البانتيون: كيف الأُمَّة تتكَرَّم بـخالديها (2 من 3)
هنري زغيب*
في الجُزءِ الأَول من هذه الثلاثية سردتُ مفهومَ البانتيون من روما إِلى باريس، وظروفَ نشأَته تاريخيًّا، وبعضَ ما في بنيانه من هندسة وأَقسام. وهو كان شُيِّدَ تنفيذًا لقرار الملك لويس الخامس عشر أَصابه المرض سنة 1744 فذُعِرَ من الموت ونذَرَ أَنْ إِذا شُفِيَ سيَبْني كنيسةً في قلب باريس على اسم القديسة جنفياف. وهو ما تَـمّ.
في هذا القسم أَسرد مراحلَ النزاع الـمُتَتالي الحادّ التي مرّ بها “البانتيون” مَدًّا وجَزْرًا مراتٍ عدَّةً خلال السنوات بين استعادته كنيسةً كاثوليكية وإِعادته مقرًّا عَلْمانيًّا كما شاءَه ثُوَّار 1789.
و… جاءت الثورة الفرنسية
واجه المبنى انتقاداتٍ قاسيةً من بعض المعاصرين، منهم الـمُحقُّ ومنهم الـمُتجنّي. وكان مؤْسِفًا أَن يموت المهندس سوفلو (29 آب/أُغسطس 1780) قبل انتهاء البناء، فلم يقُم مَن يدافع عن التهمة الهندسية الرئيسة وهي أَن المجموعات الأَربع من الأَعمدة المفترض أَنها تحمل القُبَّة، ليست مغذَّاةً بالمؤُونة الكافية من المواد الحجرية، وأَنَّ البناء آيلٌ إِلى الانهيار.
بعد وفاة سوفلو أَكمل العملَ مساعداه روندوليه وبريبيون (1780-1790) فدعَّما الأَعمدة الحاملةَ القُبَّة، وقام النحات غِيُّوم كوستو (1716-1777) بإِنجاز المثلَّث فوق الرواق.
وما هي حتى اندلعت الثورة الفرنسية (1789) فغيَّرت الكثير من المفاهيم، وذهبَت إِلى الوُجهة العَلمانية، فقررت الجمعية الوطنية تحويل “كنيسة القديسة جنفياف” إِلى “بانتيون الرجال العظماء”، وكلّفت المهندس أَنطوان كاترمير دو كوينسي (1755-1849) تنفيذَ هذا التحويل. لذا نُزعَتِ الأَجراس وأُقفِلَت 38 نافذة من أَصل 42، للتخفيف من انسياب النُور إِلى الداخل كما كان تصميم الكنيسة الأَول.
من كنيسة إِلى “معبد جمهوريّ”
ما إِن أُنجز البناء سنة 1790 حتى تُوفي خطيب الثورة الفرنسية ميرابو في 2 نيسان/أَبريل 1791 فبدأَ الحديث العمَلي عن إِقامة مكانٍ يَحفظ رفات العظماء من رجال فرنسا، على مثال دير وسْتْمِنْسْتِر في إنكلترا وما كان لكنيسة سانت إِتيان سابقًا في فرنسا. لذا اقترح نائبُ باريس وأَول رئيس للجمعية التشريعية المركيز إِيمانويل باستوريه (1755-1840) أَن يكون المكانُ هذا البناءَ الفخمَ الجديد الذي انتهى تشييدُه ولم يتكرَّس كنيسةً بعد، فاتَّخذَت الجمعية الوطنية قرارًا في 4 نيسان/أَبريل 1791 باعتماد هذا المبنى الجديد مَكانًا لائقًا مَهيبًا يضُمُّ رفات العظماء الذين ساهموا في إِعلاء مجد فرنسا.
وجاء في ذاك القرار أَن الجمعية الوطنية قرَّرَت استخدام هذا الصرح لاستقبال رفات العظماء بدءًا من تاريخ الثورة، وأَنها وحدها تُقرِّر “مَن يكون له هذا الشرف”، بدءًا بخطيب الثورة ميرابو، وأَن الجمعية قرَّرَت استقبال استثنائيًا استقبال رفات كبار توفُّوا قبل الثورة، منهم: فولتير (1694-1778)، وجان جاك روسُّو (1712-1778)، ورينه ديكارت (1596-1650)، وبناءً على هذا القرار تُنحَتُ على جبين مدخل الصرح عبارة: “الرجالُ العظماء تعترف بفضلهم الأُمَّة”، وتُطَرَّز العبارة بأَحرُفٍ برونزية لماعة.
هكذا، بين 1791 و1793 تحوَّل المبنى، بتوجيهات المهندس دو كوينسي، إِلى وُجهته الجديدة: “البانتيون” ليضُم رفات كبار فرنسا العظماء طالما كلمة “بانتيون” الميتولوجية معناها: “ملتقى الآلهة”. واستمرَّ المبنى يشهد إِضافاتٍ تحسينيةً بين 1796 و1801.
مقَرّ علماني فكنيسة فمَقَرّ فكنيسة فمَقَرّ
سوى أَن الأَمر لم يطُل هكذا، بل عاد قرارٌ صدَر 20 شباط/فبراير 1806 بتسمية المبنى “كنيسة القديسة جنفياف” ليكون السرداب فقط مُجمَّع العظماء” وتبقى الطبقة الأَرضية للصلاة والعبادة. وفي 12 نيسان/أَبريل 1816 صدر مرسوم ملكيّ بجعل كنيسة القديسة جنفياف فقط للعبادة والصلاة، وبإِخلائها تمامًا من جميع الشعائر التي لا تتعلَّق بطقوس العبادة. وسنة 1819 أُزيلَت الأَحرفُ البرونزية اللمّاعة عن العبارة الشهيرة على جبين الرواق، لكن العبارة المنحوتة في الصخر بقيَت مقروءَة، إِلى أَن أُزيلَت نهائيًا عن الحفر الصخري سنة 1826.
ومع هذا التدبير الكنسي الجديد، بقي رفات فولتير وروسو في الصرح إِنما نُقِلا إِلى مكانٍ آخرَ بعيدٍ عن أَعين جمهور المصلين في الكنيسة. وجوابًا عن سؤَال بعض المغالين في الإِيمان: “كيف يبقى في الكنيسة رفاتُ فولتير وهو كان ضدَّ الكنيسة”، كان الملك لويس الثالث عشر يجيب: “دعُوهُ هنا، ولتكُنْ عقوبَتُه أَن يَحضَر القدَّاس في الكنيسة كلَّ يوم”.
لكنَّ “نظام تموز الملكي” (حَكَمَ فرنسا من 1830 إِلى 1848) عاد فأَمرَ بنزْع الطابع الدينيّ عن المقرّ، وبإِعادته إِلى “بانتيون العظماء” تحت اسم “معبد المجد”، كما بإِعادة الشعار على جبين المدخل، فتعدَّلَ الاسم في “الجمهورية الثانية” بين 1848 و1851 وتحوَّل إِلى “معبد الإِنسانية” بدون أَن يدخلَه فترتئذٍ أَيُّ رفات.
عاد التجاذُب من جديد بين 1851 و1870: مع نابوليون الثالث عاد المبنى كنيسةً واختفى الشعارُ عن جبين مدخلها.
و… أَيضًا وأَيضًا من جديد، مع الجمهورية الثالثة، صدر في 19 تموز/يوليو 1881 قرار باستعادة اسم “البانتيون” وإِعادة الشعار على جبين المدخل. وتم تنفيذ ذلك عمليًا في أَيار/مايو 1885 عند وفاة فيكتور هوغو (1802-1885) إِذ نُقِلَ رفاته إِلى “البانتيون” في احتفال ضخم، وطُلِب إِلى النحات أَوغست رودان صنع تمثال لهوغو. ومن يومها تكرَّس المكان نهائيًا – إِنما نهائيًّا هذه المرة – وبات كما هو اليوم مجمَّع العظماء الذين تُقِرُّ بفضلهم الأُمة.
سنة 1920 صدر القرار بجعل البانتيون “مبنى أَثريًّا”، وسنة 1927 وُضعَت لافتةٌ صخريةٌ أُخرى تحمل أَسماء الكتَّاب الذين ناضلوا بكتاباتهم من أَجل فرنسا خلال الحرب العالمية الأُولى، ولاحقًا وُضِعَتْ أُخْت لها مماثلة تحمل أَسماء الكتَّاب الذين ناضلوا بكتاباتهم من أَجل فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
ماذا عن البانتيون في الجمهورية الخامسة (الحالية)؟
ومن هُم أَبرز “السكَّان” في “البانتيون”؟
هذا ما أَختُم به الجزء الأَخير من هذه الثُلاثية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.