الهَدَفُ الأكبر في غزّة

ينبغي أن تتخذ الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون قرارًا تاريخيًا بإنهاء الصراع في الأراضي الفلسطينية الآن وتحريك الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، بسرعة نحو حلِّ الدولتين القابل للحياة أو سيتعيَّن على العالم أن يتعامل مع مستقبلٍ أكثر قتامة.

الرئيس السابق بيل كلينتون يتوسط حسني مبارك، ياسر عرفات وإسحق رابين والملك حسين: لم تنجح إتفاقات التطبيع بين كل هؤلاء لأنَّ حلَّ القضية الفلسطينية كما يجب لم يتم.

مروان المعشّر*

مع دُخولِ الحرب الإسرائيلية في غزّة شهرها الرابع، احتدَمَ الجَدَلُ حولَ مَن يجب أن يَحكُمَ القطاع عندما يتوقّف القتال. إقتَرَحَ البعضُ تشكيلَ قوة عربية، وهي الفكرةُ التي رفضتها بالفعل مصر والأردن ودول عربية أخرى. واقترحَ آخرون إعادة بناء وتجديد السلطة الفلسطينية، مُتجاهِلين حقيقةَ أنَّ أقلَّ من عشرة في المئة من الفلسطينيين سيؤيدون مثل هذه النتيجة، وفقًا لاستطلاع رأي فلسطيني أُجريَ أخيرًا. ومع ذلك، هناك فكرة ثالثة تتلخّصُ في وَضعِ غزة تحت السيطرة الدولية، وهو النهجُ الذي رفضته إسرائيل أصلًا، والتي لا تريد أن تكون هناك مثل هذه السابقة.

لكن هناك سببًا أكبر يجعل هذه الحلول المُتَصَوَّرة محكومًا عليها بالفشل: فهي جميعها تتعامل مع غزة بمعزلٍ عن غيرها، وكأنَّ من المُمكن مُعالجة وضعها من دون النظر إلى القضية الأوسع المُتَمَثِّلة في الدولة الفلسطينية وتقرير المصير. بهذه الطريقة في التفكير، بمجرّد اختفاء “حماس” والإجابة عن السؤال حَولَ مَن يحكم غزة، فقد يكون من الممكن العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا من قبل. وكلٌّ من الافتراضَين مُعيبٌ في الأساس، وأيُّ سياسةٍ تعتمد عليهما ستؤدّي إلى كارثة.

ولكي يكون حلُّ مُستَقبل غزّة مُستدامًا حقًا، فلا بدَّ أن يُوضَعَ في إطارِ نهايةٍ أكبر لجميع الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية. ويتعيَّن عليه أخيرًا أن يُعالج السبب الجذري للعنف الذي لا ينتهي: الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية وقطاع غزة والضفة الغربية. أوضَحَت سنواتٌ من المفاوضات الفاشلة أيضًا ما سوف تتطلّبه مثل هذه الخطة حتى تنجح: خلافًا للعديد من سابقاتها، لا بدَّ أن تكون ذات مصداقية ومُحَدَّدة بفترةٍ زمنية، ولا بدَّ أن تكون نهاية اللعبة في حدِّ ذاتها مُحَدَّدة بشكلٍ جيد في البداية.

إنَّ إنشاءَ مثل هذه العملية الشاملة سوف يتطلّبُ جُهدًا استثنائيًا. لكنَّ البديلَ أسوأُ بكثير. لقد أدت الحرب الحالية بالفعل إلى مقتلِ أعدادٍ كبيرة من المدنيين، وتدمير غزة، وتقويض أمن إسرائيل والدعم الدولي، وخلق 1.5 مليون لاجئ فلسطيني جديد، والتهديد الذي يلوح في الأفق بحدوث المزيد من الترحيل الجماعي للفلسطينيين إلى خارج أراضي أجدادهم. وأي محاولة لحلِّ مشكلة اليوم التالي من خلال العودة إلى النماذج القديمة لن تؤدّي إلّا إلى تكرار هذه الكوارث مرة أخرى.

نهاية اللعبة المفقودة

لكي نفهمَ النطاقَ الحقيقي لمشكلة اليوم التالي، فمن الضروري أوَّلًا الإدراك أنَّ الصراعَ الحالي لم يبدأ بالهجوم الذي شنّته حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. كما إنه لا يقتصر على قطاع غزة وحده. على الرُغم من أنَّ القضية الفلسطينية بدأت مع حرب العام 1948، التي جُرِّدَ خلالها وطُرِدَ ما يُقدَّر بنحو 750 ألف شخص من منازلهم، فإنَّ أفضلَ نقطة انطلاق لأزمة اليوم هي حرب العام 1967. هذه الحرب أدّت إلى احتلال إسرائيل لقطاع غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وأنتجت ما يُقَدَّر بنحو 300 ألف لاجئ فلسطيني جديد. كما تُمثّلُ بدايةَ عقود من الجهود لإنهاء الاحتلال وإقامة مستقبل فلسطيني قابلٍ للحياة.

كانت المحاولة الأولى من هذا النوع هي القرار رقم 242 الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي في تشرين الثاني (نوفمبر) 1967. ورُغمَ أنَّ القرارَ أشارَ إلى “عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب”، فإنه لم يَتَصَوَّر إقامة دولة فلسطينية مُنفَصِلة. بدلًا من ذلك، كان من المُفتَرَضِ أن يعودَ قطاع غزة إلى السيطرة المصرية والضفة الغربية إلى السيطرة الأردنية. كما إنَّ القرارَ لم يُحَدِّد إطارًا زمنيًا لإنهاء الاحتلال، واكتفى بالدعوة إلى عمليةٍ سياسيةٍ مفتوحة وغير مُلزِمة. وجرت مفاوضاتٌ غير مباشرة بين الأطراف الأردنية والمصرية والإسرائيلية عبر وسيطٍ أممي، من دون التوصّل إلى أيِّ نتائج.

بعدَ عقدين ونصف من الزمن، نجح مؤتمر مدريد ــالذي أطلقه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في العام 1991 بعد حرب الخليج الأولى ــ في جلب الفلسطينيين أخيرًا إلى طاولة المفاوضات مباشرة. ومع ذلك، مرة أخرى، تركت العملية نهاية اللعبة غير واضحة مع الإشارة إلى القرار 242، الذي فسّرته إسرائيل بطريقةٍ مختلفة تمامًا عن المجتمع الدولي. (رُغمَ أنَّ القرار دعا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، فإنَّ إسرائيل فسَّرت ذلك على أنه لا يعني الانسحاب من كل هذه الأراضي، بل يعني فقط ما يسمى بالحدود الآمنة التي لم تُحدّدها قط). وحتى بعد أن بدأ الفلسطينيون التفاوض بشكلٍ مُنفَصِلٍ مع إسرائيل مع وصول رئيس الوزراء الراحل إسحق رابين إلى السلطة في حزيران (يونيو) 1992، لم تُحَدِّد العملية قط إقامة دولة فلسطينية مُنفَصِلة كهدفٍ للمفاوضات.

ثم جاءت اتفاقيات أوسلو في العام 1993، والتي ربما كانت الأكثر شهرةً بين كل جهود السلام. في هذه الحالة، لم يقتصر الأمر على اعتراف الجانبين ببعضهما البعض وإنشاء سلطة فلسطينية مؤقتة في غزة وأجزاء من الضفة الغربية فحسب، بل إنهما أسّسا أيضًا لعمليةِ مُفاوضاتٍ تدومُ خمس سنوات نحو السلام الدائم. ولكن على الرُغم من أنَّ العملية كان من المفترض أن تؤدي إلى حلٍّ دائمٍ للصراع، فإنَّ الأطراف فشلت في تحديد ماهية هذا الحل: بعبارة أخرى، لم تكن نهاية اللعبة واضحة في البداية. فضلًا عن ذلك فإن اتفاقيات أوسلو لم تُجَمِّد النشاط الاستيطاني، وهذا يعني أنَّ الجانبين كانا يتفاوضان حول مستقبل الأراضي المحتلة في الوقت الذي كان أحدهما ــالإسرائيلي ــ مُستَمِرًّا في تغيير جغرافية هذه الأراضي وتركيبتها السكانية. والواقع أنَّ رابين، في خطابه الأخير أمام الكنيست في أيلول (سبتمبر) 1995، حيث صدَّقَ البرلمان على الجُزء الثاني من اتفاقيات أوسلو، أعلن أنَّ هدفَ إسرائيل هو “كيانٌ فلسطيني أقل من دولة”.

الواقع أنَّ اللاعبين الرئيسيين في الصراع لم يتَّفقوا على نموذج حلّ الدولتين حتى العام 2000، قرب نهاية ولاية الرئيس الأميركي بِيل كلينتون. في ذلك الوقت، عرض كلينتون على الجانبَين إطارًا شاملًا يقوم على إقامة دولة فلسطينية، تُحدّدها إلى حدٍّ كبير حدود العام 1967، والتي سيتم إنشاؤها إلى جانب دولة إسرائيل، مع ترتيباتٍ خاصة للقدس، واللاجئين، والأمن. وعندما فشلت مفاوضات اللحظة الأخيرة حول هذه المعايير واندلعت الانتفاضة الثانية، أصبح الطرفان على قناعةٍ بأنه ليس لديهما شركاء للسلام على الطرف الآخر من الطاولة. وتوالت الجهود منذ ذلك الحين، بما في ذلك مبادرة السلام العربية لعام 2002، وخارطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط للفترة 2002-2003، ومؤتمر أنابوليس في العام 2007، والديبلوماسية المكوكية التي قام بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في العام 2013 –وهي آخر الجهود الرسمية التي بذلتها الولايات المتحدة للمساعدة في التفاوض على تسويةٍ سلمية– وقد فشلت جميعها.

ورُغمَ وجود أسبابٍ عديدة وراء تعثّرِ كل جولة من هذه الجولات من المفاوضات، إلّا أنها كانت تُعاني من أوجهِ قصورٍ أكبر كانت مُشتَرَكة بين غالبيتها: فقد كانت في أغلب الأحوال تقريبًا إما مفتوحة النهاية أو لم تحدد نهاية اللعبة في البداية. كما إنها افتقرت إلى آلية مراقبة ذات مصداقية للتأكّد من أنَّ الأطراف تفي بالتزاماتها التدريجية على الطريق المؤدّي إلى التسوية الدائمة. علاوةً على ذلك، في مناسباتٍ عديدة، انهارت المفاوضات بسبب ما يجب أن تؤولَ إليه النتيجة النهائية بدلًا من الخطوات اللازمة للوصول إلى هذا الهدف.

من الفشل إلى الكارثة

بالنسبة إلى الفلسطينيين، كانت عواقب هذه الإخفاقات مُدَمِّرة. فقد تمكّنت إسرائيل من مواصلة النشاط الاستيطاني، الذي يُعتَبَرُ غير قانوني بموجب القانون الدولي، في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية (وحتى العام 2005 في قطاع غزة)، فاستحوذَت على أراضٍ فلسطينية وجعلت إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرًا متزايد الصعوبة. منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، ارتفع عدد المستوطنين الإسرائيليين من حوالي 250 ألفًا إلى أكثر من 750 ألفًا، أي ما يقرب من ربع السكان في كامل الضفة الغربية والقدس الشرقية، في حين أدّى التوسّعُ المستمر في المستوطنات إلى تفكيك وتقسيم الأراضي الفلسطينية المُتاخِمة بشكلٍ مطرد.

في خضمِّ هذه المفاوضات الفاشلة، عانى قطاع غزة من مصيرٍ قاسٍ بشكلٍ خاص. في العام 2005، قرّرَ رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون الانسحاب من غزة بشكلٍ أحادي، مُنهِيًا الوجود العسكري الإسرائيلي المباشر هناك. لكنَّ الحكومة الإسرائيلية قامت ببناءِ حاجزٍ أمني حول القطاع لعزله، وواصلت إسرائيل السيطرة على مَن يدخل ويخرج من القطاع. كما منعت إسرائيل سكانه الفلسطينيين من امتلاك مطار أو ميناء بحري، ما أدّى فعليًا إلى عزل قطاع غزة عن العالم. ونتيجةً لذلك، استمرَّ الاحتلال الإسرائيلي فعليًا، وكانت له عواقب وحشية. وبعد أن سيطرت “حماس” بشكلٍ كامل على القطاع في أعقاب الانقسام مع السلطة الفلسطينية والانفصال عنها في العام 2007، تدهورت الظروف المعيشية إلى درجة انخفض فيها دخل الفرد في قطاع غزة إلى جُزءٍ صغيرٍ من دخل الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية.

ثم، عندما انتهت ولاية إدارة باراك أوباما، تخلّت الولايات المتحدة تمامًا عن المفاوضات بين الجانبين. أوّلًا في عهد الرئيس دونالد ترامب ثم في عهد الرئيس جو بايدن، استبدلت واشنطن جهود صنع السلام باتفاقيات أبراهام، وهي سلسلة من المعاهدات الثنائية بين العديد من الدول العربية وإسرائيل والتي لا تَستندُ إلى صيغة “الأرض مقابل السلام” المُستَمَدَّة من القرار 242. ولم يكن للفلسطينيين أيُّ دورٍ على الإطلاق. وافترضت إدارة بايدن، على وجه الخصوص، أنها إذا شجّعت التعاون الإقليمي، فإنَّ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن أن ينتظر أوقاتًا مُلائمة أفضل. في المقابل، استخدمت الحكومة الإسرائيلية الاتفاقيات لتقول إنه لم يعد من الضروري التوصّل إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين، حيث يمكنهم إبرام اتفاقيات مُنفَصِلة مع الدول العربية في المنطقة.

هذا هو السياق الذي وقعت فيه هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر). إن استهدافَ المدنيين أمرٌ بغيضٌ في أيِّ سيناريو، بغضِّ النظر عن الجانب الذي يكون مُرتَكِبه. ولكن من المستحيل تجاهل حقيقةً مفادها أنَّ قطاعَ غزة تحوّلَ إلى سجنٍ عملاق مُسَوَّرٍ على مدى الأعوام العشرة الماضية، حيث يعيش الملايين من السجناء الذين لم يعد لديهم أيُّ سببٍ يجعلهم يعتقدون أنَّ الاحتلالَ قد ينتهي.

المُتَطَلَّبات الأساسيّة للسلام

أدركت إدارة بايدن أنه ستكون هناك حاجة إلى عمليةٍ سياسية بعد انتهاء الحرب في غزة. مُستَرشِدةً بحرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، التي أدّت في النهاية إلى السلام بين مصر وإسرائيل، وحرب الخليج الأولى في العام 1991، التي أدّت إلى مؤتمر مدريد، بدأت إدارة بايدن مناقشة خطط اليوم التالي لغزة. ولكن إذا كان هذا التفكير مُقتَصِرًا على مَن سيحكم غزة بعد “حماس”، أو إذا التزمت واشنطن بعمليةٍ مفتوحة تُكَرّرُ ببساطة أخطاءَ العمليات السابقة، فإنَّ احتمالات النجاح تصبح معدومة عمليًا. إنَّ الفلسطينيين، بغالبيتهم الساحقة، يشعرون اليوم أنَّهم خُدِعوا، وانخرطوا في الجهود السلمية لإنهاء الاحتلال بينما كانت إسرائيل تخلقُ حقائقَ على الأرض تجعل حلّ الدولتين مُستحيلًا. وبالتالي، فإنَّ أيَّ عمليةٍ سياسيّة في غزة يجب أن تكون ذات مصداقية، ومُحدَّدة زمنيًا، وذات نهاية مُحَدَّدة بوضوح – قبل بدءِ أيِّ مفاوضات. وإلّا فإنه سيكون الأمر مجرّد مَضيَعة للوقت.

اعتبارًا من الآن، من الأهمية بمكان الاعتراف بأنَّ العناصرَ الضرورية لعمليةٍ جادة بقيادة الولايات المتحدة غائبة. تدخل الولايات المتحدة عامًا انتخابيًا تكون فيه فُرَصُ إطلاق عملية سلام تتطلّب ممارسة الضغط على جميع الأطراف، وخصوصًا على إسرائيل، بعيدة. كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية مرارًا وتكرارًا أنها لا تنوي إنهاء الاحتلال أو المساعدة على إنشاء دولة فلسطينية. وعلى الرُغم من أنَّ غالبية الإسرائيليين تُحمّلُ الحكومة الحالية مسؤولية الهفوات الأمنية التي حدثت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) -وتشير استطلاعات الرأي إلى أنَّ المعارضة ستفوز بسهولة في الانتخابات الجديدة إذا أجريت غدًا- إلّا أنَّ الانقسامَ العام في إسرائيل اليوم لم يعد بين المعسكرات المؤيدة للسلام والمناهضة للسلام، كما كان الحال قبل عقود. بدلًا من ذلك، فإنَّ الأمرَ يدورُ فقط بين المعسكرين المؤيد والمعارض لبنيامين نتنياهو، حيث يتّخذُ الجانبان موقفًا مُتشدّدًا ومُتطابقًا تقريبًا ضد قيام دولة فلسطينية.

في الوقت نفسه، فقدت السلطة الفلسطينية الكثير من مصداقيتها وشرعيتها. فهي لم تعقد انتخابات منذ العام 2006، وكانت نسبة تأييدها مُنخَفِضة للغاية، حتى قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وفي استطلاعٍ للرأي أُجرِيَ أثناء وقف إطلاق النار القصير في غزة في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، وجد المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أنَّ 88% من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة يريدون استقالة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. ويريد سبعة في المئة فقط أن تحكُمَ السلطة الفلسطينية بقيادة عباس غزة بعد الحرب. لا يُمكنُ لأيِّ طرفٍ أن يَدَّعي أنه يُمثّلُ الفلسطينيين في أيِّ عمليةٍ سياسية بدون انتخابات، لكن من المؤكد تقريبًا أنَّ السلطة الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة ستُعارِضُ إجراء مثل هذه الانتخابات في المدى القريب، نظرًا لأنَّ “حماس” قد تحصل على أكثرية الأصوات، كما يشير الاستطلاع. وفي حين يُشيرُ الاستطلاع نفسه إلى أنَّ شخصياتٍ مثل مروان البرغوثي تتمتّع بدعمٍ واسع النطاق بين جماهير “فتح” و”حماس”، فمن المشكوك فيه أن توافق إسرائيل على إطلاق سراحه، وذلك على وجه التحديد لأنَّ الحكومة الحالية ليست مُهتَمّة بالتوصّلِ إلى صفقةٍ سياسية.

لكن على الرُغمِ من هذه الصعوبات، فمن المُفيدِ تحديد العناصر المُحدّدة التي تتطلّبها عملية ذات مصداقية حتى تتمكّن واشنطن من تجنّب مخاطر وعثرات المفاوضات السابقة. أوّلًا، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تُقدّمَ خطةً سياسية تُحدّدُ هدفًا مُحدَّدًا بوضوح يتمثّلُ في: إنهاء الاحتلال خلال إطارٍ زمنيٍّ مُحَدَّد، ولنَقُل من ثلاث إلى خمس سنوات؛ تحديد الحدود بشكلٍ دقيق على أساس خطوط 1967 مع تبادلات طفيفة ومتبادَلة للأراضي لاستيعاب المستوطنات على طول الحدود والتي ستكون خاضعة للمفاوضات؛ إصدار الأمم المتحدة قرارًا يعترف بالدولة الفلسطينية على أساس حدود العام 1967، على أن يتمَّ الاتفاق على التفاصيل من خلال المفاوضات؛ تجميد البناء الاستيطاني الجديد بالكامل.

بعد ذلك، لتنفيذ هذه الخطة، يجب أن تُركّزَ المفاوضات على الخطوات اللازمة للوصول إلى الهدف بدلًا من التركيز على الشكل الذي قد تبدو عليه نهاية اللعبة. العديد من الخطوات الممكنة الضرورية معروضٌ ومعروفٌ أصلًا. وينبغي إجراء استفتاءات حول الخطة في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة من أجل الحصول على الدعم والضمان الشعبي: حيث سيذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع على أساس الأفق السياسي المُحَدَّد بوضوح للخطة، وهو ما قد يكسر ويُغيِّرُ الانطباع لدى كلا الجانبين القائل بأنَّ حلَّ الدولتين لم يعد مُمكِنًا. في هذا الإطار، تصبح مسألة مَن يَحكُم غزة خطوة على الطريق نحو إنهاء الاحتلال وليس نهاية اللعبة في حدِّ ذاتها: ففي مسائل الحُكم، ينبغي التعامل مع قطاع غزة والضفة الغربية باعتبارهما كيانًا واحدًا.

بمجرّد أن تبدأ مثل هذه العملية، فسوف يكون لدى الجانبين الحافز لإعادة النظر في الحلول التي تمَّ رفضها في الماضي بسبب غياب إطارٍ سياسي شامل أو جدولٍ زمني ملموس. على سبيل المثال، من الممكن أن تتحوَّلَ عملية إعادة إعمار غزة إلى خطوةٍ على الطريق نحو التسوية النهائية، مع استعدادِ أطرافٍ مثل دول الخليج، والاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي للمشاركة على نحوٍ غير مسبوق اليوم. (تقدم حالة سوريا درسًا مفيدًا هنا: رُغمَ أنَّ الحربَ الأهلية قد انتهت فعليًا منذ ما يقرب من خمس سنوات، فإنَّ عملية إعادة الإعمار لم تتم إلّا قليلًاً في غياب خطة شاملة لمستقبل البلاد). من الممكن إنشاء صندوقٍ دولي لمساعدة الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية على البقاء والصمود في أراضيهم لتخفيف المخاوف بين الفلسطينيين من أنه سيتم نقلهم وتهجيرهم بشكلٍ جماعي خارج أراضيهم التاريخية. ومن الممكن بعد ذلك إحياء مبادرة السلام العربية، التي عرضت معاهدات سلام جماعية وضمانات أمنية جماعية لإسرائيل من جانب جميع الدول العربية، مما يمنح الدول العربية دورًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا في الأراضي الفلسطينية وحافزًا قويًا للإسرائيليين لتبنِّي هذه المبادرة.

ورُغمَ أنَّ هذا المخطّط قد يبدو طموحًا، إلّا أنه يرتكز على الواقعية: فالغرضُ منه يتلخّص في إظهار ما قد تستلزمه عمليةٌ سياسيّة جادّة، والتوضيح بأنَّ عمليات الماضي الفاشلة لا يُمكِنُ إحياؤها ببساطة. ومن الجدير بالذكر أن هذه الخطة تترك جانبًا القضية الأكثر صعوبة، وهي ما يجب فعله بالمستوطنات القائمة. حتى لو توفّرت الإرادة السياسية لدى الجانبين لإنهاء الاحتلال وتبنّي حلّ الدولتين، فإنَّ التوصّلَ إلى حلٍّ مُبتَكَرٍ لمسألة الاستيطان سوف يظل مهمة شاقة. إذا قرر المجتمع الدولي أن هذه الخطة الشاملة غير واقعية إلى حد كبير بحيث لا يمكن تحقيقها، فيتعيّن عليه أن يزن ويعي تكاليف البدائل.

