56 عامًا في مُعالَجَةِ الأمراضِ السَرَطانية، فماذا تَعَلَّمت؟
في مناسبة اليوم العالمي للسرطان، يكتب الأخصائي العالمي الأميركي-اللبناني في الأورام السرطانية البروفسور فيليب سالم المقال التالي بعد 56 عامًا قضاها في معالجة مرضى هذا المرض الخبيث.
الدكتور فيليب سالم*
في حزيران (يونيو) 1968، التحقتُ بمؤسّسة “Memorial Sloan Kettering Cancer Center” في نيويورك للتخصّصِ في مُعالجةِ الأمراض السرطانية. ومن يومها إلى يومنا هذا، كان لي شرفُ مُعالجة المرضى المُصابين بهذه الأمراض كل يوم. ستٌّ وخمسون سنة من الحياة، كرّستُها لإعطاء الحياة. ولقد اختارت الجمعية الأميركية للأبحاث السرطانية السريرية [American Society of Clinical Oncology (ASCO)] أن تُلقي الضوءَ على مسيرتي العلمية في نشرتها ” ASCO POST” الصادرة يوم انعقاد مؤتمرها السنوي لهذا العام تحت عنوان “من قريةٍ صغيرةٍ في لبنان إلى العالمية في طبِّ السرطان“. ولكنني لم آتِ اليوم لأكتبَ عن هذه المسيرة، بل أتيتُ، وبمناسبة اليوم العالمي للسرطان، لأتكلمَ عن ماذا تعلّمتُ من هذه المسيرة. وهذا بعض مما تعلمته:
أوّلًا. أنَّ الصحّة، وليس المال، أو الشهرة، أو النفوذ، أو المعرفة، هي أهم ما يمتلكه الإنسان. وكنتُ منذ زمنٍ رفعتُ الشعارَ الذي يقول “إن كُنتَ تمتلكُ الصحّة، فلا يحقُّ لك التذمّر”. إن الصحّة هي المدخل إلى الحياة. بدونها لا تكون الحياة. ولذلك لا نزالُ نُناضلُ من أجلِ تعديلٍ جذريٍّ في وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. فنحنُ نؤمنُ، وبكلِّ قوة، أنَّ أهمَّ حقٍّ للإنسان هو الحقُّ في الحياة. إنما لا يُمكِنكَ الحصول على هذا الحق من دونِ الحصولِ على الحقِّ في الصحّة. وقد يكونُ أكبر عارٍ على أمّة، هو موت إنسان فقير لم تمنحه بلاده حقّه في الصحّة. وبرأينا أنَّ جميعَ الحقوق المنصوص عنها في وثيقة حقوق الإنسان، تذبلُ وتتلاشى أمام هيبة الحق في الحياة. ويؤسفنا أن نقول إنَّ هذه الوثيقة لم يتم تعديلها أو تحديثها منذ يوم مولدها في سنة 1948. ونحنُ قد تعلّمنا من العلم أنَّ أيَّ وثيقة لا تخضع للتحديث والتقييم والتطوير مع مرور الزمن تتجمّد في التاريخ، وتفقدُ صلتها مع الحاضر. وأكثر ما يثير استغرابي كيف تعتبر دول الغرب حقوق الإنسان قبل الولادة مُقدّسة، ولكن حقوق هذا الإنسان بعد الولادة ليست كذلك؟ وهل نجرؤ أن نقول إنَّ الدولَ التي تَدَّعي رعاية حقوق الإنسان، هي الدول ذاتها التي تدوس هذه الحقوق كل يوم؟
ثانيًا. الوقايةُ أهمُّ سلاحٍ لدينا ضدّ المرض. عندما درستُ الطبَّ في أوائل الستينيات الفائتة، لم تلحظ آنذاك المناهج التعليمية، أهميةً كبرى للوقاية من المرض. وللأسف لم تتطوَّر هذه المناهج كثيرًا في هذا المضمار؛ فلا يزال تعليم الطب يُرَكّزُ على علاج المرض لا على الوقاية منه. وهذا، بعد خبرتي الطويلة، يُشكّلُ خطأً جسيمًا ويجب تصحيحه. كيفَ لا ونحنُ نعلم أنَّ 75% من الأمراض السرطانية هي أمراضٌ قابلة للوقاية منها. فخُذ مثلًا سرطان الرئة، وهو السرطان الأكثر شيوعًا في العالم. فالقضاء على آفة التدخين تمنعُ 85% من الإصابات به. وإنَّ تلقيح النساء بين عمر عشر سنوات وثلاثين سنة بلقاح ” Human Papilloma Virus” يمنع الإصابة بسرطان عنق الرحم بنسبة 90%. وهل تعلم أنَّ الالتهابات الجرثومية التقليدية تُسبّبُ أكثر من 25% من مجمل الإصابات بالسرطان؟ وأنَّ معالجة هذه الالتهابات بواسطة المضادات الحيوية أو التلقيح ضدها تَحولُ دونَ الإصابة بالسرطان؟ لذا على دول العالم صنع سياساتٍ صحية توفّر الوقاية لا من السرطان فقط، بل أيضًا من الأمراض الأخرى.
ثالثًا. المعرفة وحدها لا تكفي. عندما أكملتُ 50 سنة في معالجة الأمراض السرطانية، نشرتُ كتابًا بعنوان “كيفَ تَقهَرُ السرطان. إنَّ المعرفة وحدها لا تكفي“. ولذا لا يمكنك شفاء المريض بمعالجة المرض وحده. فهناكَ إنسانٌ وراء المرض. والتحدّي الكبير هو ليس فقط أن ترى هذا الانسان، بل أن تُعالِجَه. هذا الإنسان يحتاجُ إلى ما هو أهم وأعلى من المعرفة. يحتاج إلى المحبة والحنان والكرامة والأمل. يجب أن تُعانقه حتى يشعر بأنَّ الإنسانية جمعاء تحبه. كما يجب أن ترى أيضًا مَن يقف وراء المريض. هؤلاء الذين يحبّونه. هؤلاء يجب معانقتهم أيضًا، وتثقيفهم لكي يصبحوا قوةً داعمةً له، لا قوة تدفعه إلى اليأس والإحباط.
رابعًا. الشجاعة والمُثابرة القصوى. ربما يكون أهم ما تعلَّمت هو أهمية الشجاعة والإقدام، وأهمية المثابرة القصوى والعنيدة. المُثابرةُ التي لا حدودَ تقف عندها. هذه ليست أُمثولةً في مُعالجةِ المريض فحسب، بل هي أيضًا درسٌ في فنِّ النجاح في الحياة. فالمرءُ لا يعرف قدرته الحقيقية للإنجاز، إن لم يعمل ما هو فوق استطاعته. فالنجاح يختبئ وراء الفشل، ومَن يخافُ الفشل، لا يمكنه صنع النجاح. وقد يصدمك عدد المرضى الذين يموتون كل يوم. لا لأنَّ وقتهم قد حان، بل لأنَّ الطبيبَ المُعالِج أو المريض الذي يخضع للعلاج، فقد الشجاعة للإقدام، كما فقد القدرة على المثابرة لتلقّي العلاج. وهنا لا يمكنني أن أنسى المريض الذي فشلت عنده ثماني محاولات للعلاج، ولكنه أصرَّ على التاسعة. وهذه التاسعة أخذته إلى الشفاء التام. إلى الحياة من جديد. وقد تقول لي هذا مريضٌ واحد. وأنا أقول لك نعم، انه مريضٌ واحد، ولكنه في الوقت نفسه هو العالم كله. العالم كله لي، وله، ولجميع الذين يحبونه.
خامسًا. الحواجز التي تمنع الوصول إلى الشفاء. ويسألونك. كل هذه الأبحاث العلمية، وكل هذه المعرفة التي تراكمت من جرّاء هذه الابحاث. فلماذا لا نشفي معظم المرضى المُصابين بالأمراض السرطانية؟ والجواب أنَّ هناكَ حواجز كبيرة لاستعمال المعرفة ووضعها في خدمة المريض. فهناكَ تَوَفُّرُ الدواء، وجَودةُ هذا الدواء، إذ أنَّ هناكَ مافيات عالمية اليوم تقوم بتصنيع الدواء المُزَيَّف وتسويقه. وهناك أيضًا كلفة العلاج الخيالية، وعدم تَوَفُّر البرامج العلمية التي تُعنى بالمعالجة الحديثة لهذه الأمراض. كما إنَّ هناك اعتداءً تاريخيًّا على الطبِّ من قبل أنظمة الضمان الصحّية، ومن قبل بعض المحامين الذين يُشجّعون المريض على الادِّعاء على الطبيب لجني الأرباح لهم وللمريض. ولذا يصبح الطبيب خائفًا من المريض ويَنظُرُ إليهِ كعدوٍّ يتربّصُ به في قاعة المحكمة. ونتيجةً لذلك ولدت قوانين جديدة في المستشفيات وخارجها لحماية هذه المؤسسات والأطباء فيها، عوض أن توضَعَ هذه القوانين لحماية المريض، وللتأكيد على حقّه بتلقّي العلاج الأفضل لمرضه.
وفي النهاية، أتطلّع إلى السماء وأقول: الشكر لله، المجد له. أشكره على كل ما منحني من نعمه. لقد اعطاني الفرصة الذهبية لمعالجة أضعف البشر؛ فالمريضُ بالسرطان هو أضعف الضعفاء. كما كانت هذه الفرصة أكبر امتيازٍ لي. لقد اغنت حياتي ورفعتني إلى فوق. وقد منحني الله العمر الطويل لأُطَوِّرَ العلاج الجديد لمعالجة الأمراض السرطانية وهي في الحالات المتقدمة. هذا العلاج يحمل اسم “ICTriplex” ، وهو مزيجٌ من العلاج الكيميائي والعلاج المناعي والعلاج المُستَهدِف. في هذه المسيرة كانت عيناي دائمًا مُسَمَّرَتَين على الهدف. لم يكن الهدف عندي الحصول على جائزة نوبل، كان الهدفُ دائمًا، ولا يزال، ما هو أهم وأبلغ، إعطاء الحياة.
- الدكتور فيليب سالم هو طبيب وباحث وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.