رَدُّ واشنطن بينَ “عقيدَتَين”
محمّد قوّاص*
تعرّضت مواقع الولايات المتحدة في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة إلى هجماتٍ شنّتها دائمًا فصائل موالية لطهران. وإذا ما كانت طبيعة العلاقة بين واشنطن وبغداد عاملًا لضبط إيقاع الردّ الأميركي داخل العراق، فإنَّ الرَدَّ في سوريا كان دائمًا سريعًا يأتي بعدَ ساعاتٍ وبمستوى ساحق. أمّا وللسرعةِ أسبابٌ سياسية، فإنَّ للبطءِ والتريُّثِ اللذين واكبا التمهيد لضربات ليل الجمعة قراءات ورسائل.
والأمرُ مرتبطٌ بالطبيعة المُلتبسة لعلاقةِ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران. ويتناسل ذلك الالتباس من عهدَيْ الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض (2009-2017) والذي يتأسس على “عقيدةٍ” أفرجَ عنها الصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ في مجلة “أتلانتيك” في العام 2016. وفيما يأتي هذه الأيام زميله توماس فريدمان لتسليط الضوء على “عقيدة بايدن” في الـ”نيويورك تايمز”، فإنَّ في العقيدتَين ارتباكًا وتشوّشًا في مقاربةِ الظاهرة الإيرانية.
بدت الضربات التي شنّتها الولايات المتحدة ليل الجمعة-السبت ضدّ أهدافٍ تابعة للفصائل التابعة لإيران في سوريا والعراق، وكأنها، رُغمَ ضراوتها، جُزءٌ من الحملة الانتخابية الرئاسية لبايدن وبندٌ من بنود “عقيدته”. استغرقَ إعدادُ هذه الضربات أيامًا وليس ساعات نشطت فيها ماكينة الإعلام القريبة من البيت الأبيض في الحديث عن “مقترحاتٍ ردَّ” طلبها الرئيس، ثم درس الرئيس لتلك المقترحات، ثم إعلانه أنه اتخذ قراره، ثم نشر تسريبات في الصحافة الأميركية حول سيناريوهات تلك الضربات وخرائطها. والواضح أنَّ المطلوبَ هو التوجه إلى الرأي العام الداخلي والكتلة الناخبة وسوقها باتجاه مواكبة قرارات الرئيس في الدفاع عن “أمن الأمة” والانتقام لمقتل جنود أميركيين.
تظهرُ مُفارقةُ العلاقة والالتباس واضحةً جليّةً بعد ساعات من عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في غلاف غزة في 7 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي. فعلى الرُغمِ مما هو معروف عن علاقة وثيقة بين الحرس الثوري الإيراني وكتائب عز الدين القسّام التي نفّذت “الطوفان” وما توفّره هذه العلاقة من مُبرِّرٍ سريعٍ لاتهام إيران بالتورّط في الحدث، إلّا أنَّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن سبق طهران في 8 تشرين الأول (أكتوبر) في نفيِ هذا الاحتمال، مُعلنًا أنَّ بلاده “لا تمتلك معلومات” بشأن وقوف طهران وراء حدث 7 تشرين الأول (أكتوبر).
تظهرُ المفارقة أيضًا في التصريحات التي أدلى بها زير الدفاع الأميركي لويد أوستن، والذي رُغمَ اتهامه فصائل موالية لإيران باستهدافِ مواقع أميركية، بما في ذلك موقع “البرج 22” في الأردن، إلّا أنه مع ذلك قال أّنَّ “ليس من الواضح بَعد مدى علم إيران بالهجوم على قواتنا في الأردن”. ويشبه تعبير “عدم الوضوح” لدى وزير الدفاع تعبير “لا معلومات” لدى وزير الخارجية. ويُمثّلُ التعبيران استراتيجية سياسية لم تتغير لدى عقيدتَي أوباما وبايدن.
قبل توجيه الضربات، لم يصدر عن أيِّ منبرٍ رسمي أو مسؤول أميركي أيُّ تلميحٍ إلى خططٍ لقصفِ أهدافٍ داخل الأراضي الإيرانية. صحيحٌ أن أصواتًا جمهورية داخل الكونغرس طالبت بذلك، لكنَّ الأمرَ بقي في إطار المُماحكة السياسية والنكد التنافسي التقليدي خصوصًا والبلاد على عتبةِ انتخاباتٍ رئاسية. ومع ذلك التحقت طهران بالاستعراض الإعلامي الصادر من واشنطن وراحت بدورها تستعرض مواهبها في إطلاق بروباغندا مُضادة.
وللمُصادفة، وكأنَّ توقيتَ الضربات تمّ إبلاغه لطهران، نشرت صحيفة نيويورك تايمز (وليست صحافة إيران) تسريباتٍ عن مصادر إيرانية (!!) قبل ساعات من بدء الهجمات الأميركي في سوريا والعراق، تحدّثَت عن إجتماعٍ أمنيّ كبير لكبار ضباط الجيش والحرس الثوري حضره الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. وراحت التسريبات تكشفُ عن استنفارٍ عسكري ونشر صواريخ باليستية على حدود البلاد تحسُّبا للردّ الأميركي المُنتَظَر.
في المناسبة أطلقَ الرئيس الإيراني، في سياقِ التهديد والوعيد، كلمة السرّ. قال رئيسي إن “إيران ستردّ على أيِّ ضرباتٍ تستهدفُ الأراضي الإيرانية”. الأمرُ يعني أنَّ طهران لن تكونَ مَعنيّة، كما العادة تمامًا، بما تصبّه واشنطن من حممٍ على مواقع فصائلها التابعة خارج الأراضي الإيرانية. وبناءً على هذه المعادلة التي يُعادُ تأكيدها، فإنَّ الهجمات مهما كانت ضراوتها، فإنها ستبقى محدودة الأهداف ولن تُوَسِّعَ من مساحاتِ الصراع في الشرق الأوسط ولن تؤدّي، في حسابات واشنطن وطهران معًا، إلى صدامٍ أميركي-إيراني.
كانت طهران أفرجت عن مؤشّراتِ تراجعٍ لافتٍ في الساعات التي سبقت الردّ الأميركي. أعلنت “كتائب حزب الله العراقي” عن قرارٍ بتعليق عملياتها ضد القوات الأميركية “لعدم إحراج الحكومة العراقية”. وكان واضحًا أن طهران كانت تفرج من خلال ذلك عن إشاراتٍ لواشنطن.
كما إنَّ “الكتائبَ” وفصائلَ أخرى أصدرت مواقف تُبرّئ إيران من عملياتٍ قالت إنها أقدمت على تنفيذها، كما تقول إيران تمامًا، من دون أيِّ توجيهاتٍ من طهران. أضف إلى مسلسل التراجع أنباءً أخرى تحدّثت عن قيام إيران بسحب كبار “مستشاريها” من سوريا وسط حديثٍ عن إعادة تموضع وانتشار لفصائلها التابعة هناك. وفي ذلك إشارة إلى انكشاف تلك القوات أمام الضربات الإسرائيلية التي استهدفت قادة من الحرس الثوري، وروّجت في طهران لأسئلةٍ بشأن الاختراقات الأمنية، مُلمّحة إلى تورط حلفاء وأصدقاء في ذلك.
أنزلت الضربات الأميركية ضد 85 موقِعًا خسائر مهمة في صفوف “فصائل إيران” في العراق وسوريا. استهدفت الغارات مساحةً واسعة من الأهداف واستخدمت ضدّها وسائل نيران استراتيجية عالية الكفاءة في مقدمها طائرات “B1” الاستراتيجية التي تمّ استقدامها من الولايات المتحدة.
أرادت واشنطن أن تستعرضَ فائضَ قواها ليس فقط أمام إيران وفصائلها، بل حتى أمام قوى جبارة، كالصين وروسيا، تطلُ بأشكالٍ وأنماطٍ ومستويات مختلفة في الشرق الأوسط. ومع ذلك فإنَّ الخسائر تبقى محدودة وأقل بكثير مما كانت نيران واشنطن ستلتهمه لو لم تعطِ المستهدفين الوقت الكافي للإخلاء والانتشار والتموضع للتخفيف من وطأة “غضب” في واشنطن.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)