هَدَفُ “حماس” في غزّة: الاستراتيجية التي أدّت إلى الحرب – وماذا تَعني للمُستَقبَل؟
مع فَشَلِ قوّاتها في تحقيقِ أهدافها المُعلَنة في غزة، كَثَّفَت إسرائيل عملياتها العسكرية في الضفة الغربية من خلال الغارات اليومية، والاعتقالات الجماعية، وحملات القمع الشاملة، الأمر الذي يشير إلى أنَّ الجيش الإسرائيلي نفسه قد يساعد على تعزيز هدف “حماس” المُتمثّل في إعادة ربط غزة بالنضال الأوسع من أجل تحرير فلسطين.
ليلى سورات*
من بَينِ العَديدِ من الجوانبِ المُذهلة لهجوم حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) ضد إسرائيل، والذي تلقّى القليل من التدقيق هو الموقع. على مدار معظم العقد الفائت، لم يعد قطاع غزة ساحة معركة رئيسة للمقاومة الفلسطينية. إنَّ التوغّلات المُتكرّرة التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة، بما فيها عملية “الجرف الصامد” التي استمرّت شهرين تقريبًا في العام 2014، أغلقت “حماس” ووضعتها في وضعيةٍ دفاعية. وفي الوقت نفسه، فإنَّ الدفاعات الصاروخية المتطوِّرة في إسرائيل (خصوصًا القبة الحديدية) قد جعلت هجمات صواريخ “حماس” من القطاع غير فعّالة إلى حدٍّ كبير، وعَزَلَ الحصارُ غزّة عن بَقيَّة العالم.
على النقيض من ذلك، كانت الضفّة الغربية المحتلّة ساحةً أكثر وضوحًا للصراع. مع توسيع المستوطنات الإسرائيلية فيها والتوغّلات المُتكرّرة من قبل الجنود والمستوطنين الإسرائيليين في القرى الفلسطينية، فقد جذَبَت الضفة الغربية- إلى جانب المواقع المقدَّسة في القدس- الاهتمامَ المُستمِرّ لوسائل الإعلام الدولية. بالنسبة إلى “حماس” وغيرها من المجموعات المُسلّحة، كانت الضفّة هي الأرض الأنسب للمقاومة المسلحة الفلسطينية القومية. في الواقع ، بدا أنَّ إسرائيل كانت تُدرِكُ هذا: عشية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت القوات الإسرائيلية مشغولة بمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية، على افتراضِ أنَّ غزّة تُشكّلُ تهديدًا بسيطًا لا يتعدّى إطلاق صواريخ يمكن اعتراضها.
لكن عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) ناقضت بشكلٍ جذري هذا الرأي. لإطلاق العملية غير المسيوقة فجر ذلك اليوم، قامَ الجناح العسكري في “حماس” في غزة (كتائب عزّ الدين القسّام) بتفجيرِ معبر “إريز” مع إسرائيل وخرق حاجز الأمن في غزة في العديد من النقاط. عند قتل أكثر من 1200 من الإسرائيليين وأخذ أكثر من 240 رهينة، توقّعَ المهاجمون بوضوح استجابةً عسكرية واسعة النطاق ضد غزة، وهو التوقّع الذي تم تأكيده في الهجوم الجوي والبري العنيف للجيش الإسرائيلي. في المقابل، سيطرت الحملة الإسرائيلية، التي قتلت أكثر من 17,000 شخص فلسطيني وتسبّبت في دمارٍ هائلٍ في جميع أنحاء القطاع، على انتباه قادة العالم ووسائل الإعلام الدولية لأسابيع. في جوهرها، بعد سنوات من الانتقال إلى الخلفية، أصبحت غزة قلب المواجهة الإسرائيلية-الفلسطينية.
تُثيرُ مركزية غزّة المُتَجَدِّدة أسئلةً مُهمّة حول قيادة “حماس” العُليا. في السابق، كان من المُفتَرَضِ أنَّ تعملَ “حماس” إلى حدٍّ كبير من خارج القطاع من قبل قادتها في عمّان ودمشق والدوحة. لكن يبدو أنَّ هذا الفَهمَ قديمٌ وقد انتهت صلاحيته. على الأقل منذ العام 2017، عندما تسلم يحيى السنوار قيادة “حماس” الغزّاوية، خضعت الحركة لتحوّلٍ تنظيمي نحو غزّة نفسها. إلى جانب جعل القطاع أكثر استقلالية عن قادة “حماس” الخارجيين، ترأس السنوار تجديدًا استراتيجيًا ل”حماس” كقوة قتالية في غزة. على وجه الخصوص، كان يهدف إلى اتخاذِ إجراءاتٍ هجومية ضدّ إسرائيل ورَبطِ غزة بالكفاح الفلسطيني الأكبر. في الوقت نفسه، قامَ بتعديلِ استراتيجياتِ الحركة لحساب التطورات المتطورة في الضفة الغربية والقدس، بما في ذلك التوترات المتزايدة حول مسجد الأقصى. ومن المفارقات، بدلًا من عزل غزة، ساعد الحصار الإسرائيلي على إعادة القطاع إلى مركز اهتمام العالم.
الطريق من دمشق
كمنظّمةٍ سياسية وعسكرية ، تتمتّع “حماس” بأربعة مراكز للسلطة: قطاع غزة؛ الضفة الغربية؛ السجون الإسرائيلية، حيث كان يقبع العديد من كبار شخصيات “حماس”؛ و”الخارج”- قيادتها الخارجية. من بين هذه المراكز الأربعة، فإن القيادة الخارجية، التي تُديرُ مكتب “حماس” السياسي، كانت تُسَيطِرُ بشكلٍ عام على السياسة. في العام 1989، خلال الانتفاضة الأولى، أطلقت إسرائيل حملةَ قمعٍ ضد “حماس”، ما أجبر قادة الحركة على الفرار إلى الأردن ولبنان وسوريا. حوالي العام 2000، أصبحت دمشق مقر “حماس” الرئيس.
من مراكزهم في الخارج، حافظ هؤلاء القادة على السيطرة على الجناح العسكري للحركة في غزة، والمعروف ب”كتائب عز الدين القسّام” (أو كتائب القسّام). كما أجروا محادثات ديبلوماسية مع زعماء أجانب وحصلوا على دعم من مجموعةٍ من المانحين الأجانب، بما في ذلك من جمعياتٍ خيرية، مانحين خاصين، وبعد بدء عملية السلام في مدريد وأوسلو، من إيران. خلال هذه السنوات، كان القادة الخارجيون مُهَيمنين؛ بعضهم، مثل خالد مشعل، رئيس مكتب “حماس” السياسي، قد نشأ في المنفى. من عمّان، وبعد ذلك، من دمشق، كان مشعل والزعماء الآخرون يقررون الحرب والسلام، واضطرت “كتائب القسّام” في الأراضي الفلسطينية إلى التصرّف والعمل وفقًا لذلك، حتى عندما لم يوافق قادتها على هذه الأوامر الآتية من بَعيد.
لكن صدارة زعماء “حماس” الخارجيين تعرّضَت للتساؤل تدريجًا بعد أن اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، زعيم الحركة الروحي، في غزة في العام 2004. مكّن العديد من العوامل المنظمة الغزّاوية كَسبَ نفوذٍ أكبر. أحدُها كان فوز “حماس” في انتخابات العام 2006 وتشكيلها للحكومة، قبل وبعد سيطرتها على القطاع في حزيران (يونيو) 2007. بمجرد أن عزّزت إسرائيل حصارها، تمكّنَ قادةُ غزة من توليد الإيرادات من خلال التجارة عبر شبكتهم السرية من الأنفاق، ما جعل المنظّمة الغزّاوية أقل اعتمادًا على الدعم الاقتصادي للمغتربين.
“الربيع العربي” بشكلٍ عام، والانتفاضة السورية على وجه الخصوص، سرّعا التحوّل نحو غزة. في بداية الحرب الأهلية السورية، حاول زعماء “حماس” في دمشق التوسّط بين النظام السوري والمتمرّدين السنّة. لكنهم رفضوا الأوامر الإيرانية لإظهار الدعم غير المشروط للرئيس السوري بشار الأسد، وفي شباط (فبراير) 2012 قرروا أخيرًا مغادرة البلاد. استقرَّ نائب الرئيس موسى أبو مرزوق في القاهرة؛ ذهب مشعل إلى الدوحة، حيث انتقد بشدة إيران و”حزب الله”، الذي كان يساعد نظام الأسد. ردًّا على ذلك، أوقفت إيران الدعم المالي ل”حماس” على مرحلتين: في صيف العام 2012 وفي أيار (مايو) 2013، عندما حاربت “كتائب القسّام” قوات النظام السوري و”حزب الله” في معركة القصير. وقد خفّضت إيران مساعدتها الاقتصادية إلى “حماس” بمقدار النصف، من 150 مليون دولار إلى أقل من 75 مليون دولار في السنة.
هذه التوترات، إلى جانب تشتّت القادة، أضعف حركة “حماس” الخارجية. “لقد ساعد الرحيل من سوريا قيادة غزة كثيرًا كثيرًا” اعترف غازي حمد، وهو عضو كبير في “حماس”، عندما قابلته في غزة في أيار (مايو) 2013. “أنا لا أقول أنَّ القادة في غزة قد تجاوزوا القادة المُقيمين خارج غزة، ولكن هناك الآن توازن أكبر بين الاثنين”. والجدير بالذكر أنه على الرغم من التمزّق في سوريا، تمكّنت القيادة الغزّاوية من الحفاظ على روابط قوية مع إيران. كان هذا صحيحًا بشكلٍ خاص لأعضاءِ كبارِ “كتائب القسام” مثل مروان عيسى، نائب القائد العام للجناح العسكري ل”حماس” في غزة، الذي كان يسافر إلى طهران كلما كان ذلك مُمكنًا.
كان الحكم الذاتي المتزايد لمنظمة “حماس” العسكرية واضحًا أيضًا في حالة جلعاد شاليط، الجندي الإسرائيلي الذي تمَّ اختطافه ونقله إلى غزة في العام 2006. كان أحمد الجعبري، زعيم “كتائب القسام”، هو الذي طلب القبض على شاليط وهو الذي، جنبًا إلى جنب مع حمد، تفاوض على اتفاقية 2011 التي تم مناقشتها كثيرًا لإطلاق سراح شاليط. وفقًا للصفقة، تمَّ إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي في مقابل 1027 سجينًا فلسطينيًا كانوا مُحتَجَزين في السجون الإسرائيلية، ورأى العديد من الفلسطينيين أنه انتصارٌ كبير ل”حماس” في غزة. اغتالت إسرائيل الجعبري بعد عام وأطلقت هجومًا عسكريًا جديدًا ضد قطاع غزة المعروف باسم عملية “عمود الدفاع”.
في الوقت نفسه، لعبت العمليات العسكرية المُتكَرِّرة لإسرائيل في غزة دورها الخاص في تعزيز تأثير “كتائب القسام”. على الخطوط الأمامية في غزة، يُمكِنُ لهؤلاء المقاتلين المطالبة بدورٍ رئيس في الكفاح ضد إسرائيل على عكس القيادة الخارجية، التي تم تهميشها بشكلٍ متزايد. تقديرًا لأهمية “كتائب القسّام” المتزايدة، انضم ثلاثة من أعضائها في العام 2013 إلى مكتب “حماس” السياسي، ما أعطى الجناح المسلّح دورًا جديدًا ومباشرًا في اتخاذ القرارات السياسية.
مع استمرارِ الحصار، اكتسبت غزة أهمية أيضًا كأرضٍ رمزية ومكانٍ للتضحية، والتي احتاجها قادة “حماس” السياسيون للاعتراف بتعزيز شرعيتهم. على سبيل المثال، في العام 2012، للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين ل”حماس”، دخل مشعل، الذي كان آنذاك مُرشَّحًا لإعادة انتخابه كرئيس للمكتب السياسي، غزّة للمرة الأولى، وألقى خطابًا أثار فيه دماء الشهداء والتضحية من أمهات غزة “الأبدية”. قال: “أقول إنني أعود إلى هنا إلى غزة، حتى لو كانت هذه هي المرة الأولى التي أكون فيها هنا، لأن غزة كانت دائمًا في قلبي”.
ولكن في السنوات التي تلت العام 2017، أصبحت غزة مركزية بشكل متزايد بالنسبة إلى القيادة العُليا لحركة “حماس”. في ذلك العام، خلف مشعل في رئاسة المكتب السياسي إسماعيل هنية، الذي كان في السابق رئيسًا لحركة “حماس” في غزة. وقد فتحت هذه الخطوة الطريق أمام تعزيز العلاقات بين “حماس” والإيرانيين، الذين يتعاملون الآن بشكل مباشر مع محاوريهم في غزة. لعددٍ من الأسباب، بما في ذلك صعوبات السفر داخل وخارج غزة، والذي اعتمد على حسن النية المصرية، انتقل هنية في النهاية إلى الدوحة في كانون الأول (ديسمبر) 2019. لكن رحيل هنية يُشيرُ أيضًا إلى وصول يحيى السنوار إلى السلطة في غزة، وهو قائدٌ عسكري سابق في “حماس” الذي بدأ ينافس هنية في النفوذ.
إعادة تسليح المقاومة
كان السنوار شخصيةً حاسمة في تأسيس الجناح العسكري لحركة “حماس” في الثمانينيات الفائتة. أمضى حينها 22 عامًا في السجون الإسرائيلية، حيث ساعد على بناء قيادة “حماس”؛ وقد تم إطلاق سراحه في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 كجُزءٍ من صفقة الجندي جلعاد شاليط. كانت لدى السنوار رؤية استباقية للكفاح الفلسطيني المسلح: بالنسبة إليه، القوة الهجومية وتأكيد القوة هما وحدهما القادران على تمهيد الطريق لمفاوضاتٍ أكثر عدالة مع إسرائيل. وبعد أن أصبح رجل “حماس” القوي في غزة، بدأ وَضعَ هذه الرؤية موضع التنفيذ. وهكذا، سعى إلى استخدام سيطرة “حماس” على القطاع لانتزاعِ المزيد من التنازلات من إسرائيل، واستمرَّ في توسيع “كتائب القسام”، التي يُقَدِّرُ المُحَلّلون أن عددها ارتفع من أقل من 10 آلاف مقاتل في العقد الأول من هذا القرن إلى نحو 30 ألف مقاتل أو أكثر.
وفي صفوف “حماس” السياسية، كان أحمد يوسف، المستشار السابق لهنية، هو الوحيد الذي أبدى تحفّظاتٍ رسمية على تعيين السنوار. كان يوسف يشعر بالقلق من أنَّ الكثيرَ من سلطة اتخاذ القرار قد تمَّ نقلها إلى الأراضي الفلسطينية، وشعر أنَّ القيادة الخارجية يجب أن تستمر في الحصول على الأسبقية. كما أعرب عن قلقه من أنَّ علاقاتَ السنوار الوثيقة مع الجناح المسلح للحركة يمكن أن تعمل ضد “حماس”. ووفقًا ليوسف، فإن ذلك قد يمنح الإسرائيليين ذريعةً أخرى للتعامل مع غزة باعتبارها مجرّد أرضٍ خصبة للإرهاب الإسلامي.
لكن السنوار سرعان ما أثبتَ أنه قادرٌ على تحقيق نتائج. في العامين 2018 و2019، تمكّنَ من تحقيقِ تخفيفٍ نسبي للحصار الإسرائيلي من خلال تنظيم احتجاجاتِ “مَسيرةِ العودة” على حواجز غزة مع إسرائيل. وما لبثَت “حماس” أن استَغَلَّت هذه الاحتجاجات الأسبوعية، التي اجتذبت عشرات الآلاف من سكان غزة إلى الحدود للاحتجاج على الحصار، وأطلقت الصواريخ والبالونات الحارقة باتجاه إسرائيل. وردًّا على استراتيجية الضغط هذه، دخلت إسرائيل في نهاية المطاف في سلسلةٍ من الاتفاقات للسماح بالفتح المحدود للعديد من المعابر الحدودية، فضلًا عن زيادة الأموال القطرية التي سيتم تسليمها إلى غزة لدفع رواتب موظفي الخدمة المدنية. ومع ذلك، ظلَّ الكثيرون من الفلسطينيين في كلٍّ من غزة والضفة الغربية مُتَشَكّكين في “حماس”، واتهموها باستخدام المَسيرات لصَرفِ الانتباه عن الانتقادات المُتزايدة لحكمها واستخدام القوة والقمع فقط للدفاع عن مصالحها في غزة.
وفي العام 2021، اغتنم السنوار الفرصة لمُعالجةِ مشكلةِ مِصداقيةِ “حماس”. في ذلك الوقت، شنّت إسرائيل حملةَ قَمعٍ عنيفة ضدّ الفلسطينيين الذين كانوا يحتجّون على عمليات الإخلاء الإسرائيلية للسكان الفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جرّاح بالقدس الشرقية. وفي 20 أيار (مايو)، وبعد إصدارِ إنذارٍ نهائي، أطلقت “كتائب القسّام” آلاف الصواريخ على أشدود وعسقلان والقدس وتل أبيب. وبشكل عفوي، انتفض العرب الإسرائيليون في العديد من المدن الإسرائيلية تضامنًا مع الفلسطينيين في القدس، الأمر الذي مَكّنَ “حماس” من إعادة التواصل مع الفلسطينيين خارج غزة وتقديم نفسها باعتبارها حامية المدينة المقدسة. ومنذ ذلك الحين، ظلَّ اسم أبو عبيدة، المتحدّث باسم “كتائب القسام”، يُرَدَّدُ كلما احتج الفلسطينيون في القدس أو الضفة الغربية.
ومن الجدير بالذكر أنَّ التواصُلَ المُتزايد للقيادة في غزة مع الفلسطينيين خارج غزة جاء بعد فترةٍ وجيزة من تطبيع العلاقات بين البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة مع إسرائيل. من خلال الانضمام إلى هذه الاتفاقيات التي توسّطت فيها الولايات المتحدة -والمعروفة ب”اتفاقيات أبراهام”- أوضحت هذه الدول العربية أنها مستعدة لاتخاذ مثل هذه الخطوة التاريخية على الرُغم من الاحتمال الذي يلوح في الأفق بضمٍّ إسرائيلي كامل للضفة الغربية. بالنسبة إلى الفلسطينيين، كانت الغالبية الساحقة تنظر إلى هذا الأمر على أنه خيانة. وهكذا، ففي الوقت الذي كانت الدول العربية تشير إلى أنها لن تُدافِعَ بعد الآن عن الفلسطينيين، كانت “حماس” في غزة تُدافِعُ عن الضفة الغربية والقدس.
منذ العام 2021، حرصت “حماس” أيضًا على العمل تضامنًا مع الفلسطينيين ضد التهديدات الإسرائيلية المتزايدة للمسجد الأقصى في القدس، الرمز الوطني للفلسطينيين (والمقدَّس للمسلمين). وفي هذا السياق، فإن عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) التي نفّذتها “حماس” -والتي سمّتها “طوفان الأقصى”- هي جُزءٌ من المنطق نفسه لاستخدام القوة الهجومية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية ككل. والجدير بالذكر أنَّ قرارَ الهجوم يبدو أنه جاء من داخل منظمة “حماس” في غزة ولم يشمل القيادة الخارجية للحركة.
روايةُ قصّةٍ مُختلفة
منذُ بدأت الحربُ الإسرائيلية، نشرت “حماس” أيضًا استراتيجيةً إعلامية مُنَسَّقة للتأكيد على مركزية غزة في النضال الفلسطيني. وكان أهمها قدرة التنظيم على التواصل مع العالم الخارجي أثناء القتال. وعلى الرُغم من التعتيم على الإنترنت وقطعها في غزة، والقصف الإسرائيلي المُكَثَّف، وتدمير البنية التحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية في جميع أنحاء القطاع، واصلت “حماس” بث المعلومات من ساحة المعركة، ما يوفّر روايةً مُضادة متواصلة للروايات الإسرائيلية الرسمية عن الحرب. فمن خلال نشر مقاطع فيديو شبه يومية لتدمير الدبابات الإسرائيلية والادعاءات االتي تدحض استخدام المستشفيات كدروعٍ بشرية، ناقضت “كتائب القسّام” وحركة “حماس” في غزة عمومًا المزاعم الإسرائيلية وحافظت على بعض التأثير في تغطية وسائل الإعلام الدولية للحرب.
ولا يبدو أنَّ قادة “حماس” الخارجيين في الدوحة مُنخَرِطون في هذه الحملة الإعلامية، التي تمَّ إملاؤها وتوجيهها من غزة. وعلى النقيض من اتصالات “حماس” خلال عملية “الرصاص المصبوب”، الهجوم الإسرائيلي على غزة في العامين 2008 و2009، لم يعد رئيس المكتب السياسي ل”حماس” هو الذي يُعلّقُ على الأحداث الجارية من موقع خارجي، بل أصبح القائد العسكري –أبو عبيدة– هو الذي يُعلّقُ على الأحداث الجارية على الأرض في غزة نفسها. في الواقع، أصبح من الواضح بشكلٍ مُتزايد أنَّ السنوار وبقية قيادة “حماس” في غزة يحتقران أعضاء الحركة في الدوحة، الذين يعيشون في مكانٍ مريح وفاخر بعيدًا من الصراع.
من ناحيةٍ أُخرى، كان لممثلي “حماس” في لبنان دورٌ مُهم في حرب المعلومات الحالية. يعقد أسامة حمدان، الرئيس السابق لدائرة العلاقات الخارجية في “حماس” وأحد أبرز الشخصيات في المكتب السياسي، مؤتمرات صحافية منتظمة في بيروت يتحدّى فيها الروايات الإسرائيلية عن الحرب. وخلافًا لشخصيات “حماس” الأخرى، التي تخشى أن يكون السنوار قريبًا جدًا من “كتائب القسام”، يعتبر حمدان أنَّ التقارُبَ بين جناحَي “حماس” المدني والعسكري أمرٌ طبيعي تمامًا. كما إنه يشارك السنوار وجهة نظره بأنَّ استخدام القوة فقط هو الذي يمكن أن يساعد القضية الفلسطينية. (في مقابلة أجريتها مع حمدان في العام 2017 في بيروت، قارن حمدان “حماس” بالقيادة الإسرائيلية نفسها، مشيراً إلى أن “القادة السياسيين في إسرائيل، سواء نتنياهو أو رابين أو باراك أو بيريز، كانوا جميعًا أمراء حرب قبل أن يتولوا المسؤوليات السياسية”).
سعى حمدان في تصريحاته إلى تصوير الحرب ليس على أنها معركة “حماس” بل كنضالٍ عام من أجل تحرير فلسطين، ويدعو بقية العالم إلى دعم الفلسطينيين ضد ما يُشير إليه بـ”مشروع الإمبريالية الأميركية-الصهيونية”. ووفقًا له، أدّى هجوم 7 شرين الأول (أكتوبر) إلى مكاسب عدة للفلسطينيين: تحرير فلسطينيين مسجونين في إسرائيل، ووضع الجيش الإسرائيلي في وضعٍ صعب على الأرض، وإجبار السكان الإسرائيليين على إخلاء البلدات الشمالية المُتاخمة للبنان ومن المناطق المحيطة بغزة. ويزعم حمدان أن الصعوبات المتزايدة التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في حملته البرية في غزة هي التي جعلت إسرائيل مستعدة لوقف القتال وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين مقابل إطلاق سراح بعض الرهائن الإسرائيليين. ويؤكد حمدان أيضًا أن إسرائيل قررت استئناف عمليتها العسكرية في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) لأنها فشلت في تحقيق أهدافها خلال المرحلة الأولى من القتال.
لم تمر رواية “حماس” من دون ردٍّ وتعليقاتٍ في وسائل الإعلام العربية الرسمية، وخصوصًا في المملكة العربية السعودية، التي كانت تقليديًا معادية للحركة. لكن تصريحات أبو عبيدة وحمدان كان لها تأثير كبير سواء في العالم الفلسطيني الكبير أو بين السكان العرب في الدول المجاورة، والذين قد يكون بعضهم أكثر تعاطفًا مع “حماس” مما كان عليه قبل الحرب. بِشَنِّ عمليتها، أظهرت “حماس” أنَّ إسرائيل ليست دولة لا تُقهَر، على النقيض من منظمة التحرير الفلسطينية، التي يشعر العديد من الفلسطينيين أنها لم تفعل إلّا أقل القليل لتعزيز قضيتهم. وحتى لو كان الثمن باهظًا، فإنَّ هجومَ “حماس” جعل مشروع التحرير ملموسًا بالنسبة إلى الفلسطينيين؛ ومن خلال استفزاز إسرائيل لإطلاق العنان لغزوها المدمِّر والقتل الجماعي للمدنيين، فقد لفتت أيضًا انتباهًا عالميًا غير عادي إلى وحشية الاحتلال الإسرائيلي والسيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. ومن المحتمل أن تكون لهذه النتائج عواقب عميقة على مستقبل الصراع.
ماذا عن اليوم التالي؟
في الأسابيع التي تلت شنّ “حماس” هجومها، تَرَكَّزَ قدرٌ كبيرٌ من الاهتمام الدولي على المذبحة غير المسبوقة التي ارتكبت بحق المدنيين الإسرائيليين. والأمر الأقل إثارة للاهتمام هو ما كشفه الهجوم عن التحوّلات الاستراتيجية داخل “حماس” نفسها. ومن خلال إرغام إسرائيل على شنِّ حربٍ ضخمة على غزة، قلبت عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) المفهوم السائد عن غزة باعتبارها منطقة تم تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، والتي يمكن الحفاظ على وضعها الراهن باعتبارها جيبًا معزولًا إلى أجل غير مسمى. ومهما كانت التكلفة الكبيرة التي تحمّلها سكان غزة أنفسهم، فقد حققت الحرب بالفعل أهدافها المتمثلة في جعل غزة جُزءًا أساسيًا من نضال التحرير الفلسطيني، ووضع هذا النضال في مركز الاهتمام الدولي.
في المقابل، بالنسبة إلى الفلسطينيين، أعادت الحرب ربط غزة ببعض الصدمات المركزية في تجربتهم التاريخية. إنَّ التهجيرَ القسري لسكان غزة إلى الطرف الجنوبي من القطاع الساحلي، الذي قدمته إسرائيل كإجراء إنساني طارئ -فضلًا عن الخطط التي تمت مناقشتها داخل إدارة نتنياهو لنقل سكان غزة إلى صحراء سيناء- قد أعاد صياغة الوضع في غزة ضمن التاريخ الأطول بكثير لطرد الفلسطينيين الذي بدأ منذ العام 1948. وتكتسب هذه الجهود الحالية لتهجير أو إبعاد سكان غزة أهمية أكبر نظرًا لأنَّ غالبية أولئك الذين أُجبروا على الرحيل تنحدر من عائلات كانت بالفعل لاجئة بسبب أزمة العام 1948. بالنسبة إلى الكثيرين منهم –بما في ذلك مئات الآلاف الذين رفضوا مغادرة الجزء الشمالي من القطاع– فإن الوضع يكرر هذه الاضطرابات السابقة. ومن وجهة نظرهم، فإن الطريقة الوحيدة لتجنّب خطر حدوث نكبة ثانية (أو “كارثة”) هي البقاء في غزة، بغض النظر عن حجم الدمار.
ومع تعرض غزة مرة أخرى لقصفٍ مُكَثَّفٍ بعد انهيار وقف إطلاق النار الذي استمر سبعة أيام، تُناقش إسرائيل والولايات المتحدة سيناريوهات مختلفة ل”اليوم التالي”. ورُغمَ أنَّ البلدين يختلفان حول العديد من القضايا، بما في ذلك إمكانية تشكيل حكومة بقيادة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو ما ترفضه إسرائيل، فإنَّ البلدين مصرّان على القضاء التام على “حماس”. لكن هذا الهدف في حد ذاته قد يرتكز على فهمٍ للمنظمة لا يأخذ في الاعتبار واقعها الحالي. حتى الآن، وعلى الرُغم من الهجوم الذي دام ستة أسابيع من قبل أحد أقوى الجيوش في العالم –وهو الهجوم الذي اضطرت فيه الأغلبية الساحقة من سكان غزة إلى مغادرة منازلها وقُتل أكثر من 17 ألف شخص- فإنَّ “حماس” لا تُظهِرُ علاماتٍ على أنه تم القضاء عليها. فهي تمكّنت من الصمود والحفاظ على نفسها؛ كما أكدت استقلاليتها عن القيادة الخارجية للمنظمة وكذلك عن حلفائها العرب وإيران، التي لم يتم إعلامها بالهجوم. إنَّ قدرة الحركة في غزة على البقاء قوة وصامدة حتى الآن، في ظل قيادةٍ مُنَظَّمة للغاية، وحضورٍ إعلامي، وشبكةٍ من الدعم، تُثيرُ تساؤلات جدية حول جميع المناقشات الحالية حول مستقبل الحكم في قطاع غزة.
في الوقت الحاضر، ومع فشل قواتها في تحقيق أهدافها في غزة، كثّفت إسرائيل عملياتها العسكرية في الضفة الغربية من خلال الغارات اليومية، والاعتقالات الجماعية، وحملات القمع الشاملة. وهذا لا يثير فقط احتمال نشوب حرب على جبهتين بعد سنوات من الجهود الإسرائيلية لفصل الأراضي الفلسطينية المحتلة عن قطاع غزة، بل يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي نفسه قد يساعد على تعزيز هدف “حماس” المتمثل في إعادة ربط غزة بالنضال الأوسع من أجل تحرير فلسطين.
- ليلى سورات هي باحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، ومؤلفة كتاب “السياسة الخارجية لحماس: الإيديولوجية وصنع القرار والتفوّق السياسي”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صُدورِهِ بالانكليزية في “فورين أفِّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.