لوحاتهم الأَخيرة قبل الغياب الأَخير

فيرمير: “السيدة إِلى آلة العزف” (1670)

هنري زغيب*

عن أَبي الطب “هيبُّوقراط” (460-370 ق.م.) أَنَّ “الحياة محدودة لكن الفن لامحدود”. كلُّ فنان مبدع يترك بعده آثارًا خالدة تعيش طويلًا بعد غيابه. منهم من غاب بسبب مرض قاتل، منهم بسبب نوبة قلبية، منهم بسبب انهيار مالي قاصم، وخطفهم الموت من آخر أَعمالهم. وكلُّ عمل أَخير تركوه، كان رائعًا من فنان مبدع ظلَّ يَنْبُض بريشته حتى نفَسه الأَخير.

هنا نماذج من آخر أَعمال فنانين من المرحلة الباروكية، والانطباعية، وما بعد الانطباعية، والرمزية، والواقعية. هي آخر لوحة وضعها صاحبها قبل أَن تسقط من يده الريشة.

كْلِمْتْ: “سيدة ومروحة يدوية” (1918)

فان غوخ: “جُذورُ الأَشجار”

قبل أَن يتلفَّظ فان غوخ (1853-1890) في تموز/يوليو بعبارته الأَخيرة حين كان في أُوفير (شمالي فرنسا): “الحزن سيستمرُّ إِلى الأَبد”، رسَم لوحته الأَخيرة لكنه لم يكملْها ليُوَقِّعها. وهو كتب فيها بريشته جذورًا زرقاء ملتفَّة متعانقةً في قلب تربة التلَّة. من هنا أَن لوحته هذه – بأَلوانها الساطعة وتفاصيلها شبه التجريدية – تعتبر فاتحة رائعة لمرحلة ما بعد الانطباعية، لأَنها تخطَّت ملامح الانطباعية العادية.

ماتيس: “الحُزمة” (1953)

كلود مونيه: “زنابق الماء”

فيما صحَّة كلود مونيه (1840-1926) كانت في سنواته الأَخيرة تنهار تباعًا، ظلَّ يَرسُم لوحاتٍ كبيرةً لزنابق الماء ناسخًا إِياها من حديقة منزله. وكان فيها مشهد ممتع لبحيرةٍ تحت جسر صغير ياباني. وكانت تلك المجموعة من نحو 40 لوحة كبيرة الحجم انطباعية بدأَ بها في آخر سنوات القرن التاسع عشر وخصوصًا منذ 1914 وواظب عليها حتى وفاته في كانون الأَول/ديسمبر 1926. ورمى منها إِلى إِعطاء الـمُشاهد نكهةً زاهيةً من المياه والأَزهار والمدى الواسع في الفضاء. لكنه، مع عينيه اللتين بدأَتا تخونانه بضعف البصر تدريجيًّا أَخذَت أَلوانه الـمُشْرقة تضعف نحو القتامة وتذبُل عن نبضة اللون والحياة لتتكاثر فيها الأَلوان الغامقة صوب البنّي والأَحمر الباهت، وظلَّت الأَلوان تغيب صوب الغموض حتى وقعَت من يده الريشة.

هوبّر” “الممثلان” (1965)

كارافاجيو: “استشهاد القديسة أُورسُولا”

آخر لوحة وضعها مايكلانجلو كارفاجيو (1571-1610) كانت من وحي القديسة أُورسولا (أُسطورة منسوجة من القرون الوسطى عن تلك الأَميرة التي أَبعدها والدُها الملك ديونوتُس فاغتالها ملك البدو الرُحَّل في كولونيا الأَلمانية نحو السنة 383م.). رسم كارافاجيو لحظة استشهادها بسهم قاتل مسموم من راميه ملك البدو الرُحَّل. وهو بأَلوانه القاتمة ولعبة النور والظل في اللوحة،  برعَ في استنطاق الغضب لحظة الاستشهاد بين الحياة والموت. واتخذ الرسام موقف المراقب الظاهر في يسار اللوحة الـمُعتم وهو يرى السهم القاتل في صدر الأَميرة المغدورة. وكانت تلك آخرَ لوحة رسمها قبل أَن يموت عن 38 عامًا وهو في عز عطائه.

فيرمير: “سيدة إِلى آلة العزف”

هي آخر لوحة وضعها يوهانس فيرمير (1632-1675). رسم فيها سيدة شابة محاطة بجو إبداعي: فوقها لوحة من دِك فان باربورِن سنة 1622، أَصابعها إِلى مكابس آلة موسيقية كبيرة (تشبه ما أَصبح البيانو في ما بعد)، قُربها ورقة نوطة موسيقية، وآلة تشبه الكمان الصغير مع عصاه، وجْهُها يلتفت صوب الـمُشاهد في نظرة غامضة التعبير. سنة 1672 وقع فيرمير ضحية عجز مالي قاصم ومات مقهورًا عن 43 سنة بسبب انهيار العملة في بلاده.

غوستاف كْلِمْتْ: “سيدة مع مروحة يدوية”

آخر لوحة وضعها كْلِمْتْ (1862-1918) هي هذه التي، بعد أكثر من قرن على غياب صاحبها، لا تزال حتى اليوم أَغلى لوحةٍ ثمنًا في مزاد علني أُوروبي. اكتُشفَت على ركيزة الرسم في محترف كْلِمْتْ نهار وفاته، مع أَنه كان بدأَ بها قبل سنة من وفاته. وهو وضعها بأُسلوبه الرمزي الجديد (فترتئذٍ)، وفي ملامحها تأْثير من فن “يوكِيُو” الياباني (في الرسم على الخشب)، في وسطها سيدة محاطة برموز صينية (الفينيق الطائر وتفتُّح أَزهار اللُوتُس) بما في الجو العام من مناخ شرق آسيوي. وتبدو بَشَرَةُ السيدة شاحبةً حتى  صدرها مع انزلاق الثوب الحريري عن كتفيها، في مناخ شهواني مثير تزيد من إِثارته الأَلوان الساطعة في كل اللوحة.

ماتيس: “الحُزمة”

بعد تشخيص مرضه بالسرطان وإِعاقته عن المشي والرسم والنحت، أَبقى هنري ماتيس (1869-1954) نبضه حيًّا بلجوئه إِلى اللصق (الكولاج)، يساعده معاونون على تلوين القطع بالغُواش قبل لصقها وتحويلها لاحقًا إِلى قطع من الخزف تبدو شبه متحركة في مشهد جمالي.

هوپــر: “الممثلان”

آخر عمل وضعه إِدوار هوپّــر Hopper ( 1882-1967) كان قبل سنتين من وفاته: هو وزوجته جوزفين بصيغة ممثلَين متماسكَي اليدَين كأَنهما في وقفةِ أَداءٍ تمثيلي، وحدهما على خشبة منفردة، ووراءَهُما خلفية سوداء. لا يظهر الجمهور، لأَن الوضع المسرحي لم يكن معتبَرًا من الفن العالي في التعبير، مع ذلك تعتبر هذه اللوحة من الروائع الخالدة في تاريخ الفن.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى