مهاجرونا ينتظرون دولةً لا بهذه السُلطة

هنري زغيب*

بعد مقالي الخميس الماضي في “أَسواق العرب” (25 أيار/مايو 2023) عن فراس ودانييلَّا، ورغبتِهما الأَكيدة في العودة إِلى لبنان حين تعود إِليه الدولة، تتالت عليَّ رُدودٌ مؤيِّدةٌ من أَهالي شابَّات وشبَّان هاجرُوا طوعًا، أَو هَجَروا يأْسًا، أَو هُجِّروا قسْرًا، وهم كذلك -حيثُما هم في بلدان العالَم- ينتظرون في الخارج عودةَ الدولة إِلى لبنان كي يعودوا إِلى لبنان الوطن.

قد يتنطَّح مُنَظِّرٌ فيقول: “ولِـمَ لا يعودُون الآن كي يعمَلوا على استعادة الدولة”؟ هذا سؤَال ساذج تنظيريٌّ أَبله، لأَن الذي يَحُولُ دون عودة الدولة هو طقْمٌ في السلطة يخطِف الدولة، يحاصرُها بجميع يديه ويحصُرها به وبنسْله، حتى ليُعلي دونها جدارًا سميكًا من الاقطاعية والاســتــئْــثــارية، فلا يبقى فيها مكانٌ إِلَّا للأَزلام والمحاسيب والقطعان الخانعة وقوافل المستزلمين والمستسلمين، وإِذا الدولةُ بين أَنياب سلطة مسوَّسة دينوصورية فاسدة. ويأْبى مُهاجرونا المتنوِّرون أَن يعودوا إِلى سُلطةٍ قبائلية تدير مفاصل الدولة بذهنية المزرعة، فلا منصِبَ سياسيًّا يبقى لِمن يستحقّ، ولا أَملَ بأَن تَسري على مهاجرينا مقولة “الشخص المناسب في المكان المناسب”. ذلك أَنَّ الأَمكنةَ جميعَها مملوءةٌ بالأَزلام، والفرصَ جميعَها مُتاحةٌ للمحاسيب، والوظائفَ والمناصبَ والمسؤُولياتِ العليا محجوزةٌ سلَفًا للمراجع السياسية والحزبية والطائفية والدينية والمذهبية. فلا قيمةَ لأَيِّ شخص من خارج القطيع مهما تأَلَّقَت موهبتُه الإِبداعية، ومهما علَت شهادتُهُ الأَكاديمية، ومهما ثبُتَت قدرتُه العلْمية على التغيير وإِنهاض البلاد من كَبَواتها الكارثية.

ولذلك نرى مهاجرينا -شبابهم وشيبهم- يقارنون بين حزم الدولة حيثُما هم مهاجرون أَو مستوطنون، وبين غياب الدولة اللبنانية بحضور سلطة تَسُوسُها طائفيًّا وفئويًّا ومحسوباتيًّا لا مكان فيها لأَيِّ لبناني أَو لبنانية من خارج القطيع السياسي.

هنا يَنشُبُ العنصرُ الأَهَمّ: الهوية والانتماء. مهاجرونا يشعرون بالانتماء إِلى الوطن لا إِلى هذه الدولة المنخورة بالنُتن والفساد، وتاليًا هويتُهم لبنانيةُ الوطن لا السلطة ولا الدولة، ولن يرضوا بالانتماء إِلى زمرة سياسيين يتحكَّمون بالسلطة منذ عقود ولا فرصة فيها إِلَّا لنسْلهم وأَزلامهم لتَوَلِّـي إِرثِ السلطة والدولة.

مهاجرونا -شبانًا وشيبًا- يرفضون هويةَ هذه السلطة الفاسدة، ويرفضون هوية هذه الدولة المنخورة بالفاسدين، ويعتنقون هوية الوطن اللبناني الجامع. ولكنْ… كيف الدخول إِلى هذا الوطن الجامع وعلى بابه غولٌ طاعوني سرطاني ينقَضُّ على كلِّ مَن ليس مِن أَهل القبيلة ولا من قطعان المزرعة؟

مهاجرونا -شبانًا وشيبًا- يرفضون الانتماء إِلى زعماء وقادة ومسؤُولين ورؤَساء أَنانيين شخصانيين متحكِّمين مستحكمين مستأْثرين متسلِّطين، بل يريدون الانتماء إِلى وطنٍ يكون مسؤُولوه في خدمة الدولة ولا يجعلون الدولة في خدمتهم.

مهاجرونا -شبانًا وشيبًا- يرفضون العودة إِلى حكْم المذاهب بل يعودون إِلى حكم المواهب، ويريدون أَن يروا في هذا الحكْم نوابًا جديرين لا أَعدادًا ببغائية كحبوب المسبحة في يد حاملها، ويريدون أَن يرَوا وزراء جديرين لا دمًى عيَّنَهُم هذا الحزب أَو ذاك التيار أَو ذلك الفريق.

أَمَّا والسُلطة في قبضة زُمرة لا تريد أَن تبني الدولة، ولا تهتمُّ للضرر البالغ الذي تسبِّبه لسمعة لبنان في الخارج، بل تستأْثر بكراسيها وراثةً أَو توريثًا، فلا ننتظرَنَّ من مهاجرينا أَن يعودوا، لأَنهم يدركون سَلَفًا أَنْ لا مكانَ استحقاقيًا لهم في مستنقع سياسي موحِل ما زال غارقًا في حُكْم الأَصنام، والأَصنامُ في بلدان العالم لا مكانَ لهم في حُكْم الدُوَل الحضارية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى