صرخَةٌ من أجلِ المشرق

مايكل فاتيكيوتيس*

كطفلٍ من بلادِ المشرق، أشعرُ بالألم والمُعاناة الناجمة عمّا يقرب من قرنٍ من الصراع. كانت عائلتي ضحيّةً للانقسامِ الكبير الذي حصلَ في الشرق الأوسط بعد أن قام الأوروبيون بتفكيك بقايا السلطنة العثمانية، ورسموا خطوطًا في أرضٍ كانت تُحدّدها سابقًا مُجتمعاتٌ مُتماسكة من أديان ومذاهب مختلفة، ثم قرروا كيف سيكون شعبها محصورًا في دولٍ تُحددها العقيدة والإيمان والعِرق.

لم يحدث قط أن أدّى مثل هذا التدخّل وهذه المكائد إلى هذا القدر من المُعاناة الإنسانية.

لقد تخلّى أسلافُ والدتي اليهود الإيطاليين، الذين فرّوا من أوروبا هربًا من التحيّز والتمييز وعدم المساواة، عن دينهم في مقابل حياةٍ مزدهرة في مصر وتزاوجوا مع كاثوليك. اعتنق أسلافُ والدي الفلسطينيون عقيدةً توفّر الأمن والرعاية تحت مظلة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية.

لم تكن هناك مسألة عداوة، بل كانت هناك فقط فائدة هوية أو أخرى للعيش والبقاء، وغالبًا ما يكون ذلك بشكلٍ مُريحٍ جدًا في بيئةٍ تعددية. لقد عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في المشرق في جوٍّ من الود، وكانوا يتشاجرون على الأراضي المُقدَّسة وأولوية الطقوس، نعم، ولكنهم كانوا على الرغم من ذلك يحتكّون ويتنافسون من حينٍ إلى آخر.

انبثقت أولى علامات المتاعب من أوروبا عندما حاول الفاشيون في إيطاليا والنازيون في ألمانيا تأليب العرب في مصر وفلسطين ضد أسيادهم الاستعماريين البريطانيين. كان الأمرُ جدلًا حول الهَيمنة، وليس الإيمان والدين. إنَّ الثورة العربية التي اندلعت في فلسطين في العام 1936 كانت احتجاجًا على الحكم الاستعماري. لقد تمّ قمعها بلا رحمة. بالكاد سمعنا عن المذابح والاضطهادات المُعادية للسامية التي تحدث في أوروبا الوسطى. ولم يُطلَب من أيِّ يهوديٍّ في البلدة القديمة في القدس المُغادَرة، أو إجباره على ارتداءِ نجمةٍ صفراء، أو اقتياده إلى معسكرات الاعتقال.

في الواقع، كان البريطانيون هم الذين وضعوا أفراد عائلتي الإيطالية في معسكراتٍ على طول قناة السويس. ليس لأنهم يهود، ولكن لأنهم إيطاليون ويشتبه في أنهم متعاطفون مع الفاشية.

بلغ مدى الجهل عن معاداة السامية في أوروبا حدًا دفع ثلاثة أفراد يهود من عائلة والدتي إلى العودة إلى إيطاليا بينما كانت ألمانيا تحتل مدينتهم فلورنسا في العام 1943. وهناك تمت مطاردتهم وتهديدهم بتسليمهم إلى ال”غستابو” من قبل رجال المافيا الإيطالية عديمي الضمير، الأمر الذي دفعهم في حالةٍ من اليأس، إلى الانتحار وخنق ابنتهم البالغة من العمر عامين قبل أن يقطعوا معصميهم.

كان هذا هو مدى تعرّض عائلتي لمعاداة السامية – في أوروبا، بعيدًا من الراحة والأمن النسبيين في الشرق الأوسط.

ثم كان العام 1948. في غمضة عين تمزّقت بلاد المشرق. في الجامعة بالقاهرة، يتذكّر والدي أنه كان معزولًا تمامًا عن عائلته في حيفا. لقد كان معتادًا على ركوب القطار من حيفا إلى القاهرة، كما لو كان من لندن إلى باريس، ولكن فجأةً تمزّقت أوتار التكامل والتفاعل المجتمعي بتصويتٍ واحد في الأمم المتحدة. ولم يُصَدّق أحدٌ تمامًا ما حدث.

يتذكّر جدي في حيفا استقباله مجموعةً من زملائه العرب في بيته. كانوا يحملون حقائب صغيرة ليلًا في طريقهم إلى بيروت، على بُعدِ ساعتين بالسيارة شمالًا. وقالوا إنهم يتوقّعون أن يغيبوا بضعة أيام قبل وصول الجيوش العربية لتحريرهم. وبعد مرورِ ثمانين عامًا، لم يعودوا بعد. جدي، الذي وُلِدَ ونشأ في فلسطين، اضطر إلى الرحيل إلى اليونان، بلد أجداد والده، الذي لم تطأه قدماه قط. ووصف نفسه بأنه لاجئ.

لذا، عندما أسمع أحكامًا عرضية حول الأزمة الحالية من خلال عدسة معاداة السامية، فإنني أشمَئز. أفهم لماذا ذكّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعدم جلب التصوّرات الأوروبية عن اليهود إلى الشرق الأوسط.

إنَّ الصراعَ الذي نشهده اليوم، بكلِّ أبعاده القبلية الوحشية، هو أمرٌ مُستورَد – إرثٌ من التدخّل الأجنبي، وليس شيئًا وُلِدَ من أرضٍ ازدهرت فيها جميع الديانات الإبراهيمية ذات يوم جنبًا إلى جنب، وكانت تتعبّد في أماكنها المقدسة، واحدة إلى جانب الأخرى، حيث تبدو كومة مضغوطة من البناء القديم تمَّ فركها بسلاسة وحرقها باللون الأسود بفعل قرون من طقوس التكريس والصلاة.

في العام 2019، سافرتُ إلى مَوقِعَين مسيحيين مُقَدَّسَين ساعد اثنان من أعمامي الكبار على ترميمهما وإحيائهما بعد قرونٍ من الخراب والإهمال في ظل الحكم العثماني. أحدها هو ديرٌ بالقرب من بيت لحم، تمَّ بناؤه فوق مغارةٍ يُقال إنها المكان الذي توقّف فيه المجوس الثلاثة وهم في طريقهم لرؤية الطفل يسوع؛ والآخر يقع على امتداد نهر الأردن حيث يُزعَم أن يوحنا المعمدان عمّد السيد المسيح، وبالفعل حيث تعمد والدي، ما أكسبه لقب الحج في العقيدة الأرثوذكسية اليونانية.

وبالتأمل في أهمية طقوس الحجارة الصفراء الزبدينية التي تحيط بهذه الأماكن المقدسة، والتي تتوهّج باللون الذهبي في وقتٍ متأخر من بعد الظهر، خلصتُ إلى أنه لا يمكن أن تكون هناك منافسة حول مَن يملكها. لأنها نقاطُ طريقٍ مهمّة في تطور هويّتنا الجماعية – الساميون جميعًا، اليهود الذين أصبحوا مسيحيين، وفي النهاية مسلمين، في سلسلةٍ من التطور التوحيدي الذي يُحدّد الحضارة الغربية اليوم.

  • مايكل فاتيكيوتس هو كاتب ومؤلف كتاب “حياة بين السطور: رحلة بحث عن المشرق المفقود”.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى