لبنان: مَخاطِرُ الانتِظار وضَرورَةُ الحِوار

الدكتور ناصيف حتّي*

يَقِفُ لبنان اليوم بَعدَ أكثَرِ من أشهُرٍ سبعة على الحَرب ،أو تحديدًا حرب الإبادة على غزة ، أمامَ تحدّياتٍ أو مخاطر جسامٍ ثلاثة :

أوّلًا، إنَّ الفَصلَ بَينَ حَربَي غزّة ولبنان ليس مُمكِنًا، باعتبارِ أنَّ استراتيجيةَ “وِحدة الساحات” هي الناظِمةُ لهذا الارتباط. إنَّ قرارَ الحربِ والسلمِ، أو تحديدًا غياب الحرب، هو بأيدي أصحاب هذه الاستراتيجية اساسًا وهُم بالتالي القادرون على تفعيلها أو وقفها. ولا بُدَّ من التذكيرِ أنّهُ رُغمَ الانقسامِ الأهلي والسياسي في لبنان حول استراتيجيةِ الانخراطِ في الحرب، نظرًا للمخاطرِ الكبيرة التي تحملها على البلاد، فهناكَ إجماعٌ وطني، وهو أمرٌ طبيعي، على ضرورةِ وَقفِ العدوانِ الإسرائيلي على غزّة، ولكن بدون “التورّط” في الحرب، التي تبدو أنّها مفتوحةٌ في الزمان وفي المكان.

ثانيًا، إنَّ الحربَ الإسرائيلية على لبنان لم تَعُد فقط محصورةً في الجغرافيا الجنوبية، بل تمدّدت حتى وصلت إلى العُمقِ السوري كثافةً، كما تدلُّ على ذلك الضربات الإسرائيلية ضد ما تعتبره أهدافًا استراتيجية ذات علاقة مُباشرة بالحرب الدائرة على الجبهة اللبنانية. وتشهد هذه الحرب أيضًا تطوُّرًا في قواعد الاشتباك تلافيًا حتى الآن للانزلاقِ نحو حَربٍ مفتوحة، كما حَذّرَ كثيرون مرارًا. لكن هذا الانزلاق يبقى قائمًا، وتتزايدُ احتمالاته مع الوقت، طالما يتسارعُ تصعيدُ الحربِ في الجغرافيا والأهداف والقوّة النارية .

ثالثًا، إنَّ احتمالاتَ الوَقفِ الكُلّي للحربِ على غزّة شبه معدومة، من دونِ أن يعني ذلك عدمَ التوصُّلِ إلى “هُدَنٍ إنسانية” أو موقَّتة، قد تؤدّي لاحقًا إلى مسارٍ نزاعيٍّ مَفتوحٍ على كافةِ الاحتمالات، يَحكُمهُ منطقَ التخفيضِ والتصعيدِ في الحرب. فوَقفُ الحَربِ الإسرائيلية ذات الأهدافِ المُرتَفعة جدًا وغير المُمكِنِ تحقيقها لا يُمكِنُ أن يَتِمَّ من دون ضغوطاتٍ، وليسَ مُناشَدات، دولية فاعلة من الأطرافِ القادرة والمؤثّرة في القرار الإسرائيلي. يُساعِدُ على ذلك، بدونِ شكّ، ازديادُ الأزمة الداخلية الإسرائيلية السياسية والاقتصادية حِدّةً. لكن ذلك لا يكفي من وجهةِ النظرِ الإسرائيلية لوَقفِ الحربِ على الجبهةِ اللبنانية، كما تقولُ إسرائيل، إذ تريدُ أن تُغَيِّرَ الوضعَ  الذي كان قائمًا على الحدود مع لبنان حتى السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. هناكَ نوعٌ من الفصل بين الجبهتَين في المنظورِ الإسرائيلي، الأمرُ الذي يعني عمليًا “التفاوض على الأرض” عبر القتال للتفاوضِ عبر الوسطاء إلى صيغةِ تفاهُمٍ جديدة، من دون الاعتراف بذلك حاليًا، تُنَظِّمُ الوَضعَ على الحدود. نُذَكِّرُ دائمًا في هذا الصدد بتفاهم نيسان (أبريل) لعام ١٩٩٦ رُغمَ تَغَيُّرِ الظروفِ بَعدَ التحرير. لكنَّ القواعدَ والسلوكيات التفاوضية الناظِمة لتفاهُماتٍ من هذا النوع تبقى مُتشابِهة .

الركون في لبنان عمليًا، ضمنَ منطقٍ يمكنُ وصفهُ بالقَدَريّة السياسية مُغطّى بشعاراتٍ ودعواتٍ وتمنّياتٍ مختلفة، إلى سياسةِ الانتظارِ المفتوح في الزمان، إلى “اليوم التالي”، ولا يُدرِكُ أحدٌ متي سيكون اليوم التالي أو كيف سيكون الوضعُ في اليوم التالي، للانتهاءِ من حالةِ الفراغِ الحاصل في السلطة الذي يُشَكّلُ خطرًا ذا تداعياتٍ كبيرة على لبنان مُجتَمعًا ودولة. فبينَ مَن يدعو إلى حوارٍ نيابي لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية من جهة ضمنَ مسارٍ انتخابيٍّ مُعَيَّنٍ ومُحَدَّدٍ، ومَن يتخوَّفُ من جهةٍ أُخرى من الإطارِ السياسي القائمِ على توازُنِ القوى على الأرضِ وطبيعةِ التحالُفاتِ القائمة والمُتَغَيِّرة، لمُمارسةِ الهروبِ إلى الأمامِ بانتظارِ اليومِ التالي. كلُّ ذلك يُساهِمُ في تكريسِ الجمودِ القاتلِ ولُعبةِ الهروب إلى الامام التي لن تُوَفِّرَ في المستقبل الأمان الوطني المطلوب. صحيحٌ أنَّ تاريخَ الحروبِ والازمات اللبنانية خلقَ نوعًا من الاعتمادِ الكُلّي على تفاهُمِ الخارج ولو تَغَيَّرَ بعضُ أطرافهِ وكذلك عناوين الصراع، فإنَّ طبيعةَ اللُعبة لا تتغيَّر. المشكلةُ اليوم مُقارنةً مع الماضي أنَّ هناكَ حاجةً قصوى للتفاهُمِ الداخلي على مواجهةِ التحدّيات الداخلية التي تدفعُ لبنان للتحوُّلِ إلى دولةٍ فاشلة إذا لم يَتمّ الإصلاح الهيكلي المطلوب في الشؤون المالية والاقتصادية والسياسية والإدارية. تقاريرُ وتوصياتُ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى جانبِ دراساتٍ عديدة لاختصاصيين لبنانيين وغيرهم كُلُّها تُجمِعُ على ضرورةِ الإصلاحِ الهيكلي الشامل ولو اختلفت في تحديدِ الأولويّات أحيانًا: الإصلاحُ الذي تزدادُ صعوباته وتعقيداته وتكلفته مع الوقت. تسويةُ “الخارج” تؤجّلُ انفجارَ الداخل والتي هي بحاجة إلى معالجةِ المُسبّبات الداخلية. تسويةُ الخارج تنتهي أو تضعف، كما رأينا سابقًا في مرات عديدة عندما تضعفُ التفاهُمات التي انتجتها، أو عندما تسقطُ هذه التفاهمات المُرتَبطة بتوازناتٍ وأولوياتٍ خارجية مُتَغيِّرة عند القوى المَعنية.

التحدّي اليوم ألّا ننتظر اليوم التالي بل نقوم عشية هذا اليوم التالي، الذي لا ندري متى سيأتي، بتحصينِ “البيت الداخلي” حتى نستطيع أن نواكِبَ ونتعامَلَ بفعاليةٍ كدولةٍ مع التحدّيات القائمة والمقبلة في الإقليم، والتي لا يعرفُ أحدٌ حجمها وتداعياتها وانعكاساتها. التحدّي  يكمُنُ في أن نقومَ بحوارٍ شاملٍ وهادِف. نَتَّفِقُ في هذا “الوقت الضائع”، حتى لا يبقى ضائعًا، على برنامجِ إصلاحٍ هيكليٍّ شاملٍ وتدرُّجي يكونُ ثمرةً لحوارٍ فعلي بين المكوّنات السياسية المختلفة، وعلى انتخاب رئيس للجمهورية ووَضعِ الأُسُسِ والتوافقات لتشكيلِ “حكومة مُهِمّة” لترجمة هذا التوافق، ولتكون السلطة الجديدة، رئيسًا ومعه “حكومة مهمة”، مسؤولة عن تنفيذ هذا البرنامج الإصلاحي، ولقيادة السفينة اللبنانية في ظلِّ العواصف القائمة والمقبلة نحو برِّ الأمان.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى