إتفاقُ الطائف لا يؤدي إلى نهاية المسيحيين في لبنان، بل قد يكون طريقاً لإحيائهم

 مايكل يونغ*

أثار تشكيلُ حكومة لبنانية جديدة أخيراً ثورةً صغيرةً في كيفيّة تفسير اتفاق الطائف المُوَقَّع في العام 1989، الذي كان أساساً لتعديلِ الدستور اللبناني في العام 1990، حيث ستُمثّل سابقة من الآن فصاعداً. صاحبُ هذا التغيير هو الرئيس ميشال عون. على الرغم من أنه جعل لبنان رهينة طموحاته الشخصية وطموحات صهره جبران باسيل، فقد يكون قد تسبّب أيضاً في تحوّلٍ كبير في الطريقة التي ينظر بها مجتمعه الماروني إلى اتفاق الطائف.

على مدى العقود الثلاثة الماضية، اعتبر العديد من الموارنة اتفاق الطائف ناقوس خطر وموت لسلطة مجتمعهم. نصّ الاتفاق على تغيير النظام السياسي في لبنان، حيث انتزعَ السلطة التنفيذية من الرئيس الماروني وأناطها بمجلس الوزراء الذي يرأسه رئيس حكومة سني. فَقَدَ رئيس الجمهورية حقّه في اختيار رؤساء الوزراء وتشكيل الحكومات – نُقِلَت المهمة الأولى إلى البرلمان والثانية لرئيس مجلس الوزراء.

استاء عون كثيراً من اتفاق الطائف. وذلك لأن العملية التي أدت إلى الاتفاق، أي استدعاء نواب لبنانيين إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية للاتفاق على نظام سياسي جديد لبلادهم، لم يُعيّنه رئيساً. لكن في الأشهر الأحد عشر الماضية، عندما سعى سعد الحريري ونجيب ميقاتي إلى تشكيل حكومة، تمكّن عون من تغيير الأعراف الدستورية بشكلٍ أساسي.

برفضه التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة رسمياً حتى قبول شروطه، أعاد رئيس الجمهورية تحديد دور الرئاسة في اختيار الوزراء. حتى الآن، كان رؤساء الجمهورية السابقون يُعيِّنون حفنة من الوزراء على الأكثر. لكن عون طالب بأكثر من ثلث الحقائب لنفسه ولباسيل. من الآن فصاعداً، لن يُوقّع أيٌّ من خلفائه عن طيب خاطر على حكومة لا يسيطرون فيها على حصّةٍ وزارية كبيرة.

إن منعَ عون لسعد الحريري من تشكيل حكومة سيعني بلا شك أن خلفاء رئيس الجمهورية الحالي سيحاولون اختيار رئيس الوزراء الذي يريدون العمل معه. سيؤدي هذا إلى تآكل دور البرلمان في اختيار رؤساء الوزراء، لكن بدون محكمة دستورية لتحديد الصلاحيات، فإن مثل هذه التناقضات لا مفرّ منها. وحقيقة أن عون لديه كتلة كبيرة من الوزراء وترأس مجلس الوزراء في معظم اجتماعاته يعني أننا نسمع أصداء نظام رئاسي، وإن كان مُقنَّعاً. أيُّ رئيسٍ بعد عون لن يستخدم هذه السابقة للمُطالبة بالصلاحيات عينها؟

من الصعب الموافقة على رئيس دولة يُرَوِّجُ لمصالحه من خلال مُعاناة شعبه، ولكن لا شيء في ما فعله عون غير شرعي دستورياً. من خلال منح رئيس الجمهورية سلطة التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة، منح الدستور رئاسة الجمهورية نفوذاً هائلاً. لا ينبغي أن يكون اختيار عون لاستخدامها مُفاجئاً، نظراً إلى الدور شبه المُهين الذي كان يمارسه أسلافه، الذين كانوا في الغالب غير قادرين على فرض إرادتهم وقول كَلّا عندما كانت تُشَكَّل الحكومات.

لماذا قبلوا هذا؟ لسببَين، بشكلٍ رئيس. قبل العام 2005، شكل ضبّاط المخابرات السورية الحكومات، الأمر الذي ترك هوامش قليلة لرؤساء الجمهورية لتعطيل عملية التشكيل لتأمين مطالبهم. في العام 2008، في أعقاب اتفاق الدوحة مباشرة، لم يكن لدى الرئيس ميشال سليمان الحرية لفرض إرادته خوفاً من عرقلة الصفقة الإقليمية التي أوصلته إلى المنصب.

عون هو أول رئيس جمهورية منذ اتفاق الطائف يتمتّع بشروطٍ موضوعية تسمح له بالطعن في روتين تشكيل الحكومة المُعتاد. لكن سلوكه أظهر أيضاً شيئاً آخر عن اتفاق الطائف، وهو أنه بغض النظر عن القيود الدستورية التي فرضها، فإن التعديلات التي أدخلها لا تزال تترك مجالاً كبيراً للشخصيات والسياق السياسي. إتفاق الطائف كان أشياءً مختلفة في أوقاتٍ مُختلفة، وهي قاعدة بين الأنظمة الدستورية. مصطلح “دستور حي” موجودٌ لسببٍ ما.

إن الإفتراض، على سبيل المثال، بأن اتفاق الطائف مثّلَ انتصاراً لرئيس مجلس الوزراء السنّي هو ببساطة غير كافٍ. في العام 1998، انتخب مجلس النواب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، وكان يحظى بدعمِ النظام السوري وفروعٍ من الجيش اللبناني. كان رئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت هو الدكتور سليم الحص المعروف باستقامته لكنه كان يُعاني من ضعف القوّة، لذلك كان لحود صاحب اليد العليا في الدولة وفي علاقتهما. يمكن قول الشيء نفسه عن سعد الحريري عندما أصبح رئيساً للوزراء في العام 2016. فقد قام الرئيس عون وباسيل بتحييده عند كل منعطف، حيث منحهما دعم “حزب الله” مساحة كافية لدفع أجندتهما.

لماذا هذا مُهمّ؟ لأن عون، العدو اللدود لاتفاق الطائف، ربما يكون قد أنشأ الأساس لمصالحة مارونية مع هذا الاتفاق. عندما يبدأ أتباع الرئيس الإدراك بأن دستور ما بعد آب (أغسطس) 1990 ليس الكارثة التي تخيّلوها وأن الرئاسة المارونية مُنِحَت سلطة تقديرية كبيرة، فقد يفهمون أن اتفاق الطائف هو أفضل شيء يحدث لمجتمعهم بعد الخطوة التي كان لا مفرّ منها بعيداً من الجمهورية الأولى.

يحتفظ اتفاق الطائف بنصف المقاعد في البرلمان والإدارة العامة للمسيحيين، رُغمَ مَيلِ التركيبة السكانية في لبنان بشدة لصالح المجتمعات المُسلمة. كما أنه يتبنّى اللامركزية الإدارية -وهو مطلب مسيحي محوري لفترة طويلة- وهي أكثر منطقية من الفيدرالية التي يبدو أن العديد من المسيحيين يفضلونها هذه الأيام. ويخلق عملية لإنهاء الطائفية السياسية، مع إعادة طرح فكرة مجلس الشيوخ المُقَسَّم على أُسُسٍ طائفية لتخفيف مخاوف الأقليات.

لقد استفاد عون كثيراً من حقيقة أنه “رئيس قوي”. لكن ما لم يعترف به هو أن اتفاق الطائف هو الذي سمح له بالمطالبة بهذه المكانة. بدلاً من خرق الدستور في محاولةٍ فجّة لكسب تأييد المسيحيين، على عون أن يُطالب بتطبيق اتفاق الطائف بكامله. يجب أن يصرَّ على أن تبدأ التحرّكات الآن نحو تطبيق اللامركزية الإدارية. ينبغي أن يدعم إلغاء الطائفية السياسية، لأنه من الأفضل للمسيحيين أن يتفاوضوا على وضعهم الجديد من موقع قوّة اليوم بدلاً من سياقٍ مستقبلي قد ينضم فيه السنّة والشيعة معاً لتغيير النظام بما يضرّ المسيحيين. وعليه أن يطلب تشكيل مجلس شيوخ للحفاظ على حقوق الأقليات في البتّ في القضايا الوطنية الكبرى (القضايا المصيرية)، وفق المادة 22 من الدستور.

لا شك أنه ينبغي إعطاء عون أو مستشاريه الفضل في العثور على ثغراتٍ في اتفاق الطائف التي تساعد على ضمان صلاحيات رؤساء الجمهورية وعدم بقائهم على الهامش. المشكلة هي أن عون نفسه يجب أن يعترف بأن الدستور هو الذي منحه المجال لإعادة تفسير دور رئيس الجمهورية. بينما يغادر المسيحيون لبنان بأعدادٍ كبيرة، فإن أحد العوامل الذي قد يُساعد على الاحتفاظ بهم وبقائهم هو الإدراك بأن مستقبلهم في البلاد مضمون بالوثيقة نفسها التي يرفض الكثير منهم حالياً تأييدها والمصادقة عليها. إن اتفاق الطائف لا يؤدي إلى نهاية الموارنة والمسيحيين في لبنان. إذا كان هناك أي شيء، فقد يكون هذا الاتفاق طريقاً لإحيائهم.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى