لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (48): “التوافُقِيَّة” النِفاقِيّة!

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

المطران جورج خضر: “الديموقراطية التوافقية كلمتان مُتنافرتان في علم الدستور”.

سليمان الفرزلي*

إذا كانَ “اتفاقُ الطائف” وَضَعَ حدًا، ولو إلى حين، لإسالة الدماء والخراب والدمار في ما سُمِّيَ “السلم الأهلي”، الذي أغفلَ المصالحة الوطنية الحقيقية، فإنهُ قضى على النظامِ الديموقراطي البرلماني، الذي ارتضاه اللبنانيون بعد الاستقلال نهجًا لحياتهم السياسية ولحُكمِ البلاد.

بعد عقودٍ ثلاثة من الوصاية السورية، تواصَلت الأزمات، وباتَ تشكيلُ السلطة عصيًّا. فتبقى البلاد، وقتًا طويلًا، قارب السنة في مرَّات، بلا حكومة ومن دون مُهَلٍ دستوريةٍ ضابطةٍ للعملِ السياسي، بسببِ اعتمادِ أُسلوبِ حُكمٍ يقومُ على تقاسُمِ الطوائف لمغانم السلطة في إجماعٍ وطني مُخادِع، أطلقوا عليه “الديموقراطية التوافقية”– البِدعة.

إنَّ هذا المُصطَلَح-البِدعة، لا يمتُّ بصلةٍ إلى النظامِ الديموقراطي، المنصوص عليه في القوانين الدستورية والذي يقف على ساقَين: الأغلبية المُوالِية، والأقلّية المُعارِضة. فيستقيمُ عملُ البرلمان في مُحاسَبَةِ السلطةِ التنفيذية، وينتَظِمُ حُكمُ البلاد.

فما “الديموقراطية التوافقية” سوى توليفة لا دستورية لجَمعِ الطوائف، وإغراء وإرضاء الأحزاب المُتناحِرة والمُتنافسة لتقاسُمِ المغانم، وهذا ما درج اللبنانيون على تسميته ” المُحاصَصة”.

هذا الترتيب أراحَ سلطةَ الوصاية ومَهَّدَ لها إحكام السيطرة على الوضعَين السياسي والأمني في البلاد.

لقد أثبتت مُمارسَةُ المُتعاقِبين على الحُكم، بعد الطائف، أنَّ بِدعةَ “الديموقراطية التوافقية”، أفرزت ما يشبه “التوتاليتارية”، فأعطت الطوائف الكبرى لنفسها “حق النقض” عند اقتسامها السلطة مع الطوائف الأخرى، فراحت تُعطّلُ تشكيل الحكومات، ثم تُعيقُ عملها بامتلاكها “الثلث المعطل”، وهذه أيضًا بِدعة تم التوافق عليها في مؤتمر الدوحة، الذي انتهى بانتخاب الرئيس ميشال سليمان، ليُعاني حكمه، من هذه البِدعة المخالفة للأعراف والقوانين الدستورية.

إنَّ “الديموقراطية التوافقية” تحمل في كلمتَيها تناقُضًا جوهريًا يجعلها في الواقع العملي لا بهذا المعنى ولا بذاك، فلا يصحُّ فيه وصف “الديموقراطية” ولا وصف “التوافقية”، بل هو فذلكة ملفَّقة قائمة على النِفاقِ بين مكوّنات السلطة الجماعية. فإذا كانَ المطلوبُ تلفيق التفاهم بين قوى سياسية لا يجمعَها جامعٌ، ولا يمنعَها مانعٌ، فإنَّ ذلك، إن حدث، يعني أحد أمرَين: إمّا أنهُ مُمارسة غير ديموقراطية بالتفاهم غير المُعلَن بين الأضداد على اقتسامِ المنافع، أو أنَّ الأوصياء الخارجيين على القوى الداخلية قد تفاهموا على تسوياتٍ في ما بينهم ليست لها علاقة لا بمصالح اللبنانيين ولا بالديموقراطية.

بهذا المعنى كتب جورج خضر، مطران جبل لبنان السابق للروم الأرثوذكس يقول: “الديموقراطية التوافقية، هاتان كلمتان مُتنافرتان في علم الدستور. فالديموقراطية قائمة على الاختلاف، والخلاف، والتنافس، الذي ينتهي إلى قرارٍ يُذعن له مجلسُ النوَّاب، لأنَّ المجلسَ يؤلفُه القانون، ولا تؤلفُه اللُّحمة المرادفة للتوافق”، (المطران جورج خضر، جريدة “النهار”، 8 كانون الثاني/يناير 2008).

فالاختلافُ في الجسمِ السياسي والشعبي هو من السمات المُميِّزة للممارسة الديموقراطية التي يحسمها التصويت على الخيارات. وهو الشيء الصحّي في المجتمعات الديموقراطية، لأنَّه يقوم على النقاش الحر الذي بدوره يُحسِّنُ المجتمع من خلال توضيح القضايا التي تؤَمِّن مصالح الناس، خلافًا للتوافق النِفاقي الذي يؤَمِّن مصالح السياسيين على حساب الناس.

إنَّ المسلكَ السياسي الطليق، الذي يقوم على التعبير الحر والنقاش المنفتح والنقد السليم، من شأنه أن يُعزِّزَ حرية المجتمع ويكمّلها. فمن دون هذه الحرية فإنَّ الأكثريات المتجانسة في تفكيرها السلطوي تُصبحُ أقلَّ تسامحًا وتقبُّلًا للنقد، فتسيرُ باتجاه حُكم الاستبداد.  وهذا ما يجعل مقاومة الناس للأنماط الاجتماعية السائدة واجبًا بحدِّ ذاته، (المفكر البريطاني في القرن التاسع عشر، جون ستيوارت ميل، من كتابه “في الحرية”).

ما كانَ يُميِّزُ لبنان في المرحلة بين قيام دولة “لبنان الكبير” واندلاع الحروب الأهلية، الباردة والساخنة، منذ أول محاولة لتطويع دستور 1926، أنه قام على الحرية التي هي أرفع سموًّا من الديموقراطية، فلا معنى للديموقراطية من غير حريَّة.

إنَّ الأوضاعَ التي سادَت في مناخاتِ الحَربِ الأهلية، حيث القيمة للتعصّبِ وللسلاح، أعطت الحريًّة معنى “الغوغائية”، وجعلت الانتخابات مُرادِفة للديموقراطية. فالانتخاباتُ من أدواتِ الديموقراطية لكنها ليست إياها.

هناكَ دولٌ استبدادية عديدة في العالم تُراعي في الشكل العملية الانتخابية، وتَحرُصُ على انتظامها، وعلى شموليتها، لتغطيةِ جوهرِها الاستبدادي بغلافٍ “ديموقراطي”.

القواسم والتوجّهات المشتركة، تُوَثّقُ التحالفات بين القوى السياسية، إلّاَ أنَّ هذه التحالفات تُصبحُ ظرفية ومَرحلية، عندما لا تكون قائمة على أُسُسٍ وأهدافٍ واضِحة أُشبَعَت نقاشًا. فالمُناداةُ بالديموقراطية التوافقية، كما نشأت وامتدَّت بفعلِ سلطةِ، أو تسلُّطِ، أمراء الحرب على الدولة ومؤسَّساتها، هي في الواقع من مظاهر “الجدب الفكري” لدى السياسيين الذين تعاقبوا على الحُكمِ بعد “الطائف”.

لذلك، لم تَعُد الأحزابُ اللبنانية بحُكمِ مشاركتها في الحرب، وبعدها في اغتصابِ السلطة زمن السلم، بمُساندةِ وصاياتٍ خارجية، أحزابًا مُفكِّرة كما كانت الأحزاب القديمة المُوَلِّدة للأفكار.

عندما يُهَيمِنُ السلاح في الحروب كافة، لا يعود هناك مكانٌ أو متَّسعٌ للأفكار الحرَّة، فيسودُ التسلُّطُ سواءَ باسمِ “القضية”، أو باسم “الأمن القومي”، أو “السلم الأهلي”، أو “المصلحة العامة”، أو أيّ مسمى أو مصطلح آخر. ذلك أنَّه عند الاحتكامِ إلى السلاح تُصبِحُ القوَّة المجرَّدة، أو الغاشمة، هي أداة الحسم، فتُلغي الأفكار وتُقصي الإنسان المفكِّر أيضًا.

ما شهده لبنان خلال نصف القرن الأخير هو تنافر السلبيات، ومنها في المقام الأول تنافر السلبيات المسلَّحة. وقد استشرف الصحافي والسياسي جورج نقاش هذا الواقع، فكتب قبل 75 سنة (10 آذار/مارس 1949)، في افتتاحية جريدة “لوريان” التي كانت تصدر باللغة الفرنسية: “سلبيتان لا تصنعان أمَّة”. ولهذا لم تنجح أيّ صيغة حتى الآن في جعل الاختلاف وِحدةً في الوطن، فخسر اللبنانيون، كل اللبنانيين، ليس ودائعهم ومدّخراتهم في المصارف فقط، بل بوضعهم في الجانب الخاسر من التاريخ، بمعنى خسارة مستقبل أجيالهم في الوطن، وبالتالي حرمانهم من مزايا التقدُّم والإبداع والإشعاع، حيث قابلياتهم التاريخية.

إن إعادة تركيب الوضع اللبناني باتت محصورة بين مسارَين: الاستمرار في التركيبة القائمة على “الوصاية الدائمة”، والتجارب أثبتت أنها تركيبة هدَّامة وفاشلة، أو إعادة التفاهم على نظامٍ سياسي بنَّاء يستبعد الفذلكات الملفَّقة، من أجل تحقيق “الوحدة في الوطن”، وليس “الوحدة الوطنية” الزائفة بين المكوّنات الطائفية التي تتقاسم السلطة على حساب المواطنين باسم “الميثاقية” أو “الديموقراطية التوافقية”، وما الى ذلك من تلفيقاتٍ نِفاقية.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى