“مغامرة” المسرح وسْطَ صعوبات بيروت

هنري زغيب*

بالإِيقاع المشدود إِحكامًا دقيقًا حتى لينبجس منه الضحك عفويًّا متواصلًا، سَرَتْ مشاهدُ المسرحية في مغامرة جوزيان بولس وبرونو جعارة.

أَقول “مغامرة” وأَقصِدها. فوسْط وُحُول الوضع السياسي والاقتصادي والمالي وما ينجم عنه من صعوبات مادية في التنقُّل وشراء بطاقات المسرح ولوازم اجتماعية ترافق الذهاب إِلى المسرح، يبدو الإِقدام المسرحي لا أَقلّ من “مغامرة”.

ومنذ تولَّت جوزيان بولس استثمارَ مسرح مونو (الأَشرفية-بيروت) وإِدارتَهُ، وهي تسعى – عرضًا بعد عرض – إِلى إِعادة اعتياد الناس على ارتياد المسرح، مختارةً له أَفضل الأَعمال، ومختارةً للأَعمال أَسعار بطاقات مؤَاتية لا تغْني شباك التذاكر ولا تُزعج الواقفين أَمامه.

وإِنها تَنجح، وتُثابر، وتَشهد إِلى مقاعد المونو جمهورًا متناميًا، حتى ليبلغ أَحيانًا ملْءَ الصالة كاملة (260 مقعدًا).

وهي ذي في عرضها الأَخير “رايحين جايين” لـبرونو جعارة تواصل فعل إِيمانها بالمسرح والمقاومة الثقافية عبر المسرح، فتعرض مُجدَّدًا (بعد أَسابيع سابقة في شباط/فبراير الماضي) هذه المسرحية التي استقطبت جمهورًا كثيفًا في عرضها الماضي، وتستقطب له حضورًا مماثلًا في عرضها الثاني. ولا تكتفي بالإِدارة والإِنتاج بل تؤَدِّي دورًا طريفًا (الخادمة وداد) غير ثانوي في المسرحية الجديدة.

برونو جعارة لم “يُلَبْنِن” مسرحية “بوينغ بوينغ” بل حوَّلها حوارًا لبنانيًّا صرفًا يُنسي الـمُشاهد أَنه يتابع نصًّا مأْخوذًا عن الكاتب المسرحي الفرنسي مارك كاموليتّي (1923-2003)، كان عرضها الأَول في باريس ليلة 10 كانون الأَول/ديسمبر 1960، نسجَ فيها كاموليتِّي أَحداثًا طريفةً مشغولةً بذكاء دقيق حتى أَن المسرحية، حين ترجمها سنة 1962 إِلى الإنكليزية آلِن بِڤِرلي كروس (1931-1998) لعبَت في لندن سبع سنوات متتالية حتى نالت سنة 1991 لقب “أَكثر مسرحية فرنسية عروضًا في العالَم”.

النسخة اللبنانية، لولا الوضع الاقتصادي الـمرّ، يمكن أَن تلعب مدة طويلة، كالأَعمال المسرحية اللبنانية (أَو المقتَبَسَة) التي شهدَتْها طويلًا خشبات مسارحنا في مراحل اقتصادية مريحة. ذلك أَن برونو جعارة شدَّ مشاهد المسرحية بإِيقاع متناسق مدروس، سريع من دون تسرُّع، رشيق من دون افتعال، متوهِّج من دون إِطالة، كأَنه مهندس مونتاج يشد إِلى بعضها بعضًا مشاهدَ سينمائيةً يلغي منها كل فواصل وكل تطويل. وساعده على ذلك أَداء تمثيلي ممتاز من فريق المسرحية، فتلبَّسَ رودريغ سليمان شخصية برنار الـ”دون جوان” اللَعوب الذي يوقِع في حبائله ثلاث مُضيفات طيران معًا لا تدري واحدتهن بالأُخرى، وتلبَّسَ سَنِي عبدالخالق شخصية روبير، صديق برنار الذي يتواطأُ معه ويساعده على إِخفاء أَلاعيبه وأُلْعُبانيَّاته النسائية في رشاقةٍ تمثيلية ممتازة، وقويًّا كان حضورُ جوزيان بولس في شخصية الخادمة وداد فجعلت أَداءَها ساطعًا محوريًّا، ولا يقلُّ جودةً محترفَةً أَداءُ سارة عطالله وناي أَبو فياض وكاتي يونس في شخصيات الـمُضيفات الثلاث: الفرنسية جاكلين، الأَميركية جانِت، والأَلمانية جوديت.

هكذا، بين الفودفيل الممسوك حوارًا وتحريكَ ممثلين، نجح برونو جعارة مُخرجًا في إِدارة شخصياته ببراعة دقيقة جعلت كأَنْ ليس في العمل بطولةٌ فرديةَ حولها ثانويون وكومبارس، بل توزع الأَداء على الستة الممثلين. وأَكثر: كان لفتح الأَبواب وصفْقها بالثانية ذاتها دورٌ بارزٌ في ضبطِ “تِـمْپو” (إِيقاعٍ) مسرحي يَشُدُّ إِليه المشاهدين فيربط لهم اللحظة الراهنة بما سبقَها، وينتظرون سلَفًا حصول الورطة التي سيبتلي بها الـ”دون جوان” اللَعوب في نهاية المسرحية.

خُلاصةً: نفرح بنجاح عمل مسرحي منسوج بهذه الدقة التفصيلية المدروسة على نبض الإِيقاع المشدود، ونأْسف أَن يكون على الخشبة لعروضٍ معدودة، هو الذي يستاهل أَن يتمدَّد على بساط أَسابيع.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى