الدافِعُ الحقيقي وراء صَفقَة إيران مع السعودية

قيلَ الكثير عن الإتفاق الأخير الذي وُقِّعَ بين إيران والمملكة العربية السعودية، واعتبره الجميع بأنه مجرّد تطبيع العلاقات بين البلدين ولكن عند قراءته في العمق يبدو أنه يدور أكثر بكثير من ذلك.

آية الله علي خامنئي: يريد إستعادة الحضارة الإسلامية بقيادة الشيعة في إيران.

سعيد غولكار وكسرى أعرابي*

أثارَ الاتفاقُ الذي توسّطت فيه الصين بين جمهورية إيران الإسلامية والمملكة العربية السعودية، والذي أُعلِنَ في الشهر الفائت، ضجّةً كبيرة، حيث ذهب بعض المراقبين إلى حدِّ إعلانه انتصارًا للأمن الدولي.

لكن الكثير من التحليل غاب عن نقطةٍ رئيسة: بالنسبة إلى المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي وفيلق الحرس الثوري الإسلامي، فإن الصفقة تتعلّق بما هو أكثر وأبعد بكثير من تطبيع العلاقات مع الحكومة السعودية في الرياض. بدلًا من ذلك، يتعلّقُ الأمرُ بمزيدٍ من التسهيل، جنبًا إلى جنب مع الصين وروسيا، لنشوءِ نظامٍ عالميٍّ جديدٍ مُناهِضٍ للغرب واستبعاد الولايات المتحدة من ترتيبٍ إقليميٍّ جديد.

في الواقع، من وجهةِ نظرِ خامنئي والحرس الثوري الإيراني، فإن استعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية هي الجانب الأقل أهمّية في الصفقة. الأهم من ذلك أنه يُمثّلُ علامةً فارِقَةً أُخرى نحو تحقيقِ طموحاتِ النظام الكبرى – هذه المرة مع أصدقاءٍ أقوياء. يعتقد المرشد الأعلى البالغ من العمر 83 عامًا، مثل سلفه، أن صدام الحضارات كان موجودًا منذ فترة طويلة بين ما يُسَمّى بالعالم الإسلامي والغرب. كان مشروعُ الثورة الإسلامية طويل الأمد يتمثّلُ في استعادة الحضارة الإسلامية تحت قيادة المسلمين الشيعة في إيران.

في العصر الحديث، كان يُنظَرُ دائمًا إلى الولايات المتحدة والنظام الدولي الليبرالي الذي تقوده على أنهما العقبة النهائية – الشيطان الأكبر – التي تقف في طريق تحقيق هذا الهدف. وعلى مدى 44 عامًا من وجود الجمهورية الإسلامية، ركّزَ النظام كل موارده على زعزعة جوهر شرعية الغرب. في السنوات الأخيرة، تحقّقَ جُزءٌ من هذا الهدف بربط خامنئي نفسه وإيران بالرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ- وكلاهما شريكان غير مُتَوَقَّعَين.

سواء قبلت الصين وروسيا الإستثمار بالكامل في هذه الترويكا الإيديولوجية أم لا، فمن الواضح أنَّ النظامَ الإيراني هو بالكامل فيها. يرى خامنئي بأنّ حضارةً إسلامية بقيادة إيران، وحضارةً روسية سلافية بقيادة روسيا، وحضارة كونفوشيوسية شيوعية بقيادة الصين جميعها في حالة حرب مع الحضارة الغربية – وهو يعتقد أن الآن هو أفضل فرصة لدى هذه الدول الثلاث منذ عقود لاقتلاع الغرب.

تعتقدُ الدائرة المُقرَّبة من خامنئي والحرس الثوري الإيراني بصدق أن النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة ينهار ويتشكّلُ نظامٌ جديدٌ مُناهِضٌ للغرب تقوده الصين وروسيا وإيران. في الآونة الأخيرة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، حدّدَ خامنئي رؤيته لنظامٍ جديدٍ قائمٍ على “عزل الولايات المتحدة، ونقل السلطة إلى آسيا، [و] توسيع جبهة المقاومة [المُناهِضة للغرب]” بقيادة الجمهورية الإسلامية.

هذه هي العدسة التي من خلالها يدعم خامنئي حرب بوتين في أوكرانيا – ولماذا شارك في تقديم الدعم العسكري لروسيا. وهذه هي الطريقة التي تنظر بها طهران إلى الصفقة الإيرانية-السعودية التي توسّطت فيها الصين. وهذا ما أكّده مسؤولو النظام المتشدّدون في إيران. بعد توقيع الصفقة، حيث قال يحيى رحيم صفوي، القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني السابق والمستشار العسكري لخامنئي، أن حقبة ما بعد الولايات المتحدة بدأت في المنطقة وكانت الصفقة “ثاني أكبر ضربة صينية للولايات المتحدة”.

إن افتقارَ الصفقة إلى جوهرها ليس مصدَرَ قلقٍ للجمهورية الإسلامية. بطبيعة الحال، فإن مسوِّقي النظام هم الآن في وضع بيع الصفقة وتسويقها في الداخل والخارج، حيث يروّجون لها كإعلانِ سلامٍ وفرصة لممارسة الضغط لرفع العقوبات عن نظام خامنئي.

لكن في الواقع  اتفقت الدولتان العربية والفارسية ببساطة على استعادة العلاقات الديبلوماسية في الأشهر المقبلة، بعد أن قطعت الرياض العلاقات في كانون الثاني (يناير) 2016 بعد اعتداءِ ونَهبِ القوات شبه العسكرية التابعة للحرس الثوري للسفارة السعودية في طهران. من وجهة نظر خامنئي والحرس الثوري الإيراني، فإن العودة إلى الوضع الراهن قبل العام 2016 هي سببٌ آخرٌ لإعلان النصر لأنهما يعتقدان أنها تُحافظُ على هيمنة إيران الإقليمية بدون أي تكلفة تقريبًا.

بانسبة إلى علاقة الأمر والصفقة بالحرس الثوري الإيراني، فلن يكونَ هناك تغييرٌ عملي في استراتيجيته أو تشدّده أو دعم وكلائه وجماعات الميليشيات التابعة له. إن العداءَ العنيف تجاه المملكة العربية السعودية مُتَأصِّلٌ وراسخٌ في إيديولوجية الحرس الثوري الإيراني، مع عقيدةٍ مُعادية للرياض، التي تُصَوِّرُ العائلة المالكة السعودية على أنها “مُرتَدَّة” ومن “أصولٍ يهودية”، وهي مُدمَجة في برنامج التلقين الرسمي للحرس الثوري الإيراني.

تُدرِكُ الرياض ذلك تمامًا – فهي تعرفُ الهوية الحقيقية للحرس الثوري الإيراني ودوافعه بما يتجاوز الوجه المُبتَسِم لعلي شمخاني (كبير مفاوضي طهران) أو الكلام المعسول لحسين أمير عبد اللهيان (وزير الخارجية الإيراني). ومع ذلك، بالنسبة إلى السعوديين، فإن الصفقة مفهومة الهدف بكل بساطة. فهي تمنحهم القدرة على متابعة أهدافهم الأساسية، والتي تتعلق ببناء القوة الاقتصادية لبلدهم والمضي قدمًا في الإصلاحات الاجتماعية التي تجتاح البلاد بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث يرونها أنها تشكّلُ حيادًا وحماية معززة ضد هجوم إيراني مباشر أو بالوكالة. لكن من المحتمل أن تكون لديهم أوهامٌ قليلة حول إمكانية الاعتماد على أيِّ التزاماتٍ للنظام الإيراني أو استمرارية الاتفاقية.

في ظل هذه الخلفية، فإن الحماسَ الذي ولّده الاتفاق الذي توسّطت فيه الصين بشأن السلام الدائم في اليمن يتجاوز طاقته. في أحسن الأحوال، في المدى القصير جدًا، سيؤخر الحرس الثوري الإيراني تكتيكيًا تشدده ضد عدوه الأصغر، المملكة العربية السعودية، لتكريس المزيد من الاهتمام لطرد عدوه الأكبر، الولايات المتحدة، من الشرق الأوسط – وبالتالي إنهاء انهيار النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، من وجهة نظره.

إذا كان هناكَ أيُّ شيء، في المدى الطويل، فإن الحرس الثوري الإيراني يأمل على الأرجح في أن تؤدي الصفقة التي توسّطت فيها الصين إلى تعزيز عقيدة الميليشيات وتعزيز استراتيجيتها المتمثلة في الإنكار المعقول للهجمات التي يشنّها الحوثيون ضد الرياض. بعبارةٍ أخرى، تعزز الصفقة قدرة الحرس الثوري الإيراني على الادِّعاء بأنه “ليست لديه سيطرة” على عمليات الحوثيين، على الرُغم من كونه الداعم الرئيس لهم.

في الواقع، على المستوى الإقليمي، يُركِّزُ نظامُ خامنئي على استخدام الاتفاقية التي توسطت فيها الصين لتعطيل السلام بدلًا من تسهيله – أي تخريب اتفاقات أبراهام التي تفاوضت عليها الولايات المتحدة. أمضى الحرس الثوري الإيراني العامين الماضيين في العمل بلا كلل لمنع المزيد من الدول العربية من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتي يشير إليها على أنها “ورمٌ سرطاني” يجب استئصاله.

ويعتقد النظام الإيراني أن الاتفاقَ الذي توسّطت فيه الصين يقتل عصفورين بحجرٍ واحدٍ في هذا الصدد، من خلال تأخير انضمام المزيد من الدول العربية إلى اتفاقات أبراهام وتقويض قيمة وهيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

لكن هذا هو السبب في أنَّ كلَّ هذا يمثل تحدّيًا أمنيًا كبيرًا للغرب وحلفائه والنظام الدولي على نطاق أوسع: إذا اعتقد خامنئي والحرس الثوري الإيراني أن نظامًا عالميًا جديدًا آخذٌ في الظهور، فسيعملان كل ما في وسعهما على تسريع انهيار النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وقد يؤدّي ذلك إلى زيادة التصعيد والتهوّر والأخطاء الإستراتيجية المُناهِضة للغرب من جانبهما، بما في ذلك الملفات النووية والإرهابية. ويشير دعمهما العسكري لبوتين إلى أنه قد فعل ذلك – وهناك تطوراتٌ أكثر إثارةً للقلق في طور التكوين بالفعل.

يجب أن يكون الشاغل الأكثر إلحاحًا هو توسيع التعاون العسكري بين بكين وموسكو وطهران – المُوَجَّه نحو تقويض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. بعد أقل من أسبوع من الإعلان عن الصفقة التي توسّطت فيها بكين، أجرت الصين وإيران وروسيا مناورات بحرية مشتركة عبر المحيط الهندي وخليج عُمان.

وعلى الرُغمِ من أن الرئيس الصيني سيتردّد على الأرجح في تعزيز العلاقات العسكرية الاستفزازية مع خامنئي، فلا يمكن قول الشيء نفسه عن بوتين. في الأشهر والسنوات المقبلة، من المرجح أن نرى تعاونًا أوثق على الأرض بين طهران وموسكو يتجاوز أوكرانيا. بالنظر إلى أن كلًّا من خامنئي وبوتين سعيا إلى استخدام أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كساحةِ معركة لاستهداف المصالح الغربية، فإن إمكانية التنسيق بين “فيلق القدس” و”مجموعة فاغنر” في القارة الأفريقية لم تعد بعيدة المنال.

هذا من شأنه أن يُغَيِّرَ بشكلٍ كبير الديناميكية الأمنية في ما يُعتَبَر بالفعل بؤرة جديدة للإرهاب. قد يؤدي السيناريو الأسوأ إلى تنسيق موسكو وطهران لهجماتِ الجهات غير الحكومية ضد المصالح الغربية في جميع أنحاء العالم، مع إمكانية إنكارٍ معقولة لتجنّبِ أيِّ عواقب.

بعيدًا من المجال العسكري، شجّعت الصفقة الإيرانية-السعودية التي توسّطت فيها الصين طموحات بكين وموسكو وطهران المشتركة لاستبدال الكيانات والاتفاقيات العابرة للحدود ذات التوجّه الأميركي باتفاقياتها، مثل إنشاء منظمة شنغهاي للتعاون أو استبدال الدولار الأميركي بـاليوان الصيني والروبل الروسي- وهو اتجاهٌ ستدفعه هذه العواصم الثلاث بشكلٍ جماعي للتوسع.

كانت طهران نفسها مشغولة أيضًا بزيادة جهودها لتشكيل تحالفاتٍ أوثق مع الدول التي تعتبرها جُزءًا من هذا المحور الناشئ المُعادي للغرب. كشفت تصريحات خامنئي الأخيرة خلال اجتماعٍ مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو كيف تريد الجمهورية الإسلامية قيادة الجهود لتقويض العقوبات الأميركية على مستوى العالم، حيث دعا المرشد الأعلى الإيراني إلى “تجمّعٍ مُشترَك” للدول التي يفرض عليها الغرب عقوبات.

لقد أنشأ الحرس الثوري الإيراني بالفعل شبكةً من طُرُقِ التمويل غير المشروع في جميع أنحاء العالم، ليس أقلها في أميركا الجنوبية، مع تقارير تكشف كيف تتهرّب طهران من العقوبات النفطية الأميركية والأوروبية وتُهرِّب الذهب من فنزويلا وإليها. كما إنَّ عودة ظهور القوى المناهضة للولايات المتحدة أخيرًا من جديد في أميركا الجنوبية أتاح لنظام خامنئي المجال لتوسيع شبكته في القارة إلى ما بعد فنزويلا ببساطة – وهي فرصة لم يُضَيِّعها آية الله المُسِنّ.

لذلك، على الرُغمِ من أن الصفقة الإيرانية-السعودية التي توسّطت فيها الصين قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها خطوةٌ إيجابية للاستقرار الإقليمي والأمن الدولي، إلّا أن التقييم الأوثق لخامنئي ودوافع الحرس الثوري الإيراني يكشفان عن حقيقةٍ مُختلفة. إنهما يستخدمانها لإلحاق الضرر بالغرب، وجهود السلام العربية-الإسرائيلية، والنظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. إذا كانت هناك أي شكوك سابقة، فإن الصفقة تؤكد أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة سيخلق فراغًا سوف يملأه المحور المُناهِض للغرب بشكل تدريجي.

على عكس ما يقوله الإنعزاليون، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط لن يجعل المشاكل تختفي. في الواقع، ستزيد من تقويض الأمن الدولي من خلال تعزيز وتمكين القوى نفسها المُصَمِّمة على تحدّي النظام العالمي الليبرالي. لقد أوضحت وأكدت إدارة جو بايدن مع حرب أوكرانيا كيف يمكنها بناء تحالفات دعم والحفاظ عليها بمهارة كبيرة. عليها الآن أن تفعل الشيء نفسه في الشرق الأوسط.

  • سعيد غولكار هو زميل أقدم في معهد توني بلير للتغيير العالمي وأستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والخدمة العامة في جامعة تينيسي في تشاتانوغا. يمكن متابعته عبر تويتر على: @SaeidGolkar
  • كسرى أعرابي هو رئيس برنامج إيران في معهد توني بلير للتغيير العالمي. وهو أيضًا باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط وويعمل على الحصول على الدكتوراه في جامعة سانت أندروز، حيث تركز أبحاثه على الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. يمكن متابعته عبر تويتر على: @KasraAarabi
  • يُنشَرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع نشره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى