ثلاثةُ تطوُّراتٍ مُهِمّة حَولَ الحَربِ المُستَمِرّة
الدكتور ناصيف حتي*
شهدنا في الأيامِ الأخيرة ثلاثةَ تطوُّراتٍ مهمّةٍ تتعلَّقُ بالحَربِ الدائرةِ التي دخلت شهرها العاشر. الحَربُ التي بدأت بالغزو الإسرائيلي لقطاع غزّة ثم توسَّعَت بالجغرافيا والقوّة القتالية والأطراف والأهداف، خصوصًا على الجبهة اللبنانية، مع استراتيجيةِ “وحدة الساحات” كرَدٍّ على الحَربِ الإسرائلية على غزّة.
أوّلُ هذه التطورات دخولُ الجولان السوري المُحتَل كإحدى ساحات المواجهة، ولو ما زالت تلك المواجهة مُنخَفضة نسبيًا، إذ إنَّ الموقعَ الجغرافي لتلك الساحة يدفعُ لأن يزدادَ دورُها المُباشِر وغير المباشر أيضًا كممرٍّ في الحرب الدائرة، خصوصًا على الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية. أضِف إلى ذلك توسُّعَ الحربِ إلى البحر الأحمر ذي الأهمّيةِ الاستراتيجية بشكلٍ خاص كممرٍّ من آسيا إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. الهجومُ الإسرائيلي على ميناء الحديدة اليمني وعلى خزّانات الوقود ومحطة الكهرباء هناك ضمنَ سياسةِ الردِّ على المشاركة الحوثية في حربِ وحدة الساحات، واعتراضُ القوّات الإسرائيلية لصواريخ حوثية قربَ مرفَإِ إيلات يُشكّلان خطوةً جديدة ونوعية في جغرافيا التصعيد الحاصل.
ثاني هذة التطوّرات ما صدرَ عن محكمة العدل الدولية، الرأي الاستشاري أو الفتوى الاستشارية الصادرة، بناءً على طلبِ الجمعية العامة للامم المتحدة، بشأنِ الإجراءاتِ والتَبِعاتِ القانونية لسياساتِ ومُمارساتِ إسرائيل والتي يُمكِنُ اختصارُها بإنهاءِ الاحتلال وكافة أنشطته وأوجهه في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة، ودفع التعويضات المطلوبة لذلك. الأمرُ الذي يجبُ أن يُوَفِّرَ فرصةً جديدة للجمعية العامة للأُممِ المتحدة لمعاودةِ إصدارِ قرارٍ أُسوةً بما حصل في العام الماضي لدَعمِ طلبِ فلسطين الحصول على العضوية الكاملة في المنظمة الدولية، والذي كان سقط في مجلس الأمن الدولي في العام الفائت بسبب ال”فيتو” (حق النقض) الأميركي. ورُغمَ أنَّ لجوءَ واشنطن إلى استعمالِ ال”فيتو” أمرٌ غير مُستَبعَد إذا ما أُعيدَت الكرة لكن ذلك يبقى ضروريًا. إنّهُ يُشَكِّلُ خطوةً أولى وأساسية للدفع نحو إطلاقِ مسارِ التسوية السلمية الشاملة القائمة على حلِّ الدولتَين. فلا يكفي للقوى الدولية الفاعلة القول “إننا مع حلِّ الدولتين” والاكتفاء بذلك. رُغمَ صعوبةِ تحقيقِ هذا الحلّ، إلّا أنّهُ يبقى الحلَّ الوحيد المُمكن لإقامةِ السلام الفعلي والعادل والدائم. التراجُعُ عن هذا الهدف يعني عمليًا القبولَ بالحلولِ المُوقَّتة التي تعني عمليًا الهروب إلى الإمام وإلى مزيدٍ من التعقيدات والصعوبات التي تمنعُ تحقيقَ السلامِ الفعلي.
ثالثُ هذه التطوُّرات يتعلَّقُ بالقرارِ الصادر، وللمرة الأولى، عن الكنيست الإسرائيلي برفضِ إقامةِ دولةٍ فلسطينية: قرارٌ غير مُفاجئ في طبيعته وتوقيته. قرارٌ يذكر أنَّ الحلَّ الإسرائيلي ل”المسألة الفلسطينية” يقومُ حسب السياسة الإسرائيلية، الواضحة في الخطابِ والمُمارسة، على استكمالِ إقامةِ إسرائيل الكبرى من وادي الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، مع ربما إعطاءِ صلاحياتٍ إدارية أو بلدية محلية لكانتونٍ فلسطيني، أو ضمنَ أيّ صيغةٍ أُخرى لا تمسُّ بهدفِ تحقيقِ إسرائيل الكبرى. بالطبع غزّة ليست ضمنَ هذه الرؤية الدينية الأصولية لإسرائيل الكبرى، وبالتالي يمكنُ إيجادُ ترتيباتٍ خاصة بها.
يحصلُ ذلك عَشِيةِ زيارةِ بنيامين نتنياهو لواشنطن وإلقاءِ خطابٍ، أو توجيه رسائله عبر هذا الخطاب، أمام مجلسي الشيوخ والنواب، اوّلًا للداخلِ الإسرائيلي لتعزيزِ موقفهِ من خلالِ خطابِ التشدُّد المُنتَظَر، وثانيًا للحليفِ الأميركي الرسمي حولَ ما هو مطلوب، وثالثًا لطرفَي المعركة عشية الانتخابات الرئاسية حول مطالب إسرائيل من الإدارة الجديدة التي ستفرج عنها الانتخابات في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل .
نعيشُ اليوم مرحلةَ تقطيعِ الوقت سواءَ في ما يتعلّقُ بملءِ الفراغِ الرئاسي في لبنان، أو في التوصّلِ إلى التسوية لوقفِ إطلاق النار على أساسِ ترتيباتٍ جديدةٍ في غزة إذ أنَّ هناكَ مسافةً شاسعة في النظر إلى طبيعتها بين الأطراف المُتحاربة. من الأرجح أن تستمرَّ الحربُ على جبهاتها المُختلفة والمُترابطة ضمنَ احترامِ قواعد قتالٍ مُقَيَّدة وضابطة بدون أن يعني ذلك غيابَ أيِّ مخاوف من انزلاقِ نحو حربٍ مفتوحة ستكونُ من دون شكّ ذاتَ طبيعةٍ إقليميةٍ أوسع وأشمل، وتداعياتٍ أكبر لاحقًا. لكن من المُرجَّحِ أن تستمرَّ الحربُ، كحربِ استنزافٍ ذات وتيرة تشهدُ تصعيدًا وتخفيضًا وتوسُّعًا وتقلُّصًا في ميدان القتال كما نشهدُ حاليًا. كلُّ ذلك حتى ينجلي الموقف غداة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة بسبب الرهانات العديدة والمختلفة للأطرافِ المُتواجِهة حولَ اليوم التالي لتلك الانتخابات، وبهدف التوصُّلِ إلى “التسوية الكبرى” أو التسوية بين الفاعلين الكبار.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).