لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (26): العَودَةُ الأميرِكِيِّةُ الثانِية

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

بَعدَ تَراجُعِ المَشروعِ الأميركي الذي حمله الرئيس وودرو ويلسون في “مؤتمر فرساي للسلام”، حَدَثَ في لبنان تدويلٌ آخر تَمَثَّلَ في مشروع الانتداب الأنكلو–فرنسي، الذي حظي، كما يبدو، بموافقةِ الشخصيات اللبنانية والعربية التي كانت يومئذٍ على تماسٍ وتواصُلٍ مع الوفود الدولية المَعنيَّة بالمؤتمر، وأبرزُ تلكَ الوجوه الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني اللبناني الياس الحوَيِّك، الساعي إلى تكبير الكيان اللبناني في جبل لبنان بضَمِّ الأقضيةِ الأربعة إليه. وهكذا قامت الكياناتُ العربية في ظلِّ عمليّةِ تدويلٍ واسعةِ النطاق، أدّت إلى حُكمٍ أجنبيٍّ مُباشر تحت اسم “الانتداب” استُبعِدَت منهُ الولايات المتحدة بعدما كانت المُحَرِّكَ الأوَّل لدينامية التدويل من خلال بعثة “كينغ–كراين”، كما مرَّ، للتماس والترابط بين الحربِ الأهليّة اللبنانية والتدخّلِ الدولي.

بعد إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920، أي بَعدَ عامٍ من انتهاءِ مهمّة البعثة الأميركية بالشكلِ الذي انتهت إليه، لم تُقِم الولايات المتحدة أيَّ تمثيلٍ ديبلوماسي لها في لبنان إلّا بعدَ 22 عامًا، وعلى مستوى منخفض. ففي العام 1942، وكان الانتدابُ الفرنسي ما زالَ قائمًا، عيَّنت وزارة الخارجية الأميركية الديبلوماسي جورج وادسورث مُفَوَّضًا لها في بيروت، لكنها في العام 1943 لم تعترف باستقلال لبنان، بل اشترطت لاعترافها به أن تُقدِّمَ الحكومة اللبنانية، التي قامت بعد إعلان الاستقلال، إلى الحكومة الأميركية تعهُّدًا يعترفُ اعترافًا كاملًا بحقوقِ ومصالحِ الولايات المتحدة وحماية رعاياها. واستمرّت المفاوضات حول الموضوع مدَّة سنة تقريبًا إلى أن أصدرت وزارة الخارجية اللبنانية التعهُّد المطلوب من واشنطن (كان وزير الخارجية في الحكومة الاستقلالية الأولى برئاسة رياض الصلح آنذاك سليم تقلا). وفي أواخر 1944 اعترفت الولايات المتحدة باستقلال لبنان، ورفعت درجة تمثيلها في بيروت إلى مفوضية فوق العادة، وعَيَّنَت ممثّلها السابق في بيروت جورج وادسورث نفسه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1944 وزيرًا مفوَّضًا لمَلءِ هذا المنصب، فبقي حتى شباط (فبراير) 1947، ليخلفه لويل بنكرتون حتى ربيع 1951. وبعد انتهاء مدته ظلَّ المنصَبُ شاغرًا حتى 3 تشرين الأول (أكتوبر) 1952، عندما رفعت واشنطن تمثيلها في لبنان، لأول مرة، الى درجة سفارة، فعَيَّنَت هارولد ماينور أول سفير لها لدى بيروت.

إلّا أنَّ تواجُدَ الولايات المتحدة في لبنان على مستوى السفراء كان منذ البداية مُضطَرِبًا. فالسفيرُ الأوّل لم تَدُم خدمته سوى تسعة أشهر، والسفير الثاني الذي خلفه رايموند هير أحدثَ أزمةً ديبلوماسية مدوِّية عندما احتجَّ لدى الرئيس كميل شمعون على قيام وزير الداخلية آنذاك جورج هراوي بزيارةٍ إلى عاصمة هنغاريا الشيوعية، بما فُهم منه المطالبة بإقالة الوزير. عندئذٍ التأمَ مجلسُ النواب، المؤلَّف يومها من 44 نائبًا فقط، وأصدَرَ توصيةً تُطالِبُ بطَردِ السفير من البلاد، فقامت الحكومة الأميركية بسحبه بعد سنة فقط من تعيينه. والقصة أنَّ الوزيرَ هراوي كانَ في روما لحضورِ اجتماعِ “منظّمة الأغذية والزراعة” (فاو)، وهو من مؤسّسيها، وبعد الاجتماع قرَّرَ أن يذهبَ إلى بودابست لحضورِ مباراةٍ في كرة القدم يلعبُ فيها البطل المجري المشهور في تلك الأيام فيرينتس بوشكاش، لأنَّ الوزير هراوي كانَ مُولَعًا بلعبةِ كرة القدم ومُعجَبًا بأداءِ بوشكاش في المباريات، ولم يكن في زيارةٍ رسمية إلى هنغاريا.

والحقيقةُ أنَّ العلاقات الأميركية مع لبنان ظلَّت مُتَعَثِّرةً حتى نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف. فقد قامَ مُسلَّحون في بيروت الغربية باغتيال السفير الأميركي فرانسيس ميلوي (مع مستشاره الاقتصادي وسائقه)، كما جرى تفجير مقر قوات المارينز الأميركية المشاركة في القوات المتعددة الجنسيات (وكذلك مقر القوات الفرنسية)، في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من بيروت عام 1983، مما أدَّى إلى سقوطِ مئاتٍ من القتلى والجرحى في صفوف تلك القوات، وبالتالي إلى انسحابها من لبنان. وتلا ذلك تفجيرٌ كبيرٌ في السفارة الأميركية، على الكورنيش البحري في عين المريسة، تَهدَّم فيه مبنى السفارة على مَن فيه.

إنَّ التحوُّلَ الأهم الذي حدث في منتصف خمسينيات القرن الماضي هو حلولُ الولايات المتحدة محلَّ بريطانيا وفرنسا، بعد حرب السويس في العام 1956، فانتقلت عملية التدويل المُستَمرّة إلى الراعي الأميركي. وقد سبق هذا الانتقال تمهيدٌ إيديولوجي وعسكري تَمَثَّلَ بما سُمِّيَ “مبدأ أيزنهاور” (في إطار مكافحة الشيوعية)، وبالأحلاف العسكرية (في إطار الدفاع المشترك)، ومن هذا المُنطَلَق تمَّ توسيع الحلف الإيراني–الباكستاني، فأُقيمَ حلفٌ أوسع انضمَّ إليه العراق، وسُمِّيَ “حلف بغداد” الذي أراده نوري السعيد رئيس الحكومة العراقية آنذاك أداةً للوقوفِ في وَجهِ المَدِّ الناصري، الذي تعاظم بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، وبعد إفشال العدوان الثلاثي على مصر (التواطؤ الأنكلو–فرنسي مع إسرائيل).

وهذا كُلُّهُ انعَكَسَ على الوَضعِ اللبناني، حيث زَعَمَ البَعضُ أنَّ الرئيس كميل شمعون ينوي الدخولَ في حلف بغداد، وهو زَعمٌ غير صحيح، وإن كانَ الرئيس شمعون أكثر ميلًا إلى العراق، لأنه استَشعَرَ خطرًا وجوديًا على لبنان من جرّاءِ تعاظُمِ المَدِّ الناصري، بالنظرِ إلى وجودِ فريقٍ لبناني كبير، في ذلك الوقت، أكثر ولاءً لعبد الناصر منهُ إلى لبنان، خصوصًا بعد قيام دولة الوحدة بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة). وازدادَ الوَضعُ اللبناني تفاقُمًا بعد ثورة 14 تموز (يوليو) في العراق، حيث أطاح الجيش العراقي بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم النظام الملكي الهاشمي وحُكم نوري السعيد وأعلَنَ العراق نظامًا جمهوريًا.

ومن الطبيعي في مثلِ هذه الحالة من التوتّرِ والاضطرابِ أن تسري مَزاعِم وتبريرات، ليس لها أساس في الواقع، كالزَعم بأنَّ الرئيس شمعون كان ينوي تجديد ولايته كمُبَرِّرٍ لمُعارضيه، الموالين في غالبيتهم إلى عبد الناصر، للانتفاضِ المُسَلَّحِ ضدَّه لحمله على الاستقالة. ثم قيلَ إن القوات العراقية التي قامت بالثورة على النظام الملكي فعلت ذلك لأنها أُمِرَت بأن تتحرَّكَ إلى لبنان لنصرةِ شمعون، فقامت بالانقلاب على آمريها. وبعد إنزال قوات المارينز الأميركية على شاطئ الأوزاعي بأمرٍ من الرئيس أيزنهاور، قيلَ إن الرئيس شمعون هو الذي استدعى القوات الأميركية، والحقيقة إن الأميركيين هم الذين أعلنوا ذلك كغطاءٍ قانوني لتبريرِ إنزالهم لتلك القوات في بحر ضاحية بيروت الجنوبية.

وهنا بدأ فصلٌ جديد من تدويل الأزمة قاده الأميركيون، بنجاحٍ هذه المرة، ففازَ مبدأ أيزنهاور، في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، حيث أخفقت مبادرة ويلسون وبعثته في مطلع العشرينيات منه.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبرَ موقعه الإلكتوروني: ferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى