في أسعار النفط)، يجعلها قادرة على رصد ميزانياتٍ لشراء المزيد من الأسلحة، مما يعفي حكومات الدول الصانعة للسلاح في الغرب من تسريح عشرات الآلاف من العاملين في مصانعها، والحدّ من تفاقُم البطالة.
على أنَّ حجّةَ الإقناع الحقيقية، أفدح من هذا التعليل. فقد اعتبرت الإدارة الأميركية، أن ما يدفعه المستهلكون الأميركيون من زيادة في أسعار النفط، يجب أن ينظروا إليه باعتباره دعمًا غير مباشر لصناعة السلاح المُتْعَبَة بعد انتهاء الحرب الباردة مع الكتلة السوفياتية. فهي، بالتالي، تَعتبرُ بصريح العبارة، أن على عاتق المواطن الاميركي، الأكثر استهلاكًا للطاقة في العالم، يقع تمويل صناعة السلاح!
بذلك، سمحت الإدارة الأميركية لنفسها أن تقرر تلك الزيادة، من غير سؤال أو جواب، شاء المواطن الاميركي أم أبى!
فكم يتشابه هذا التصرّف الأميركي، بطريقة صدام حسين العشائرية الفظّة، في إقحام العشيرة كلها بتنفيذ أحكام الإعدام البغيضة، (كما مرَّ معنا)، لتعميم الذنب فينزاح العبء عن كاهل المسؤول الحقيقي!
***
لعلَّ من أبرزِ التناقُضات التي لازمت صدّام المُحاصَر جنوحه إلى العنف الشديد في التعامُلِ مع مُعارضيه، كما حدث أثناء الانتفاضة الشيعية ضده في أعقاب حرب الكويت، (وربما بغضِّ نظرٍ من القوات الأميركية الموجودة هناك، حيث سمح له الأميركيون استخدام طائرات الهليكوبتر ضدّ المُنتَفضين عليه في الجنوب). وكذلك القسوة الدامية في تعامله مع أقاربه وأهل عشيرته، كما حدث في حالة قتل مدير الاستخبارات السابق الدكتور فاضل البراك، في مطالع التسعينيات، أو في حادثة قتل صهريه حسين وصدّام كامل، بعد فرارهما إلى الأردن في أواسط التسعينيات، فتمَّ تنفيذُ “قانون العشيرة” في مجزرة موصوفة تشبه مجزرة “قاعة الخلد” بحق مجموعات قيادية في حزب البعث الحاكم، فور اعتلائه سدة الرئاسة، كما مرَّ سابقًا.
لا توجدُ إلى الآن روايةٌ مُؤكَّدة وموثوقة حول إعدام فاضل البراك. فقد خرجَ الرجلُ إلى التقاعد، حسب الأصول، في العام 1989، ليُعيِّنهُ صدّام حسين مستشارًا رئاسيًا، وهو منصبٌ فخري في جوهره. وقد بلغني، خلال تلك الفترة، أنَّ البراك انصرفَ إلى الاهتمامِ بمزرعته، كما كان يتمنّى في آخر لقاء لي معه في بغداد خريف العام 1985.
التهمةُ التي وُجِّهَت إليه، تبريرًا لاعتقاله ثم إعدامه، كانت “التعامل مع استخبارات ألمانيا الشرقية”، وهي تهمةٌ غير قابلة للتصديق، نقضها صدام حسين نفسه في ما بعد. فهو كانَ يعرفُ أنَّ مواقفَ البراك المُعادية للحركات الشيوعية مُعلَنة وموثَّقة في كتابه “أضواء على الحركة الشيوعية في العراق”، (باسم مستعار هو “سمير عبد الكريم”).
بعدما تعرَّضَ فاضل البراك لمُضايقاتٍ من الدائرة العشائرية المُحيطة بصدّام حسين، جرى اعتقاله بعد الاحتلال العراقي للكويت.
لم أعلم بإعدام فاضل البراك إلّاَ بعد مدة، ومن خلال نشرة إنكليزية غير مُخَصَّصة للبيع، تصدر باللون الأزرق، عن مجلة “إيكونوميست” البريطانية، بعنوان “فورين ريبورت”، وفيها خبرٌ مُوَسَّعٌ عن إعدام البراك، والتُهَم المُوَجَّهة إليه.
وحدثَ أن زارني الزميل الراحل غسان زكريا، ناشر ورئيس تحرير مجلة “سوراقيا”، الذي كان يعرفُ علاقتي بالبراك، فطلب مني، وألحَّ، أن أكتُبَ رأيي في قضيته، فكتبتُ مقالًا طالبتُ فيه الرئيس صدام حسين باعتذارٍ علني من عائلة فاضل البراك، ومن أصدقائه وعارفيه، عن قرارٍ اعتباطي لا يمتُّ إلى الحقيقةِ بصلة.
بعد أسابيع على نشرِ المقال، جاءَ من أخبرني أنَّ الرئيس العراقي تراجَعَ عن التهمة المُغرِضة والمُلَفَّقة ضد البراك، واعتبره من “شهداء الغضب”!
إنَّ في هذا الكلام اعترافًا نادرًا من قبل صدام حسين بأنَّ “الغضبَ” طبعٌ متأصلٌ فيه، وفي هذه الحالة لم يكن يستحق المعالي، على قول عنترة بن شداد، رمز الفروسية العربية، قبل الإسلام:
لا يعرف الحقدُ من تعلو به الرتبُ ولا ينالُ العُلى مَنْ طبعُهُ الغضب
لكن ذلك، في رأيي، لم يكن يرقى إلى مرتبةِ الاعتذارِ المطلوب.
***
بعد سنواتٍ خمس على إعدام فاضل البراك، وقعت فصول مأساة حسين وشقيقه صدّام كامل المحفوفة بالغرائب من أوّلها إلى آخرها.
هما شابان شقيقان، لا يملكان مؤهّلات عالية، لكنهما مُتزوِّجان من ابنتَي الرئيس العراقي. عَيَّن صدّام حسين صهره حسين كامل، زوج ابنته الكبرى رغد، في مناصب تنفيذية رفيعة، منها وزارة التصنيع الحربي، والإشراف على تطوير قوات الحرس الجمهوري.
لذلك كان خروج الأخوين مع عائلتيهما من العراق وطلبهما اللجوء السياسي إلى الأردن مُحَيِّرًا للمراقبين، وهو أمرٌ في ذلك الوقت يكاد لا يُصدَّق، لولا موافقة العاهل الأردني الملك حسين بن طلال على منحهما حق اللجوء السياسي، وإسكانهما “قصر الهاشمية”، وهو واحدٌ من القصور الملكية المُخَصَّصة لاستضافةِ رؤساء الدول.
أن يَهرُبَ أقوى رجل في الدولة، بعد الرئيس، مع عائلته، وعائلة شقيقه، هو أمرٌ ينطوي على “حبكةٍ” ما تجعل تصديقه صعبًا. لكنه، مع ذلك، حدث. وكان من نتيجته، بعد استجوابِ حسين كامل في العاصمة الأردنية، من أجهزة استخبارات دولية، أنه أفشى معلومات عن تصنيع الأسلحة بصفته الوزير المختص، مما أدّى الى تجديدِ عملِ المفتّشين الدوليين، بعدما أعياهم البحث عن أسلحة الدمار الشامل، وكانوا على وشك اختتام التحقيق وإعلان خلو العراق من تلك الأسلحة المزعومة.
