ماذا أرادت الصين من وراء الاتفاق بين “حماس” و”فتح”؟
عبد السلام فريد*
في أواخر تموز (يوليو) الفائت، حقّقت الصين انقلابًا ديبلوماسيًا من خلال نجاحها في جَمعِ أكثر من اثنَي عشر فصيلًا فلسطينيًا في بكين، حيث وَقّعَ زعماؤها على اتفاقٍ يدعو إلى قيادةٍ فلسطينية مُوَحَّدة. إنَّ الجهودَ الديبلوماسية التي تبذلها الصين في الشرق الأوسط، وأبرزها الاتفاق الذي توسّطت فيه بين المملكة العربية السعودية وإيران في العام 2023 والذي أدّى إلى استعادةِ العلاقات الديبلوماسية بين الخصمَين الإقليميين، تؤكّدُ على رغبتها المُستمرّة في لعبِ دورٍ أكبر في الشؤون العالمية بشكلٍ عام.
وتُشَكّلُ جهودها الأخيرة في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني جُزءًا من هذه الاستراتيجية الأكبر لوضع بكين كزعيمةٍ لـ”الجنوب العالمي”، وهو الدور الذي تضعه في مقابل تصوير الولايات المتحدة كقوّةٍ إمبريالية تعمل على إثارة الصراع والحرب في جميع أنحاء العالم. وإذا أخذنا هذه الجهود مُجتَمِعة، فإنها تُمثّلُ إعادةَ تَمَوضُعٍ أساسية للصين بعيدًا من التوجُّهِ المُؤيِّد للغرب الذي تبنّته في ثمانينيات القرن العشرين نحو عالمٍ ثُنائي القطب مُتَوَقَّع تُمثّلُ فيه الصين “العالم غير الغربي”.
لكن من غير المرجح أن تسفرَ الجهود الديبلوماسية الصينية عن أيِّ تقدُّمٍ ملموسٍ أو حتّى تغيير في حلِّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. فقد رفضت كلٌّ من الولايات المتحدة وإسرائيل إعلان بكين الشهر الماضي باعتباره غير قابل للتطبيق لأنَّ الاتفاقَ تضمَّنَ حركة “حماس”، التي تُصنّفها إسرائيل والولايات المتحدة كمنظمةٍ إرهابية حبث ترفضان بأن تلعبَ هذه الحركة دورًا في قيادةِ أيِّ كيانٍ فلسطيني في المستقبل. ووصف أندرو سكوبيل من معهد السلام الأميركي الاجتماع في بكين بأنهُ “خدعةٌ دعائية” من غير المرجح أن تفعل الكثير لتغيير اتجاه الحرب في غزة أو السلام الذي يليه، هذا إذا أتى.
ولكن اهتمامَ الصين بالحرب لم يتضاءل منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر). في بعض النواحي، زادت بكين من جهودها للعبِ دورِ الوسيطِ وصانعِ السلام، حتى ولو كان ذلك فقط بين الجماعات التي تتنافس داخليًا على قيادة الحركة الفلسطينية، وأبرزها “فتح” و”حماس”. وعلى هذا، ففي حين قد يُنظَرُ بسهولةٍ إلى جهود الصين في الأمد القريب باعتبارها خطابية ودعائية إلى حدٍّ كبير أو غير فعّالة، فإنها تساعد على فَهمِ طموحها في أن تكون زعيمة “الجنوب العالمي” وكيف تتناسب أهداف بكين الدولية مع رؤية الرئيس شي جين بينغ للصين في الداخل.
إنَّ تحالُفات السياسة الخارجية الصينية مع روسيا في أوكرانيا ومع أنصار فلسطين في الحرب بين إسرائيل و”حماس” قد أدّت إلى نفور أوروبا وإسرائيل على التوالي. ومع ذلك، وعلى الرُغمِ من هذه العيوب، فإن شي يعملُ من مُنطَلق افتراض القوة، حيث أنَّ موقفَ السياسة الخارجية الذي يضع بكين في مُعارضَةٍ للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة من شأنه أن يفعلَ المزيد في الأمد البعيد لتعزيز سمعة الصين العالمية. تُظهِرُ استطلاعات الرأي العام العالمية الأخيرة أنَّ المواقف تجاه الصين مُنقَسِمة ومُستَقطَبة إلى حدٍّ كبير، حيث اكتسبت الصين سمعةً بين العديد من الاقتصادات النامية والبلدان ذات الدخل المتوسط، وخصوصًا في جنوب شرق آسيا، في حين تواجه انخفاضًا حادًا في معدلات الموافقة في الديموقراطيات الصناعية المتقدِّمة. كما إنَّ العديد من البلدان التي لديها وجهات نظر أكثر إيجابية تجاه الصين أكثر تعاطفًا مع القضية الفلسطينية، ما يعني أنَّ موقف الصين المؤيِّد للفلسطينيين من المرجح أن يزيد من تلميع سمعتها لدى هذه البلدان.
إنَّ هذا التحوُّلَ بعيدًا من التوجُّه المؤيِّد للغرب له أُسُسٌ اقتصادية محلية أيضًا. في الجلسة الثالثة الأخيرة للمؤتمر الوطني، أكد شي على الحاجة إلى الاعتماد على الذات والاستقلال حتى تتمكّن الصين من التركيز على تطوير التكنولوجيا الفائقة والابتكار من دون تدخُّلٍ من العقوبات وضوابط التصدير الأميركية. لا يزال الانفتاح على العالم الخارجي يُنظَرُ إليه على أنه ضروري، لكنه سيكون انتقائيًا واستراتيجيًا. لقد خلقت حاجة الصين إلى الموارد الطبيعية بالفعل شراكات اقتصادية قوية مع الدول النامية من الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية إلى أفريقيا. الآن يمكن للصين استخدام براعتها التجارية لتعزيز هذه العلاقات، ولكن أيضًا استخدام التكرار الأحدث لاستراتيجية “الخروج” لتوجيه الاستثمار الأجنبي الصيني إلى البلدان التي تريد بناء قدرتها التصنيعية الخاصة، بعد التركيز بشكلٍ أساسي على البنية التحتية من خلال مبادرة الحزام والطريق حتى الآن.
بعدَ أكثرِ من أربعة عقود من النمو السريع، أصبحت الصين على وشك أن تصبح دولة ذات دخلٍ مُرتَفِع، حتى وإن كانت، بسبب تعدادها السكاني الكبير والتفاوت الإقليمي الداخلي الملحوظ، لا تزال مُتَخَلّفة كثيرًا عن الاقتصادات المتقدِّمة الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث نصيب الفرد في الدخل. منذ تولّيه السلطة في العام 2013، أعطى شي الأولوية للإصلاحات المؤسّسية التي تهدفُ إلى تعزيز سلطة الحكومة وتأديب الحكومات المحلية والشركات التي تتورّط في الفساد. وفي المؤتمر الوطني الثالث في الشهر الماضي، ضاعف من هذه الخطط للتحوُّلِ البنيوي لنظام الحكم في الصين، في حين تجاهل الدعوات إلى تعزيز ثقة المستهلك وتحفيز الاقتصاد. وللمرة الأولى، تدَّعي الحكومة أنها تهتم بجودةِ النمو أكثر من معدل النمو. وكل هذا يشير إلى أنَّ شي لا يُمانِعُ في اقتصادٍ ينمو ببطء طالما يمكن تحقيق هذه الأهداف الأخرى في الأمد البعيد.
إنَّ هذا التوجه يتماشى بشكلٍ جيد مع موقف الصين الدولي كزعيمةٍ للعالم النامي وكدولة. على الرُغم من نجاحها، لا تزال بحاجة إلى تعزيز نموها ومعالجة المشاكل النموذجية لفخِّ الدخل المتوسط، وهو الحد من التفاوت وتعزيز جودة الحياة، وخصوصًا بالنسبة إلى الأشخاص في المناطق الريفية في الصين. كما استندت رغبة شي في تحقيق “الرخاء المشترك” إلى الحدِّ من نموِّ واستقلال القطاع الخاص، وخصوصًا في قطاعات مثل التمويل والتكنولوجيا، والتي لا يرى أنها تساهم بما يكفي في الاقتصاد الحقيقي. كما يرفضُ التوسُّعَ على نطاقٍ واسع في دولة الرفاهية في الصين، والذي من شأنه أن يرفع التوقّعات بشأن الرعاية الاجتماعية قبل وقت طويل من أن تتمكَّن الصين من تلبيتها. وبدلًا من ذلك، تؤكد بكين على التوظيف والعمل الجاد باعتبارهما مفتاحَي الرخاء.
كل هذا يشير إلى أنَّ شي يُريدُ أن تكون الصين غنية وقوية، ولكن بدون التضحية بعقلية “الاقتصاد النامي” لدى الشعب الصيني، بما يتماشى مع طموحات بكين لقيادة “الجنوب العالمي” كأكبر وأنجح اقتصاد نام في فترة ما بعد الحرب الباردة. وهذا يعني استخدام قوتها الديبلوماسية لتقديم الدعم لقضايا مثل الدولة الفلسطينية وأمن روسيا. قد لا تُحقّق الصين الكثير الآن من حيث تغيير السياسات أو إنهاء الحروب، لكن الصين قد تكتسب ببطء قدرًا من الاحترام والسمعة، بينما تُقدّمُ على الأقل بديلًا من واشنطن. وعلى الصعيد المحلي، تعمل الصين أيضًا على تحويل تَوَجُّهها، بعيدًا من الاعتماد على الولايات المتحدة وأوروبا ونحو توجُّهٍ يؤكّدُ على هويتها كاقتصادٍ نام. وليس من قبيل المصادفة أن يعلن شي في قمة “بريكس” الأخيرة أنَّ الصين “كانت ولا تزال وستظل دائمًا عضوًا في العالم النامي”.
هذه مقامرة، لأنها لا تبدو حتى الآن أنها مسارٌ ناجحٌ للصين. ستواجه مزاعم بكين بقيادة “الجنوب العالمي” دائمًا مقاومة من القوى الصاعدة الأخرى، وخصوصًا الهند. وفي البلدان التي تشهد صعودًا لسمعة الصين، مثل ماليزيا وإندونيسيا، كانت هناك فترات في الماضي من المشاعر المُعادية لها، والتي قد تعود. قد تكون براعةُ الصينِ في التصنيع نعمةً للدول التي تتلقّى كميات كبيرة من الاستثمارات الصينية، ولكن العديد من البلدان ــبما فيها تايلاند والبرازيل ــ تفاعلت أصلًا بشكلٍ سلبي ضد هيمنتها في القطاعات الصناعية المتوسِّعة. وأخيرًا، لم تصل الصين بعد إلى مرحلة الاعتماد على نفسها من الناحية التكنولوجية، ولا تزال الولايات المتحدة، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، يُشكّلان أسواقًا بالغة الأهمية للسلع الصينية. ومن غير المرجح أن ينقطع هذا الاعتماد المُتبادَل بسرعة.
إنَّ إعلانَ بكين قد يسلك الطريق نفسه الذي سلكته العديد من المحاولات الفاشلة الأخرى منذ العام 2007 لتوحيد القيادة الفلسطينية. ولكن هذا ليس بالضرورة هو الهدف. فبدلًا من ذلك، استخدمت بكين الاجتماع لتسليطِ الضوءِ على حساسياتها المُتغيِّرة تجاه الغرب وطموحاتها الطويلة الأجل للتحدث باسم العالم النامي، بغض النظر عن مدى تقدُّم الصين.
- عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.