البانتيون: كيف الأُمَّة تتكَرَّم بـخالديها (3 من 3)

أَلبر كامو: رفضَت أُسرتُه نقْل رفاته

هنري زغيب*

في الحلقتين الأُوليَيْن من هذه الثلاثية، عرضتُ لتاريخ مبنى البانتيون وما كان له من مفاصل عبر السنوات، ونزاعات بين أَن يبقى كنيسة وأَن يتحوَّل مجمَّع العظماء في تاريخ فرنسا.

في هذه الحلقة الأَخيرة، أَعرض لأَهمِّ العظماء الذين نُقلَت رفاتهم، والذين خلَّدَتهم فرنسا بلوائح رخامية حملت أَسماءَهم.

تعديلات وترميم

منذ فجر الجمهورية الخامسة (4 تشرين الأَول/أُكتوبر 1958) لم يَدخل على مبنى البانتيون أَيُّ تعديل هندسي أَو تَسْمَوِي، إِلَّا إِضافة ساعة كبرى سنة 1995 في أَعلى صحن القاعة الكُبرى. غير أَن ترميمات ثانوية دخلتْه بقيَت هامشية حيال الهيكل الضخم الـمَهيب، منها إِضافة تمثال الإِلهة المصرية القديمة “باسْتِتْ” لدى إِدخال رفات أَندريه مالرو إِلى البانتيون، لـمِا تمثِّلُ من رمزية في أَدب مالرو.
سنة 2005 قامت مجموعة خاصة، على نفقتها، بتصليح ساعة “فاغنر” الكبرى التي تَرقى إِلى 1850 وتعطَّلت سنة 1965.

سنة 1984 كلَّفَت الدولة المهندس المختص بالمواقع الأَثرية ترميم بعض التحتُّت في حجارة المبنى. وسنة 1991، مع بلوغ المبنى 200 سنة، كان لا بدَّ من بعض التحسينات الهندسية. وسنة 1999 خلال العاصفة العنيفة التي ضربَت باريس، تهشَّمَت أَجزاء من القُبَّة، فعمَدت وزارة الثقافة إِلى ترميم القطع التالفة.

تقليدُ نقل الرفات إِلى مكان جَـماعي، كما بدأَ في فرنسا منذ الثورة الفرنسية، يرقى إِلى المصريين القدامى وعنهم أَخذَه اليونان فالرومان. وتتَّخذ طقوسه في النقْل هيبةَ التقاليد الدينية وجلالها، كما اعتمدتها فرنسا نهائيًا منذ القرن الثامن عشر. وبعدما كان القرار في البدء يَصدر عن الجمعية الوطنية، تحوَّل في الجمهوريتَين الثالثة والرابعة إِلى النواب، ومع الخامسة بات القرار يَصدر عن رئيس الجمهورية، ويُعتبَر من إِنجازات الرئيس ورؤْيته في إِعلاء مجد فرنسا على عهده.

ولم يكن قرار النقل دومًا يلاقي الترحيب. فنقْل رفات إميل زولا (1840-1902) أَحدث سنة 1908 مضاعفات واعتراضات، ونقْلُ رفات أَلبر كامو (1913-1960) واجَه سنة 2009 معارضةً حادَّة من أُسرته فأُلْغِيَ النقْل.

أَنطوان دو سانت إِكزوبيري

“سكان” البانتيون

في البانتيون حاليًا 81 رفاتًا:  6 نساء و75 رجلًا.

النساء هُنّ: سنة 1907 عالِمة الكيمياء صوفيا بيرتُلو (1837-1907)، سنة 1995 العالِمة ماري كوري (1867-1934)، سنة 2015 المقاوِمة والناشطة الاجتماعية جنفياف ديغول أَنطونيوز (1920-2002)، وسنة 2015 أَيضًا الناشطة في حقوق الإِنسان جيرمين تِيُّون (1907-2008)، سنة 2018 عضو الأَكاديميا الفرنسية ووزيرة الصحة ورئيسة البرلمان الأُوروبي سيمونا فايل (1927-2017)، سنة 2012 الفنانة المسرحية جوزفين بايكر (1906-1975).

أَبرز العظماء الخمسة والسبعين الذين يضمُّهم البانتيون منذ تأْسيسه:

سنة 1791: الكاتب فولتير (1694-1778)، الفيلسوف جان جاك روسو (1712-1778). سنة 1829: مهندس البانتيون جاك جيرمان سوفلو (1713-1780)، سنة 1885: الشاعر فيكتور هوغو (1802-1885)، سنة 1908: الروائي إِميل زولا (1840-1902)، سنة 1894: المهندس الفيزيائي العبقري سادي كارنو (1796-1832)، سنة 1952: مخترع طريقة القراءة للعميان لويس بْرايْ (1809-1852)، سنة 1996: الروائي وأَول وزير ثقافة أَندريه مالرو (1901-1996)، سنة 2002: الكاتب أَلكسندر دوما (1802-1870)، سنة 2020: الكاتب موريس جُنُفْوى (1890-1980).

أَندريه مالرو

لوائح خارج الرفات

وبين أُولئك العظماء من سُحِبَ رفاتُهم من البانتيون، منهم خطيبُ الثورة ميرابو (1749-1791) الذي بعد نقل رفاته إِلى البانتيون (5 نيسان/أَبريل 1791)، عاد “المؤْتمر الوطني الفرنسي” (1792-1795) فقرَّر سحب رفاته في 21 أَيلول/سبتمبر 1794 إِذ اكتُشِفَ لاحقًا أَنه كان على اتصال سِرِّي بالملك وكبار بلاطه من أَجل أَن يكون وزيرًا لديه.

والذين لم يُنقَل رفاتُهم إِلى البانتيون، حُفِرَت أَسماؤُهم داخلَه على لوحة رخامية جمَعت نحو 1000 اسم، منهم مَن ماتوا لأَجل فرنسا في الحرب العالمية الأُولى (بينهم الكاتب أَلان فورنييه، والشاعران غيوم أَبولينير وشارل بيغي)، ومنهم مَن ماتوا لأَجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية (بينهم الكاتب أَنطوان دو سانت إِكزوبيري، والشاعر روبير ديسنوس، والرسام ماكس جاكوب). وبينهم من طبَعوا بنتاجهم تاريخ فرنسا (بينهم الفيلسوف هنري برغسون).

وفي أَماكن أُخرى من قاعات البانتيون، لوائح حجرية بأَسماء جنود سقطوا من أَجل فرنسا في حرب 1870، وضحايا ثورة 1830، وشهداء ثورة 1848. وبين اللوائح أَيضًا أَسماء سيدات خدمْن فرنسا بأَعمالهنّ ونتاجهنّ. وسنة 2002 (بين 7 و17 آذار/مارس) أُقيم على مدخل البانتيون معرض لسيدات فرنسيات تركْن أَثرًا في الفنون والعلوم والفلسفة والسياسة والنشاط الاجتماعي، وأُقيم معرض آخر لسيدات أُخريات في السنة ذاتها (بين 8 و12 أَيار/مايو) لمناسبة اليوم العالمي لحقوق المرأَة.

سنة 2008 عُلِّقَت على واجهة البانتيون صُوَر تسْع سيدات تكريمًا لعطائهنّ، بينهنّ: الكاتبة سيمون دوبوفوار، والروائية كوليت، والكاتبة جورج صاند.

جوزفين بايكر

خلودُهُ بالخالدين

وكان البانتيون، من حيث موقعه المهيب يلفت إِليه المبدعين، فظهر في بعض لوحات فان غوخ ومارك شاغال، وكتَب فيه فيكتور هوغو قصيدة شهيرة، وصدَرت عن الصرح كتُب عدَّة.

وبذلك يكون البانتيون، من حيث رمزيتُه ومضمونُه، رمزًا ساطعًا في عاصمة فرنسا، شاهدًا على مجدها التاريخي والأَدبي والعلمي والفني والسياسي، لائقًا بالذين خدَموا وطنهم وغابوا، ويبقى هذا الصرح مخلِّدًا ذكرَهم لا إِلى غياب.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى