أَجمل الطيور بريشاتهم (1 من 2)
هنري زغيب*
تتالت سلسلةُ مقالاتي التشكيلية (“… بريشاتهم”) في “أَسواق العرب” ولاقت صداها الواسع بين القراء لاكتشافهم مواضيع محدَّدة تناولتْها ريشاتُ كبار الفنانين فخلَّدوا تلك المواضيع وتخلَّدت في أَعمالهم.
لذا رأَيتُ أَن أَبحثَ بعدُ عن مواضيعَ محدَّدة أُخرى فأَجمعَ ما صدر منها في لوحات، كي تتكاملَ هذه السلسلةُ التي تُغْني القارئ العربي بثقافة تشكيلية أَوسع، تجعل له في مكتبته ومحفوظاته حيِّزًا قد لا يتوفَّر لديه مجموعًا وحده بهذا الشكل في صحيفة أُخرى أَو مجلة أُخرى أَو موقع آخر.
من هذه المواضيع المحدَّدة: الطيور، على جمالاتها وتنوُّعها. وهي ظهرَت في عدد كبير من لوحات رسامين كثيرين في العالم، وعبر تيارات فنية كثيرة كالانطباعية والطبيعية والرومنطيقية. ذلك أَن الأَلوان والأَشكال والأَحجام المتعددة للطيور تغري الرسام بقطْع مسافات طويلة أَحيانًا (أَو أَسفار بعيدة) من أَجل التقاط هنيهات هاربة لعصافير طائرة أَو حاطة على أَغصان أَو زائغة في غابة أَو بستان.
هذا المقال من جُزءَين عن عشرة رسامين، أَسردُ منهم خمسةً في القسم الأَول، والخمسة الباقين في القسم الآخر.
- “الحسُّون” للهولندي كاريل فابريتوس (1622-1624)
كان فابريتوس تلميذ رامبرانت وعمل معه لدى محترفه في أَمستردام. وهو عضو في تيار “مدرسة دِلْفْتْ” التشكيلي، وتميَّز بين زملائه بسُطوع أَلوانه اللافتة، إِبان تلك المرحلة الذهبية من ذاك التيار. ولوحته “الحسُّون” (1654) هي من أَشهر أَعماله على الإِطلاق. والحسُّون كان وفيرًا في أَجواء هولندا عصرئذٍ، وموضوعَ لوحات كثيرة لرسامين في عصر النهضة الإِيطالية. ومع أَن لوحاته أَقل بكثير من أَعمال زملائه ومعاصريه، إِلَّا أَنها برزت بينها شاهدةً على براعته المميزة في استعمال الأَلوان والوسائط الفنية في عصره. ففيها رسَم الحسُّون مستريحًا على قاعدة مصباح. واللوحة بسيطةُ الخطوط، بارعةُ التشكيل، وهي التي بقيت سليمةً في محترف الرسام حين وقع انفجار كبير في مدينة دِلْفْتْ (جنوبي هولندا) دمَّر معظمَها وقضى على مواطنين كثيرين بينهم فابريتوس وهو ابن 32 عامًا.
- “سيدات يُطعِمْنَ الحَمَام” للفرنسي جان ليون جيروم (1824-1904)
جيروم كان رسامًا ونحاتًا أَسس لأُسلوب خاص سُمِّيَ “الأكاديمي”، لأَن الفنان كان أُستاذًا بارعًا تتلمذ عليه مئات الرسامين إِذ كان طيلة أَربعين عامًا مدرِّسًا في المعهد العالي للفنون الجميلة (باريس)، وعضوًا بارزًا في أَكاديميا الفنون الجميلة (تأَسست سنة 1816). كان أَلمع رسامي عصره، وعرفَت لوحاته نسخًا كثيرة نقلَها عن الأَصلية فنانون كثيرون. عالج في لوحاته مواضيع شرقية وتاريخية ودينية. ذلك أَنه سافر إِلى الشرق الأَوسط في أَواخر حياته، وانبهر بما رأَى فيه من ثقافات متنوعة غنية.
اللافت أَن لوحته “نساء يَنثُرن الحبوب للحَمام في حرَم نسائي” بقيَت من دون تاريخ، وهي من روائع الفن في القرن التاسع عشر، بما فيها من دقائق التفاصيل في رسم الحمام كما في رسم السيدات اللواتي يَنثُرن الحبوب، وخصوصًا في تفصيل أَشعة الشمس التي تنهمر على المكان المغلَق من فُتحةٍ في الأَعلى عند الظهيرة.
- “طائر الرفراف” لـلهولندي فان غوخ (1853-1890)
لا يزال فان غوخ أَحد أَبرز فناني عصر وجميع العصور، لبراعته الخلَّاقة الفريدة، وخصوصًا في استعماله الأَلوان المميزة للحيوانات والطيور ومفاصل الطبيعة. ولوحته “طائر الرفراف على طرف عشبة” (1886) تُسجل أَهم لوحة وضعها فان غوخ للطيور، رسم فيها – على عادة تدقيقه في التفاصيل – بضربات ريشته البارعة طيرًا جاثمًا على طرف عشبة عند ضفة مستنقع. وهي إِحدى مجموعة لوحات رسمَها فان غوخ إِبان فترة اهتمامه بالحياة البرية حول منزله.
- “الطاووس والدجاجة والتُدْرُج” للترانسيلفانيّ توبياس سْتْرانُوفِر (1684-1756)
ولد في رومانيا لكنه تنقل بين أَلمانيا وهولندا وإِنكلترا التي استقرَّ فيها، متتلمذًا على رسام الطيور الشهير ملخيور دُونْديكُوتِر ومعاصره جاكوب بوغدارني وتزوَّج ابنة هذا الأَخير.
لوحته “الطاووس والدجاجة وذكَر التْدُرُّج في بقعة من الطبيعة” (1756) هي أَبرز لوحات الرسام عن الطيور، باتت رمزًا خالدًا للفترة الباروكية في منتصف القرن الثامن عشر. وفيها طاووس كبير ودجاجة وذكَر طائر التْدُرُّج معًا في مواقف غير عادية، لكنَّ تفاصيلها دقيقة لكلِّ طير منها على حدة. وحولها بل تحتها طيور أُخرى أَقل دقة في تفاصيلها. والدقة كانت علامة المرحلة الباروكية التي كان سْتْرانُوفِر أَحد أَبرز أَعلامها وخصوصًا في رسمه الطيور.
- “كونشرتو الطيور” للفلمنكي فرانز سْنايدِر (1579-1657)
يرى معظم نقاد الفن ومؤَرخوه أَن أَروع عمل لرسم الطيور هو في لوحة سْنايدر “كونشرتو الطيور” (1640)، وهو من أَبرز رسامي عصره الفلمنكي في القرن السابع عشر، خصوصًا في الأَعمال الشبيهة التي تَجمَع عددًا من العصافير أَو الطيور في لوحة واحدة، حمل معظمُها عنوان “كونشرتو الطيور”.
ولوحة سْنايدِر هذه تُظهر مجموعة طيور شعبية معروفة في المنطقة الفلمنكية ومحيطها. وجميعها حاطَّةٌ على أَغصان شجرة كبيرة، ولكلٍّ من الطيور وقفته الخاصة. وهذه اللوحة مثالٌ لهذا النموذج من اللوحات التي اشتهرت شعبيًّا وراجت إِبان منتصف القرن السابع عشر في تلك المنطقة من أوروبا.
في الجُزءِ التالي من المقال: الرسامون الخمسة الآخرون ولوحاتهم.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.