أشباهُ دُوَلٍ تُعَكِّرُ صَفوَ النظامِ العالمي
كابي طبراني*
في الوَقتِ الذي تَشتَدُّ المُنافَسةُ بين القوى العُظمى، ويُهَيمِنُ الجِدالُ حَولَ التعدّديةِ القطبية مُقابِل الأحادية القطبية على المُناقشات الأكاديمية والسياسية المُتعَلِّقة بالنظام العالمي الحالي، فمنَ الجَديرِ الإشارة إلى أنَّ الدوافِعَ وراءَ العديدِ من التحدّيات الأمنية الأساسية في العالم اليوم ليست في الواقع دُوَلًا. من حركة “حماس” الفلسطينية في غزّة والحوثيين في اليمن، إلى تايوان وكوسوفو، تَنتَشِرُ في العالم “أشباهُ” دُوَلٍ أو “دُوَلُ الأمرِ الواقع”، والتي عَرَّفها رسميًا الباحث والمحاضر في السياسة والعلاقات الدولية في جامعة “باث” (المملكة المتحدة) لوكاس نوتِر بأنّها “مجتمعاتٌ سياسيّة تُظهِرُ أشكالَ دولةٍ في السياسة الدولية ولكنها تَفتَقِرُ إلى الاعترافِ القانوني الدولي”.
تَتَراوَحُ أشباهُ الدول من كياناتٍ تتمتّعُ بالسيادة الكاملة في كلِّ شيء، مثل تايوان، إلى أراضٍ لا يزالُ وَضعُها السيادي مَوضِعَ نقاشٍ على نطاقٍ واسع، مثل “أرض الصومال”. مِنَ السَهلِ النظر إلى هذه الكيانات باعتبارها “شذوذات” جيوسياسية في عالَمٍ تُهَيمِنُ عليه دولٌ قومية رسمية، وهو عَرضٌ جانبي مُثيرٌ للاهتمام للمسألة الحقيقية للسياسة الدولية.
لكنَّ وُجهةَ النظر هذه خاطئة، وخصوصًا الآن، حيث أصبحَ بوسعِ المرء أن يُجادِلَ أنَّ التنازُعَ بين دُوَلِ الأمرِ الواقع وحَولَ وَضعِها يُشَكِّلُ مُحَرِّكًا رئيسًا للعلاقات الدولية في عالمِ اليوم. وفقًا للبيانات الصادرة عن “مشروع بيانات الصراع في أوبسالا” (Uppsala Conflict Data Project) التابع لجامعة أوبسالا في السويد، فإنَّ الصراعاتَ التي تَشمُلُ جهاتٍ فاعلة غير حكومية هي السبب الرئيس وراء أنَّ العالمَ يَشهَدُ حاليًا مستوى من الصراعِ لم يسبق له مثيلٌ منذ 80 عامًا. وفي حين أنَّ بعضَ هذه الصراعات يشملُ جماعاتٍ مُتَمَرِّدة تقليدية، مثل حركة “23 آذار/مارس”، (أو M23)، في جمهورية الكونغو الديموقراطية، فإنَّ بعضَها الآخر هو تجسيدٌ ماديٌّ لنقاشٍ فلسفيٍّ ومفاهيمي أكبر: ما هي الدولة؟ ومَن يَستَحِقُّ أن يُعامَلَ كدولة؟
تسعى أشباهُ الدول إلى الحصولِ على المستوى عينه من الوَضعِ السيادي المُعتَرَفِ به المَمنوحِ للأعضاء كاملي العضوية في المجتمع الدولي. بالنسبة إلى أشباه الدول مثل تايوان وكوسوفو، فإنَّ هذا يعني العَمَلَ ضمن النظام الدولي القائم لكَسبِ دَعمِ وتَأييدِ الولايات المتحدة والقوى الغربية. ولكن بالنسبة إلى أشباهِ الدول الأخرى ــوبخاصة تلك المُنخَرِطة في بعض الصراعات الكبرى في العالم في الوقت الراهن، مثل “حماس” والحوثيين ــ فإنَّ الدوافِعَ مُختَلفة. تسعى هذه الجهاتُ الفاعلة إلى السيادةِ بينما تتحدّى في الوقت نفسه النظام عينه الذي يُعطي الوضعَ السيادي معناه ويجعله ضروريًا.
كان تنظيمُ “الدولة الإسلامية في العراق وسوريا” (أو “داعش”) مثالًا صارخًا على هذه الظاهرة. ظَهَرَت الجماعة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى منتصفه تحت اسم تنظيم “القاعدة في العراق”، واستغلّت عدم الاستقرار في العراق وسوريا في أوائل العقد الأول من القرن الجاري لتتمكَّن في نهاية المطاف من السيطرة الإقليمية على جُزءٍ كبيرٍ من كلا البلدين. ولكن في حين أنّها سعت إلى السيطرةِ على الأراضي من أجلِ إعلانِ نفسها كدولة، فإنَّ الدولة التي أعلنتها في النهاية اتَّخَذَت شكلًا (الخلافة المُتَجَدِّدة) انتهكَ قاعدةَ السلامة الإقليمية للنظامِ الدولي القائم.
ثم هناك “حماس”. تأسّست الحركة الفلسطينية في أواخر الثمانينيات الفائتة وتَحكُم غزة منذ العام 2007، بعد عامَين من انسحاب إسرائيل من القطاع. ولكن لم يتم الاعتراف بها بشكلٍ كاملٍ كدولة ذات سيادة من قبل أيِّ قوة كبرى، وبخاصة من قبل إسرائيل. وعلى النقيضِ من “فتح”، الحركة الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية وتسعى إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، فإنَّ سبب وجود “حماس” يرتكزُ على إزالة إسرائيل وتعطيل الوضع الراهن الإقليمي في الشرق الأوسط. وكانَ هجومُها على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) أحدثَ طلقةٍ في هذا الجهد.
وعلى غرارِ “حماس” في وَضعِها السيادي، هناك حركة الحوثي في اليمن، التي تحاول حاليًا تعطيل الشحن والتجارة الدولية في البحر الأحمر وتثير المخاوف من نشوبِ حَربٍ أوسع نطاقًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ظهر الحوثيون في أعقاب الحرب الأوّلية بين ما كان يُعرَفُ آنذاك بشمال وجنوب اليمن، والتي انتهت في العام 1992. وحصلوا لاحقًا على دَعمٍ من إيران بعد أن امتدّت الانتفاضات العربية إلى دولة اليمن المُوَحَّدة وأسقطت نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح في العام 2012. منذُ ذلك الحين، اندلعت حربٌ أهلية طاحنة في اليمن، على الرُغمِ من أنَّ الحربَ في سوريا طغت عليها في كثيرٍ من الأحيان. وفي السنوات الأخيرة، تحوّلَ الصراع في اليمن بشكلٍ أساسي إلى حربٍ بالوكالة بين إيران، التي دعمت الحوثيين، والمملكة العربية السعودية، التي دعمت الحكومة اليمنية الانتقالية. حتى الآن، كانت العمليات العسكرية للحوثيين مُقتَصِرة على اليمن، حيث يمارسون سيطرتهم الإقليمية على جُزءٍ كبير من البلاد. لكنهم الآن، بدَعمٍ من إيران التي تُزَوِّدهم بالأسلحة والصواريخ والطائرات المُسَيّرة المُتقدّمة، يعملون على بسط نفوذهم على البحر الأحمر، وبالتالي شلّ التجارة العالمية.
ينظرُ البعضُ إلى تصرّفات أشباه الدول هذه ويُجادل بأنها تُوَضِّحُ اتجاهًا أوسعَ يفرضُ ضغوطًا على الوظيفة التقليدية للدول القومية المُتمثّلة في حُكمِ وتنظيمِ السكان المنتشرين على أراضي العالم. والواقع أنَّ هذه الفكرة تعودُ إلى عقودٍ من الزمن، وعلى الأخص خلالَ فترةِ التسعينيات الفائتة وفترةِ ما بَعدَ الحربِ الباردة مُباشَرةً. وكما كتبت خبيرة العلاقات الدولية البريطانية سوزان سترانج (1923-1998) في كتابها الصادر في العام 1996 بعنوان “تراجع الدولة” (Retreat of the State)، “يبدو اليوم أنَّ رؤساء الحكومات ربما يكونون آخرَ مَن يُدرِكُ أنهم ووزراءَهم فقدوا السلطة على المجتمعات والاقتصادات الوطنية”. وفي حين كان تركيز سترانج إلى حدٍّ كبير على الجهاتِ الفاعلة الاقتصادية، مثل الشركات المُتعدّدة الجنسيات، فإنَّ كلامَها يمتدُّ ليشمل جهاتٍ فاعلة أخرى أيضًا.
لكن لا ينبغي الخطأ. كما حاولَ البعضُ أن يُجادِلَ بأنَّ المستقبلَ ينتمي إلى شركاتِ التكنولوجيا وليس الدول، فإنَّ حجةً مُضادة مُماثلة تنطبق هنا. إنَّ هذه الجهاتَ الفاعلة غير الحكومية مُهمّة بسبب كيفية استجابة الدول القائمة لها. علاوةً على ذلك، فإنَّ السلطة التي يمارسها العديد من هذه الجهات الفاعلة غير الحكومية وأشباه الدول تعتمدُ على دَعمِ الدول القائمة والقوى الكبرى. كانَ من المُمكِنُ أن ينتهي دور “حماس” والحوثيين منذ فترة طويلة كجهاتٍ فاعلة سياسية بدونِ دَعمِ إيران. كما إنَّ أشباهَ الدول السيادية مثل تايوان وكوسوفو تحتاجان إلى دَعمِ الولايات المتحدة حتى تتمكّنا من الحفاظِ على وجودهما شبه السيادي في مواجهةِ المطالبات المتنافسة بالسيادة من جانب جمهورية الصين الشعبية وصربيا على التوالي. وكي لا ننسى، فإنَّ بعضَ هذه الجهاتِ الفاعلة تسعى هي نفسها إلى أن تُصبِحَ دولًا أو السيطرة على دول، مثل “حزب الله” في لبنان الذي يُهَيمِنُ على الدولة وقراراتها ويحاول توجيهها حسب أجندته الإقليمية بدعمٍ من إيران.
وبهذا المعنى، لا يعني ذلك أنَّ الجهاتَ الفاعلة غير الحكومية ليست مُهِمّة، ولكنَّ النظامَ الدولي لا يزالُ خاضعًا لهَيمَنَةِ الدول القومية. واعترف كينيث والتز، وهو باحثٌ أميركي في العلاقات الدولية ركّزَت أبحاثه لفترةٍ طويلة على قوة الدول، أنه على الرُغمِ من أهمّيةِ الجهاتِ الفاعلة غير الحكومية، إلّا أنها “لم تُظهِر أيَّ علامةٍ” على التطوُّرِ إلى درجةِ منافسة أو تجاوز القوى العظمى أو حتى القوى الصغيرة.
مع ذلك، في حين أنه من الواضح أنَّ الشؤونَ العالمية لا تزالُ خاضعةً لهَيمَنَةِ الدول القومية، فمن الواضح أيضًا أنَّ الدولَ القومية يجب أن تتعاملَ مع ما هو أكثر من مجرّدِ دولٍ قومية أخرى. وهذا جُزءٌ من الواقع الراهن الذي يَخلُقُ التعقيدَ والتحدّيات التي تُواجِهُ العلاقاتَ الدوليّة والحَوكَمة العالمية. وهذا الزمن يُوَضّحُ ويُبرِزُ تلك التحدّيات بالكامل.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani