هنري ماتيس والجرأَة في إِطاحةِ المقاييس (1 من 2)

الطبيعة الجامدة… على طريقته

هنري زغيب*

مصادفةٌ حمَلَتْهُ إِلى حياة الرسم… بدأَها تقليديًّا لكنه سرعان ما فرَّ منها إِلى أُسلوب غَرائبي افتَتَح به تيارًا تشكيليًا انتشَر تأْثيره على جيل كاملٍ من الرسامين في العالَم.

هي ذي ظاهرة الرسام الفرنسي العالَمي هنري ماتيس (1869-1954)، وهنا، في هذا المقال من جُزءَين، لمحةٌ عن محطات في حياته صَبَغَت سيرته ومسيرته.

ماتيس في محترفه – عالَمه الدائم

“مُتوَحِّشون” خارجون على كل قانون

جاءت فترةٌ كان فيها ماتيس رائد (لأَنه مؤَسس) “التيار التوحُّشي” في فرنسا. ومُنطلَق هذا التيار قام على إِعطاء الأَولوية لحضور اللون أَكثر مما على الخطوط وموضوع اللوحة. من هنا تتغيَّر الريشة أَو الفرشاة فتكُون الرقشة (اللمسة على القماشة البيضاء) أَعرض إِجمالًا من رقة اللمسة بالريشة العادية وخطوطها الضيِّقة اللمسات. وتعبير “التوحشية” أَطلقه الناقد التشكيلي الفْرنسي لويس فوكسيلّ Vauxcelles (1870-1943) مُلْمحًا به إِلى “الحيوان المتوحش” النافر غير المنضبط بأَيِّ قيدٍ أَو قانون اتِّباعي. وهو أَطلق هذا التعبير بعد مشاهدته لوحات “معرض الخريف” (باريس 1905)، ووقف خصوصًا أَمام لوحة هنري ماتيس “المرأَة ذات القبَّعة”  (1905) وهو رسم فيها زوجته “آميلي بارير تعتمر قبعة حمراء وترتدي ملابس بورجوازية”. يومها أَثارت اللوحة مباغتةً بشكل “فضيحة تشكيلية” بأُسلوبها وشكلها وضربات ريشتها حتى اعتبرها النقاد مفْلِتة، كأَيِّ حيوان متوحش، من كل تقليدي سائد مأْلوف، وسمُّوا رسَّامها ماتيس “ملك المتوحشين”. لكن لتلك الظاهرة جذورًا (غير اتباعية كليًّا) بدأَت مع مرحلة ما بعد الانطباعية (وببعض الخروج أُسلوبيًّا عنها) مع فان غوخ وغوغان وسيزان وآخرين سواهم من تيار أَقرب إِلى الفن الساذج البدائي.

من قواعد التيار التوحشي (غير “الاقتعادي”) تبسيطُ الأَشكال وتعمُّدُ الأُطر الخاصة بالخطوط، والبحث عن الإِبهار اللونيّ.  لذا يبحث الرسام عن مساحات لونية عريضة مُزهرة الأَلوان الفرحة والدينامية، معتمدًا على الشعور باللوحة أَكثر مما على تفسيرها. فليس مهمة اللون في اللوحة أَن يقلِّد الرسامُ اللونَ ذاتَه وينقلَه كما هو في الطبيعة. اللون لدى “المتوحشين” ليس غايةً في ذاته بل وسيلةٌ للتعبير عن حسِّهم ولو على حساب القراءة التقليدية في تفاصيل اللوحة. من هنا خروج أُسلوبهم عن المتعارف عليه تقليديًّا في تقديم اللوحة إِلى رائيها أَو مقتنيها.

“المرأَة ذات القبعة”: اللوحة التي أَطلقت “التوحشية”

… وجاء ماتيس

ذات يوم كتب هنري ماتيس في مفكرته: “لو جاء من يكتب سيرتي الشخصية ومسيرتي الفنية بكامل تفاصيلها، لكانتا تُدهشان من غرابة”. ذلك أَن حياته معقَّدة صعبة على بعض غموض، لِما فيها من محطات تعكس غرابة مزاجه ورؤْيته وطبعه وأَفكاره وفنه الطليعي الريادي الذي شكَّل في زمانه منعطفًا تشكيليًّا واسعًا.

“فضلُ” الزائدة الدودية

درس ماتيس الحقوق إِرضاءً رغبةَ والده تاجر الحبوب الناجح، وبدأَ العمل في دائرة حقوقية حكومية. وذات يوم من 1889 أُصيب بالتهابٍ في الزائدة الدودية، أَخذ يمضُّه أَلَمًا قاهرًا نحو عام كامل، حتى اضطر إِلى إِجراء عملية جراحية لاستئْصالها. وخلال فترة نقاهته في البيت، وكي تخفِّف أُمُّه من ضجره وإِعاقته طويلًا عن الحركة، جاءتْه بمجموعة أَدوات للرسم. استهواه ذلك، ورغب في أَن يهجر الحقوق والمحاماة، وينتقل إِلى دراسة الرسم، ما أَغضب والده التاجر. لكنه أَصرَّ على رغبته، وانتسبَ في باريس سنة 1891 إِلى أكاديميا جوليان Julian للرسم (درس فيها جبران خليل جبران سنة 1910) مع الرسام وليام بوغرو Bouguereau (1825-1905)، ثم في “المعهد الوطني للفنون الجميلة” مع الرسام غوستاف مورو Moreau (1826-1898). هكذا حادثةُ الزائدة الدودية حوَّلَت طريقه من اتجاه المحاماة التي لم يكن يحبُّها، إِلى اتجاه الفن الذي بات حبه الكبير.

زوجة الرسام وزوغة الأَلوان التي استعمَلَها لرسمها

بدأَ تقليديًّا

مع بوغرو (في “أَكاديميا جوليان”) درس الرسم التقليدي الواقعي لأَن ذاك الأكاديمي علَّمَهُ نقل الطبيعة كما هي، فكان ماتيس ينفر من تلك الاتباعية الباردة. كان ينحو إِلى إثارة المشاعر العفوية لا الرضى على تطابق اللوحة مع أَصل المشهد في الطبيعة. لذا لم تَطُل دراسة ماتيس على بوغرو، وكان بوغرو يتوقع لتلميذه ماتيس مستقبلًا فاشلًا في الرسم. لكنه، كما كثيرون من المعلمين غير الرؤْيويين، كان مخطئًا في الحدس بمستقبل تلميذه.

مع مورو (في المعهد الوطني للفنون الجميلة) عرف التيار الرمزي لأَن مورو كان يركِّز على مواضيع توراتية وأُسطورية، وهو الذي تدخَّل لإِدخال ماتيس إِلى المعهد بعدما كانت إِدارة المعهد رفضت إدخاله. فذات يوم رأَى مورو ذاك الشاب ماتيس يرسم في باحة المعهد، فَلَفَتَتْهُ رسومه، وقرر تَبَنِّيه إِلى دروسه في المعهد.

مطالعُ التغيير

يمكن القول إِن ماتيس بدأَ مسيرته التشكيلية من المنطلق التقليدي المأْلوف الـمُتَّبَع، ثم راح يتدرَّج في رسْم المناظر كما هي، والطبيعة الجامدة (أَغراض، فواكه، أَدوات، آلات، أَزهار، …) كما هي. وفي هذه الأَخيرة كان متأَثرًا خصوصًا بأَعمال جان سيمون شاردان (1699-1779) الشهير برسم الطبيعة الجامدة، وبأَعمال نيكولا بوسان (1594-1665) الشهير برسم المواضيع الميتولوجية والمقدسة.

لكنَّ ماتيس تابع أَعمال فنسنت فان غوخ (1853-1890) وروَّاد الانطباعية وما بعد الانطباعية، فراح ينحو تباعًا صوب التغيير في أُسلوب رسمه.

كيف تَغيَّر أُسلوبه؟

كيف كان رائد التيار التوحشي؟

كيف خرج من ذاك التيار؟

هذا ما سأُعالجه في القسم الثاني من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى