التقارُبُ بين إيران وأذربيجان يَكتَسِبُ زَخمًا
كانت العلاقات الثُنائية بين أذربيجان وإيران تاريخيًا غير مُستَقرّة، حيثُ يلعبُ انعدامُ الثقة المُتبادَل دورًا دائمًا. لكن يبدو أنَّ هناك معطياتٍ جديدة لتوثيق العلاقات.
إميل أفدالياني*
أعلنت أذربيجان في 15 تموز (يوليو) أنها ستستأنفُ الخدمات القنصلية في سفارتها المنقولة حديثًا في إيران، بعد تعليقها في أوائل العام 2023. ويُتَوِّجُ القرارُ تقارُبًا بين البلدين الجارَين بعد سلسلةٍ من التطوُّرات أدّت إلى انهيارٍ شبهِ كاملٍ للعلاقات الديبلوماسية.
كانَ السببُ المُباشِرُ لهذا الانهيار هو الهجوم على السفارة الأذربيجانية في موقعها السابق في طهران في كانون الثاني (يناير) 2023، عندما قَتَلَ مُهاجِمٌ شخصًا وأصابَ أشخاصًا عديدين آخرين. لكن، مع ذلك، كانت هناكَ مجموعةٌ من العوامل الأكثر أهمية التي كَمَنَت وراء قرار باكو تعليق عملياتها الديبلوماسية في إيران.
كانت العلاقات الثُنائية توتّرت أصلًا بعد أن هزمت أذربيجان أرمينيا في حرب ناغورنو كاراباخ الثانية في العام 2020، مما جعلها في وَضعٍ يُمَكِّنها للضغط من أجل فتح ما يُسمّى بممرِّ زانجيزور – وهو ممرٌّ عبر الأراضي الأرمينية على طول الحدود الإيرانية والذي سعت باكو منذ فترة طويلة إلى ربط أذربيجان بواسطته مع جَيب ناختشيفان. ومن شأن هذا الممر أن يسدَّ بشكلٍ فعّال الطريق البري الإيراني إلى أرمينيا، والذي تعتمد عليه كحلقةِ وصلٍ إلى جورجيا والبحر الأسود.
تفاقمت مخاوف طهران بسبب خوفها من نفوذ تركيا المُتزايد في جنوب القوقاز. قامت أنقرة، وهي حليفة قديمة لأذربيجان، بتوسيعِ شراكتها الاستراتيجية مع باكو في السنوات الأخيرة، حيث قدمت دعمًا حاسمًا في حرب العام 2020. وفي أعقاب الحرب، دعمت تركيا أيضًا طموحات باكو في ما يتعلق بممرِّ زانجيزور، إذ رأت في أذربيجان جسرًا لبسطِ نفوذها عبر بحر قزوين إلى منطقة آسيا الوسطى. وقد ترك ذلك إيران في مواجهةِ احتمالاتِ إنشاءِ ممرٍّ تركي حقيقي من تركيا إلى تركمانستان، وهي دولة أخرى ناطقة باللغة التركية على الحدود مع الجمهورية الإسلامية من الشمال.
لكن في الأشهر الأخيرة، أشارت كلٌّ من طهران وباكو إلى رغبتهما في ذوبان الجليد في علاقاتهما. والواقع أنَّ وفاة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي في حادثِ تحطُّمِ طائرة هليكوبتر في شمال إيران في أيار (مايو) الفائت، حدثت عندما كان عائدًا من زيارةٍ إلى الحدود الأذربيجانية، حيث افتتح إلى جانب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف سدًّا تمَّ تطويره بالاشتراك مع باكو. وستعمل منشأة الطاقة الكهرومائية، الواقعة على نهر “أراس” الذي يُمثِّل الحدود في المنطقة، على إنتاج الكهرباء لكلا البلدين.
لكنَّ الجهودَ الرامية إلى تحسينِ العلاقاتِ الثُنائية بدأت قبل ذلك. تمَّ الإعلانُ عن حفلِ إفتتاح السدِّ المُشترَك الذي حضره الرئيسان في آذار (مارس)، عندما التقى وزيرا خارجية البلدين في جدة في المملكة العربية السعودية. وفي آذار (مارس) أيضًا، أعلن سفير إيران لدى أذربيجان أنَّ الجانبَين يعتزمان فتحَ “فصلٍ جديد” في العلاقاتِ الثُنائية.
وقد أدى الحادث الذي أودى بحياة رئيسي ووزير الخارجية السابق حسين أمير عبد اللهيان إلى تأخيرٍ طفيفٍ في بذلِ المزيد من الجهود نحو التقارُبِ بسبب الاضطراب الذي أعقب الحادث في طهران. لكن ذلك لم يوقف الزخم وراء ذوبان الجليد. والآن مع اقتراب وصول الإدارة الجديدة للرئيس الإيراني المُنتَخَب مسعود بيزشكيان إلى السلطة، يبدو أن تحسّنَ العلاقات سيبدأ على قدمٍ وساق مرّةً أخرى.
مُحرِّكاتٌ جيوسياسية
خلقت التطوّرات الجيوسياسية الأوسع ظروفًا مواتية للتقارُب. في البداية، يعتمدُ الارتباطُ الأوراسي، على الأقل، على علاقاتِ عملٍ بين الجانبين. إنَّ ممرَّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يمتدُّ من موانئ روسيا في بحر البلطيق وبحر قزوين إلى إيران والهند، يستخدمُ أذربيجان كطريقِ عبورٍ رئيس بين فروعه الثلاثة. في الواقع، أدّى التوسُّعُ الأخير للممرِّ في العامين 2022 و2023، بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، إلى تعزيز التجارة الثُنائية بين إيران وروسيا بشكلٍ كبير، والتي نمت بنسبة 48% في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2024 مُقارنةً بالفترة نفسها من العام 2023.
كما أحرزت طهران وباكو تقدُّمًا في التطوير المُشتَرَك لخطِّ السكك الحديدية “رَشت-آستارا”، وهو الحلقة المفقودة الوحيدة في الجهود المبذولة لربط أنظمة السكك الحديدية في البلدين.
ويتناسبُ هذا التقارب أيضًا مع الهدف العام للسياسة الخارجية الإيرانية المُتمثِّل في تخفيف التوترات في العلاقات مع جيرانها الإقليميين في السنوات الأخيرة. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية في العام 2023 والجهود المستمرة لتحقيق المصالحة وتعزيز العلاقات مع دول الخليج الأخرى.
هناكَ عاملٌ آخر يتمثّلُ في انتصارِ أذربيجان في صراع ناغورنو كاراباخ، والذي بلغ ذروته باستيلائها المُسَلَّحِ على الإقليم في أيلول (سبتمبر) 2023. وكثيرًا ما كانت باكو تنظرُ إلى إيران على أنها أكثر تعاطُفًا مع أرمينيا، إن لم تكن تدعمها بشكلٍ مباشر. ومع سقوطِ الجَيبِ العرقي الأرمني ومفاوضات السلام الجارية بين باكو ويريفان، قبلت الجمهورية الإسلامية الواقعَ الجديد في شمالها: أذربيجان القوية التي تحتاج طهران إلى إيجاد أرضية مشتركة معها للتعاون في المدى الطويل.
علاوةً على ذلك، تُركِّزُ إيران حاليًا بشكلٍ أكبر على الوضعِ المتوتِّر في الشرق الأوسط، حيث يتعيَّنُ عليها تخصيص المزيد من الموارد الديبلوماسية والاقتصادية والمالية لشبكتها من الجماعات المسلحة، من الحوثيين في اليمن إلى “حزب الله” في لبنان. ويؤدي تخفيف التوترات مع باكو إلى تحرير النطاق التردّدي لهذه الجهود.
لكن إيران ليست هي الوحيدة الراغبة في التقارُب. إنَّ أذربيجان لديها الكثير أيضًا لتستفيد منه من تحسين العلاقات مع طهران. تُركّزُ باكو على المفاوضات مع أرمينيا، وقد شهدت أخيرًا تدهورَ علاقاتها مع الدول الغربية، مثل فرنسا. وهذا جعلها أكثر انفتاحًا على التعاون مع إيران.
وأخيرًا، يجدُ الجانبان أيضًا أنَّ مصالحهما تتقاربُ في ما يتعلق بالحدِّ من النفوذ الخارجي في جنوب القوقاز. فكلٌّ منهما يدعمُ بشكلٍ كامل ما يسمى مبادرة “3+3” التي تضمُّ أذربيجان وأرمينيا وجورجيا إلى جانب روسيا وإيران وتركيا، في محاولةٍ لإبعاد القوى الغربية عن المنطقة.
عقباتٌ مُحتَمَلة أمامَ التقدم
مع ذلك، كانت العلاقات الثُنائية بين أذربيجان وإيران تاريخيًا غير مُستَقرّة، حيثُ يلعبُ انعدامُ الثقة المُتبادَل دورًا دائمًا. وعلى الرُغمِ من التقارُبِ المُتسارِع، لا تزالُ هناكَ حواجزٌ مُحتَمَلة أمام إيران، بما في ذلك قضايا مثل علاقات إيران الوثيقة مع أرمينيا، ودعم الجمهورية الإسلامية المزعوم للجماعات الدينية في أذربيجان، والمشاكل المُتعلّقة بمُراقبةِ الحدود.
علاوةً، تخشى إيران أيضًا أن تُواصِلَ أذربيجان، على الرُغمِ من تصريحاتِ باكو التي تشيرُ إلى عَكسِ ذلك، الضغطَ على أرمينيا –بما في ذلك التهديد باستخدام القوة أو استخدامها– لإنشاءِ ممرِّ زانجيزور. في الواقع، لا تبدو إيران سعيدة بتوازُن القوى الحالي في جنوب القوقاز، حيث تعمل أرمينيا الضعيفة بشكلٍ مُفرِط على التقليل من قدراتها على استعراضِ القوة.
من ناحيةٍ أُخرى، ستظلُّ إيران أيضًا يقظةً بشأنِ التعاون الأمني المستمر بين أذربيجان وإسرائيل. ولطالما أعربت طهران عن استيائها من الشراكة بينهما، واتهمت باكو علنًا في العام الماضي بالسماح لإسرائيل باستخدامِ أراضيها لجمع المعلومات الاستخبارية. ومع ذلك، على الرُغمِ من أنَّ أذربيجان كانت حريصة على عدمِ التركيزِ على علاقاتها مع إسرائيل على خلفية الحرب في غزة والغضب الشعبي الذي تسببت فيه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فمن غير المرجح أن تتخلّى باكو عن التعاونِ القَيِّمِ في مجالَي الأمن والطاقة الذي توفّره تلك العلاقات.
مع ذلك، من المرجح أن يستمرَّ التقارُبُ بين إيران وأذربيجان، خصوصًا إذا سعى بيزشكيان إلى تحسين علاقات إيران مع الغرب ودول المنطقة، كما وَعَدَ أن يفعل. والواقع أن علييف دعا بالفعل بيزيشكيان لزيارة باكو، كما أعرب وزير خارجية أذربيجان أخيرًا عن أمل باكو في تحسُّنِ العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في عهد رئيسها الجديد. في كل الاحتمالات، سوفَ تفعلان ذلك.
- إميل أفدالياني هو أستاذ في الجامعة الأوروبية ومدير دراسات الشرق الأوسط في مركز الأبحاث الجورجي “جايوكايس” (Geocase).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.