هناكَ روايات انتشرت في حينه للأسباب المُحتَمَلة للهروب العجيب للشقيقين حسين وصدام كامل، ثم رجوعهما الغريب إلى العراق ليلقيا مصيرًا مُفجِعًا، ترمَّلت فيه ابنتا الرئيس، وتيتَّم أحفاده، منها: أنَّ حسين كامل كانت لديه مخاوف من أن يقوم عدي، النجل الأكبر لصدام حسين، وشقيق زوجته بقتله، بعدما قام بإطلاق النار على عمه وطبان التكريتي، وزير الداخلية، فأصابه في رجله. فما كان منه إلّاَ أن هربَ لينجو بحياته، ويأمن على عائلته.
وروايةٌ أُخرى مفادها أنَّ حسين كامل، لمسَ وجود مساعٍ خارجية للبحث عن بديلٍ من صدام حسين في قيادة العراق، فاعتبرَ نفسه صاحب أولوية، بصفته صهر الرئيس، أو “الداماد”، كما كانوا يسمون صهر السلطان في الدولة العثمانية، وهو عادةً الرجل القوي في السلطنة، لأنه بإمكانه أن يصلَ إلى السلطان في أيِّ وقت. وقد أكد هذه الرواية العاهل الأردني الحالي، عبد الله الثاني بن الحسين، في كتاب سيرته بعنوان: “فرصتنا الأخيرة: السعي إلى السلام في زمن الخطر”، حيث كتب: “في تقديري، أن ما دار في ذهن حسين كامل، هو أنَّ الغربَ سيُسارع إلى احتضانه، وأنَّ الولايات المتحدة ستوظّفُ نفوذها وقوتها لتنصيبه قائدًا للعراق. ومن الواضح أنه كان واهمًا”.
في مؤتمره الصحافي بعد وصوله إلى عَمّان، طرح حسين كامل نفسه أنه “مُعارِضٌ للنظام”، ويسعى إلى تغييره، فاستثارَ بذلك المُعارضة العراقية الحقيقية، التي رفضته، ورفضت التعاطي معه، ومنهم من اعتبر هروبه من العراق مسرحيةً خادعة من إخراج صدام حسين نفسه، غايتها اختراق المعارضة الخارجية والقضاء عليها.
الفصل الثاني من تلك المأساة جرى في بيت صدام حسين، حين أعطى الأمان لصهرَيه الشقيقين، وعفا عنهما، وسمح لهما العودة إلى بغداد بعدما يَئسا من إقناعِ أحدٍ في الخارج بجدوى احتضانهما، وكأنه ينفض يديه من مصيرهما المحتوم.
أبرأ صدام حسين ذمّته تجاه صهريه، لكن ما العمل إذا كان “قانون العشيرة” يقضي بغسلِ العار الذي ألحقاه بها بسفك دمهما، مع والدهما وآخرين، في هجوم عشائري على المنزل الذي تواجدوا فيه.
لم يُبدِ صدام حسين أي أسف، ولم يذرف دمعة عليهما، كما فعل عندما أرسل “الرفاق” إلى حتفهم في “قاعة الخلد”، ودموعُهُ تجري على خدَّيه!
هو بذلك اتقى الشماتة من الفريق الآخر في عائلته، الذي كان مُعارِضًا لزواج حسين كامل من ابنة الرئيس، لأنهم يعرفون أنه ليس أهلًا لها، ولا يستحق أن يرتقي الى ما ارتقى إليه.
على هذا النحو كانت طريقة صدام حسين في الاعتراف بأخطائه. على الأٌقل في قضية مصرع صهرَيه، لم يتذرّع بأنهما من “شهداء الغضب”، بل مضيا في العرف العشائري الى “سجلِّ الخَوَنة”!
***
أدارَ صدّام حسين أزمةَ الحصار الدولي، ومنها أزمة التفتيش عن “أسلحة الدمار الشامل”، من قبل مفتشي الأمم المتحدة، إدارة جيدة بأعصابٍ باردة. فقد كانت أشبه بأفلام “القط والفأر” (طوم أند جيري)، في أفلام الصور المتحركة الأميركية … مُماحكات لا تنقطع، ومُحاولات لا عدَّ لها ولا حصر، لتجاوز تأثيرات الحصار على النظام الحاكم، وعلى الشرائح الشعبية من المواطنين، من استرضاء المهرّبين، (بدلًا من سجنهم كما في السابق)، إلى مختلق فنون الرشوة المباشرة، وغير المباشرة، لكلِّ من يساعد على تخفيف الحصار.
كان أحيانًا يقسو على الصرَّافين، بتحميلهم علنًا مسؤولية التضخّم من جرّاء التلاعب بسعر “صرف الدينار”، ومن جهة ثانية، يَحضُّهم على جمع أكبر مبالغ مُمكنة من العملات الأجنبية المفقودة لدى الدولة.
كان الرئيس العراقي المُحاصَر، يهتمُّ بأدقِّ التفاصيل، ليكتشف من خلالها أسهل وأنسب الطرق للتحايُل على الحصار. بل هو وجد الوقت الكافي ليتفرَّغ لكتابة الشعر والرواية.
بالنسبة إلى كتابة الشعر، اعترفَ بأنه لن يكونَ شاعرًا، لأنَّ ملكة الشعر ليست فيه… كل ما في الأمر، أنه تعتريه أحاسيس شعرية، تُراوده في أحايين كثيرة، فيحاول أن يُلبسها أحرفًا وكلامًا منظومًا ولا يستطيع، والحقيقة أنَّ قسوته المعروفة، وغِلظته في التعاطي مع مَن يواجهه، لا يمكن أن تُخفيها الأحاسيس الشعرية المرهفة والرقيقة، وقد أدرك “سيادة الرئيس” أنه لن يكون في عداد الشعراء الذين ينبض الشعر فيهم من ساعة مولدهم.
ومع ذلك، فقد كان يحترم الشعراء، ويُكرّمهم، ويحضر لساعات المهرجانات الشعرية، خصوصًا مهرجان الشعر الشعبي الذي كان يداوم فيه من أوله إلى آخره. ويُقال إنَّ حظه مع الشعر الشعبي كان أفضل من حظه مع الشعر الفصيح المُقَفّى، وشاع في بغداد أنه امتدح نسبه بأبيات ملفتة منها قوله:
ليَ اعمامٍ على الجودة مشاهير ليَ خوالٍ على الهيجا مغاوير
أما انكبابه الثقافي الجدي فكان على كتابة الرواية، حيث يستطيع أن يأخذ مداه، بإعطاء خياله المجال الفسيح في التعبير بكلامٍ موسَّع، لا يستطيع أن يعبِّرَ عنه شعرًا بكلماتٍ قليلة مقطوفة من دوحة الأدب الرفيع. فقد أراد أن يكونَ في عداد المُثَقَّفين من كتَّاب وشعراء، فكان له شرف المحاولة، بل كان له احترام ذاته، واحترام المثقفين الذين حاول أن يُجاريهم، بأنه لم يضع اسمه على أيٍّ من الروايات التي نُسِبَت إليه.
في تلك المرحلة التي هدّدت حياته ونظامه وشعبه، راح يبحث عن طريقٍ يُعطيهِ رفعةً فوق رفعة السلطة، وسط صراع في داخله بين الرقة والعذوبة، المتمثلتَين في الأدب، وبين القسوة والبطش، المُتمثلَين في السلطة.
ربما كان يتخيّلُ، ويتمنّى، أن يتوافق النقيضان في شخصه، فغلبت عليه متطلبات السلطة، التي كان من الممكن أن يتخلّى عنها طوعًا، أو أن يتصرَّفَ بمُقتضيات الأدب داخلها، لو كان مُتمتِّعًا بما يلزم من مواهب الأدباء والشعراء!
(الحلقة الرابعة عشرة يوم الأربعاء المقبل: المُؤمِنُ)
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.