من سيِّئٍ إلى أسوَإٍ

إذا ثبت في نهاية الحرب في غزّة أنَّ تنفيذَ عمليةٍ سياسيةٍ جدية أمرٌ مستحيل، فقد تتكشّفُ ثلاثةُ سيناريوهات بديلة. أوّلًا، يُمكِنُ للأطراف العودة إلى انتظار وقت أفضل وأكثر هدوءًا، مثلما فعلت الولايات المتحدة في السنوات التي سبقت هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر). وهذه الاستراتيجية، إذا ما اتُّبِعَت الآن، ستفشل بالتأكيد. فهي تفترضُ أنَّ حلَّ الدولتين هو في النهاية النتيجة المُفضَّلة لجميع الأطراف، وأنَّ الأمرُ ببساطة يتعلق بوجود القوى السياسية المناسبة في السلطة لتحقيق ذلك. لكن في إسرائيل، انخفضَ الدَعمُ في الكنيست لاتفاقية سلام لتقاسم الأرض من أغلبية الأعضاء قبل 30 عامًا إلى ما لا يزيد عن 15 عضوًا اليوم. علاوة على ذلك، فإنَّ منطق الانتظار يفترضُ وجود وضع راهن ثابت، ومن الواضح أنَّ الأمرَ ليس كذلك نظرًا لاستمرار إسرائيل في توسيع المستوطنات. وإذا كان عدد المستوطنين اليوم يجعل من الصعب للغاية فصل المُجتمَعَين إلى دولتين، فقد يصبح الوضع أسوأ بشكل لا رجعة فيه في غضون سنوات قليلة، بمجرد أن يتجاوز عدد المستوطنين المليون.

البديلُ الثاني، في غيابِ عمليةٍ سياسيةٍ جادّة، قد يكون الوضع أسوأ من ذلك: النقل والتهجير الجماعي (الترانسفير) للفلسطينيين من أرضهم التاريخية إمّا بالقوة أو بجعل الحياة الفلسطينية في الأراضي المحتلة غير مقبولة أو لا تُطاق. السبب وراء ضرورة أخذ مثل هذه النتيجة الجذرية على محمل الجد هو الواقع الديموغرافي الذي تواجهه إسرائيل الآن: فقد بلغ عدد العرب الفلسطينيين في المناطق الخاضعة لسيطرة إسرائيل الآن 7.4 ملايين نسمة، وهو عددٌ أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين داخل إسرائيل والأراضي المحتلة والذي يبلغ 7.2 ملايين نسمة. وبالنظر إلى أنَّ إسرائيل في الوقت الحاضر لا تريد إنهاء الاحتلال وقبول حلّ الدولتين، ونظرًا إلى أنها لا تريد أن تُصبحَ أقلّية تحكم الأغلبية وهو وضعٌ يصفه العديد من منظمات حقوق الإنسان بالفصل العنصري، فإنَّ خيارها المُفضَّل سيتمثل في نقل وتهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين خارج الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية: من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية إلى الأردن.

وقد أوضحت الحكومة الإسرائيلية بالفعل أنها تُفكّرُ بهذا الحل. لقد أصبحت أجزاءٌ كبيرة من غزة غير صالحة للسكن عمليًا، وقام العديد من الوزراء الإسرائيليين، بمَن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بالترويج لفكرة نقل الفلسطينيين إلى بلدان أخرى. كما صَوَّرَ العديد من المُعلّقين الإسرائيليين والدوليين القرارات المصرية والأردنية بإغلاق حدودهما أمام الفلسطينيين على أنه عملٌ غير إنساني، ربما للضغط على كلا الدولتين للسماح للفلسطينيين بالفرار. لكن من الواضح أنَّ الحكومة الإسرائيلية ستمنعهم بعد ذلك من العودة.

لكن أي محاولة لنقلٍ جماعي لن تكون سهلة التنفيذ. لقد لفت الأردن ومصر بالفعل الانتباه الدولي إلى هذا السيناريو، إلى الحدِّ الذي أبدت فيه الولايات المتحدة ودول أخرى معارضة قوية علنًا. ويبدو أن الفلسطينيين أنفسهم غير مُهتَمّين بالمغادرة، بعد أن تعلّموا من العام 1948، عندما أُجبِرَ 750 ألف فلسطيني وفلسطينية على مغادرة أراضيهم ولم يُسمح لهم العودة أبدًا.

وهذا يتركُ البديل الثالث وهو الأكثر ترجيحًا: إستمرارُ الاحتلال الإسرائيلي، ولكن الآن في ظلِّ ظروفٍ غير قابلة للاستمرار. إنَّ معدل المواليد لدى الفلسطينيين أعلى من نظيره بين اليهود الإسرائيليين، ومع فقدانهم الأمل على نحوٍ متزايد في احتمال قيام دولة فلسطينية، فإنَّ مطالبتهم بالمساواة في الحقوق مع الإسرائيليين سوف ترتفع بصوتٍ أعلى وأكثر إصرارًا. وقد يصبحُ الصراعُ بعد ذلك أكثر عُنفًا. ووفقًا لاستطلاعٍ أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، فإنَّ 63% من الفلسطينيين اليوم يقولون إنهم يؤيدون المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال. والواقع أنَّ مثل هذه المقاومة كانت بدأت بالفعل في الضفة الغربية في الأشهر التي سبقت السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، حيث حمل شبابٌ بلا قيادة السلاح وأطلقوا النار على الإسرائيليين.

علاوةً على ذلك، إذا اختارت مواصلة الاحتلال، فإنَّ التحدّي الذي تواجهه إسرائيل لن يكونَ داخليًا فقط. تواجه البلاد أيضًا جيلًا شابًا ناشئًا في الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية الأخرى الذي أظهر أنه أكثر دعمًا للفلسطينيين وقضية المساواة في الحقوق من أسلافه. ومع صعود هذا الجيل إلى مناصب السلطة، فسوف يتزايد انتقاد العالم للاحتلال الإسرائيلي، وسوف يتحوّلُ التركيز من تعريف تسوية سلمية وَهمية إلى معالجة مشكلة الظلم العميق في الأراضي المحتلة إلى أجلٍ غير مسمى. ومن المرجح أيضًا أن يؤدّي ذلك إلى عزلة إسرائيل بشكلٍ متزايد على المسرح العالمي.

هذا هو المكان الذي من المُرَجَّح أن ينتهي فيه استمرار الوضع الراهن. ومن المؤكد أن المجتمع الدولي يتحمّل جُزئيًا المسؤولية عن كلِّ أعمال العنف التي تتكشَّف اليوم. من خلال التخلّي عن أيِّ محاولة جادة لمعالجة الأسباب الأساسية للصراع في الأعوام الأخيرة، ساعد زعماء الغرب، فضلًا عن حكومات المنطقة، على خلق الوضع القائم الآن والذي لا يُمكن الدفاع عنه. ومن الممكن أن تبدأ عملية أخرى على غرار العديد من العمليات السابقة. وإذا حدث ذلك فإنه أيضًا سوف يفشل، وسوف يستمر العنف في تحديد عالم الإسرائيليين والفلسطينيين. فإما أن تتخذ الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون قرارًا تاريخيًا بإنهاء الصراع الآن وتحريك الجانبين بسرعة نحو حلِّ الدولتين القابل للحياة أو سيتعيَّن على العالم أن يتعامل مع مستقبلٍ أكثر قتامة. وفي القريب العاجل، لن يعودَ الأمرُ يتعلّق بالاحتلال، بل بالمسألة الأكثر صعوبة المتمثلة في الفصل العنصري الصريح. الاختيارُ لا يمكن أن يكون أكثر وضوحًا.

  • مروان المعشّر هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. شغل منصب وزير خارجية الأردن من العام 2002 إلى عام 2004 ونائب رئيس الوزراء من العام 2004 إلى العام 2005. يمكن متابعته عبر منصة (X) على: @MarwanMuasher
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى