الحَربُ بين إسرائيل و”حماس” تُعَزِّزُ صورةَ قطر والعلاقات بين دول الخليج
بدلاً من التنافس داخل دول الخليج على النفوذ الإقليمي، فإنَّ اتجاه اللعبة اليوم هو الاتجاه الذي تؤدّي فيه المصالح الإقليمية إلى مزيدٍ من التعاون الخليجي العربي بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
لينا الخطيب*
أعطت الحرب بين إسرائيل و”حماس” دفعةً للمكانة السياسية لقطر، كما دفعت إلى زيادة التعاون الخليجي العربي بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. من بين جميع اللاعبين الإقليميين الذين كثّفوا جهودهم الديبلوماسية في أعقاب هجوم “حماس” غير المسبوق على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، برزت قطر لأنها حقّقت نتائج في دورها كوسيطٍ في صفقةِ تبادل الرهائن مقابل السجناء بين “حماس” وإسرائيل. ورُغمَ أن الهدنة التي مكّنت هذه التبادلات انتهت الآن، فإنَّ المفاوضات في الدوحة بين كافة الأطراف ما زالت مستمرّة.
في البداية، أدّت الأضواء السياسية التي رافقت نجاح قطر إلى امتعاضِ بعض جيران الدوحة من دول الخليج العربية. ولكن مع استمرار الحرب، رأت دول الخليج بعض الفوائد لنفسها في تصرّفات قطر، ما أدّى إلى بعض التنسيق في ما بينها. ونتيجةً لذلك، أصبحت الحربُ علامةً فارقة في العلاقات الخليجية، ما يُمثّلُ حقبةً جديدة تتناقض بشكل حاد مع أزمة 2017-2021، عندما قادت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حصارًا على قطر.
وسيطٌ مُحَنَّك
تَعتَبِرُ قطر الوساطة عبر خطوط الصدع السياسية المُستَعصية من بين أقوى نقاط الترويج لها في الديبلوماسية العالمية، حيث شاركت في هذا الدور منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. من بين المعالم الأخرى التي حقّقتها، في العام 2008، جمع اتفاق الدوحة بين الائتلافَين السياسيَين المُتنافِسَين في لبنان للاتفاق على خارطة طريق مهدت لانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية، ما أنقذَ لبنان من الفراغ السياسي في ذلك الوقت. بين العاميَن 2007 و2010، لعبت قطر دورًا في التوسّط بين الحوثيين والحكومة اليمنية. وفي العام 2011، أسفرت الوساطة القطرية عن توقيع وثيقة الدوحة للسلام في دارفور. وفي العام 2012، حاولت قطر التوسّط بين “حماس” ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث كان أميرها السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أول رئيس دولة يزور غزة بعد سيطرة “حماس” على القطاع في العام 2007.
في الآونة الأخيرة، أدّت الوساطة القطرية بين الولايات المتحدة وطالبان إلى الاتفاق في العام 2020 في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بشأن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وكذلك إلى الاتفاق في العام 2021 الذي سمح للقوات الأميركية بإجلاء الأفغان والرعايا الأجانب بأمان من أفغانستان بعد أسابيع من سقوط الحكومة المدعومة من الغرب في كابول.
لكن قطر ليست وسيطًا مُنفَصِلًا. في حالة كلٍّ من “حماس” وطالبان، كانت قطر أيضًا مُضيفة لقيادتهما السياسية في الخارج، ما سمح لهما بالاحتفاظ بمكاتب سياسية في الدوحة منذ العامين 2012 و2013، على التوالي. وبالتوازي مع ذلك، تتمتع قطر أيضًا بشراكة استراتيجية قوية مع الولايات المتحدة، حيث تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط في قاعدة العديد الجوية. وفي الواقع، فتحت الدوحة أبوابها ل”حماس” وطالبان بطلبٍ من واشنطن التي رأت في قطر قناة اتصال مفيدة مع هاتين الجماعتين.
المُوازَنة بين فلسطين وإسرائيل
علاقةُ قطر ب”حماس” أعمق من علاقتها بحركة طالبان. تأسّست حركة “حماس” في العام 1987 كفرعٍ من جماعة “الإخوان المسلمين”، التي تُعَدُّ قطر أحد الداعمين الرئيسيين لها. ومنذ ذلك الحين، أصبحت أيضًا أحد المُموِّلين الرئيسيين ل”حماس”. لكن هذه العلاقة لم تكن تجري خلف ظهر إسرائيل. لقد رأى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في وجود “حماس” –وتمويل قطر لها– وسيلةً مفيدة لإبقاء الفلسطينيين مُنقَسِمين.
علاوةً على ذلك، فإنَّ تعامُلَ قطر مع فلسطين لا يقتصرُ على “حماس”. فهي تتحدّث بنشاطٍ وتستمع إلى العديد من الجهات السياسية الفلسطينية. عزمي بشارة، عضو الكنيست الفلسطيني الإسرائيلي السابق، يتمتّع بمنصبٍ استشاري بارز في قطر. كما أعربت الدوحة مرارًا عن دعمها للسلطة الفلسطينية. وفي العام 2018، أصدرت وزارة الخارجية القطرية بيانًا تأسف فيه لإغلاق إدارة ترامب مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، بينما أثنت منظمة التحرير الفلسطينية في العام 2020 على قطر لرفضها التطبيع مع إسرائيل. بالإضافة إلى هذه القنوات الرسمية، أنشأت قطر منذ فترة طويلة قناة “الجزيرة” لحشد الدعم الشعبي في جميع أنحاء العالم العربي للقضية الفلسطينية والمقاومة.
بالتوازي مع كلِّ هذا، على الرُغم من أن قطر لم تقم أبدًا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، إلّا أنها أبقت إلى حٍّد كبير على خطوط اتصالها مع إسرائيل مفتوحة. في العام 1996، أقامت قطر علاقات تجارية مع إسرائيل، وأصبحت الدوحة المضيف الخليجي الوحيد لمكتب تجاري إسرائيلي. تم إغلاق هذا المكتب لاحقًا في العام 2009 بسبب الحرب بين إسرائيل و”حماس” في الفترة 2008-2009. ولكن على الرُغم من هذه الفترة والفترات اللاحقة الأخرى التي توتّرت خلالها العلاقات القطرية-الإسرائيلية –كما هو الحال خلال الحرب بين إسرائيل و”حماس” في العام 2014 وكذلك خلال أزمة مجلس التعاون الخليجي في 2017-2021– استمرت العلاقات غير الرسمية بين قطر وإسرائيل، حيث برّرت الدوحة موقفها هذا واعتبرته ضروريًّا لترسيخ “سمعتها كشريك موثوق به دوليًا”.
التنسيق الإقليمي
في أعقابِ هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، سارع رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى تفعيل جميع قنوات الاتصال ذات الصلة، وتحدّث إلى الأميركيين والإسرائيليين والإيرانيين، وكذلك إلى الزعيم السياسي ل”حماس” في الخارج اسماعيل هنية. في البداية، نظرت الإمارات العربية المتحدة إلى موقف قطر بشكلٍ سلبي. ففي نهاية المطاف، كانت أبو ظبي هي التي اتخذت الخطوة الجريئة لتصبح أول دولة عربية خليجية تقوم بتطبيع العلاقات مع إسرائيل من خلال التوقيع على اتفاقيات أبراهام في العام 2020. ومع ذلك، كانت قطر تحظى بالثناء من الولايات المتحدة لمحادثاتها مع إسرائيل.
تم التوقيع على اتفاقيات أبراهام في ذروة أزمة مجلس التعاون الخليجي، عندما كانت قطر لا تزال تحت الحصار الذي قادته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والذي بدأ في العام 2017. وكانت الأسباب الكامنة وراء النزاع هي الإحباط السعودي والإماراتي من علاقة قطر مع إيران والجماعات الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة، وكذلك مع طموحات قطر السياسية المتزايدة. لكن في العام 2021، قادت السعودية عملية تهدئة التوترات مع قطر، مُدركةً أن الانقسامات في الخليج تُقَوِّضُ الاستقرارَ الإقليمي. وكونها القوة الرئيسة وراء حل أزمة مجلس التعاون الخليجي، بعد أن كانت القوة الرئيسة وراء إشعالها قبل أربع سنوات، كانت وسيلةً للرياض لتذكير الدوحة بأن المملكة العربية السعودية لا تزال أكبر لاعب سياسي وواضع جدول الأعمال في منطقة الخليج.
لقد ظهر توازن القوى بين السعودية وقطر منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). وبينما كثّفت قطر جهودها الديبلوماسية للتوسّط في الهدنة الإنسانية واتفاق تبادل الرهائن والسجناء بين “حماس” وإسرائيل، لعبت المملكة العربية السعودية الدور السياسي الأكبر كزعيمة للعالمَين العربي والإسلامي.. لم يتم التوصل إلى اتفاق التبادل إلّا بعد أن استضافت الرياض قمةً مشتركة ضمت 54 زعيمًا من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وأصدرت بيانًا اتَّفَقَ عليه جميع الحاضرين في القمة. كما زار أمير قطر الشيخ تميم الإمارات العربية المتحدة قبل وضع اللمسات الأخيرة على الصفقة بين إسرائيل و”حماس”. وهذا التسلسل يضع قطر في دورٍ داعم، وليس مُنافِسًا للسعودية، مع التأكيد على مكانة الإمارات في المعسكر الخليجي.
وإذا أخذنا هذه التحركات مجتمعة، فإنها تُمثّلُ ديناميكية مختلفة عما كانت عليه خلال أزمة دول مجلس التعاون الخليجي. لقد عادت جميع الجهات الفاعلة في منطقة الخليج العربي تحت المظلة السعودية عندما يتعلق الأمر بالصورة الكبيرة لأمن الخليج واستقراره. ولكن، هناك مجالٌ للاختلافات في الكيفية التي تسعى بها دول الخليج المختلفة إلى تحقيق مصالحها الوطنية، ما دامت هذه الاختلافات لا تُزعزِعُ هذه الصورة الكبيرة.
تستفيدُ قطر فعليًا من هذا الترتيب. إن لعبها لدورٍ ثانوي بالنسبة إلى دور السعودية يجعل الدوحة أقل التزامًا بالدفاع عن مصالح “حماس”، لأنه يسمح لقطر باتباع رغبات السعودية من دون أن تشعر “حماس” بأنَّ قطر هي التي خذلتها. في الوقت نفسه، فإن المجال الأكبر للمناورة لتحقيق المصالح الوطنية يسمح لها بمواصلة علاقتها مع إسرائيل. وعلى نطاق أوسع، فإن ذلك يرقى أيضًا إلى مباركة الرياض لجهود الدوحة للمطالبة بالوساطة باعتبار مساهمتها فريدة في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط.
وهذا بدوره يُمَهّدُ الطريق أمام السعودية ودولة الإمارات وقطر للبناء على إنجازات الدوحة مع “حماس” وإسرائيل من أجل توجيه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في الاتجاه الذي يناسب جميع مصالحها الوطنية الفردية. وبدلًا من التنافس داخل دول الخليج على النفوذ الإقليمي، فإن اتجاه اللعبة اليوم هو الاتجاه الذي تؤدي فيه المصالح الإقليمية إلى مزيدٍ من التعاون الخليجي العربي بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وهذا أمرٌ جيد لقطر، وجيد للخليج، وجيد للاستقرارِ الإقليمي.
- لينا الخطيب هي مديرة معهد الشرق الأوسط في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (سَوَس) التابع لجامعة لندن، وزميلة مشاركة في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث البريطاني تشاتام هاوس. يشمل عملها في الشرق الأوسط الجغرافيا السياسية والصراع والتحولات السياسية والسياسة الخارجية تجاه المنطقة.يمكن متابعتها عبر منصة تويتر (X) على: @LinaKhatib
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.