الذكاءُ الاصطناعي يُغيِّرُ المَشهَدَ الجيوسياسي الدولي

كابي طبراني*

منذ كشفت شركة “أوبن إي آي” (OpenAI) عن “تشات جي بي تي” (ChatGPT)، برنامج الذكاء الاصطناعي الذي يجيب عن كل الأسئلة كما لو كان إنسانًا، احتلّ مجالُ الذكاء الاصطناعي مركزَ الصدارة في المنافسة على أحدث التقنيات. القطاعُ الأكثر وضوحًا الذي تدور فيه تلك المعركة هو قطاع الأعمال. فقد قامت شركة “مايكروسوفت” العملاقة للتكنولوجيا، التي أعلنت أخيرًا عن توسيع شراكتها مع شركة “OpenAI” باستثمار قدره 10 مليارات دولار، بدمجِ أداةٍ من “OpenAI” أكثر قوّة في محرّك البحث الذي تملكه “بينغ” (Bing)، في خطوةٍ مُذهلة تهدفُ إلى تحدّي شركة البحث العملاقة الأخرى “غوغل” (Google) المُهَيمنة على الإنترنت.

لكن التجارة هي مجالٌ واحدٌ مُعلَن احتلّ فيه الذكاءُ الاصطناعي مركز الصدارة. على الرغم من الظهور المفاجئ للذكاء الاصطناعي وبروزه على الجبهة الاقتصادية، كانت التكنولوجيا موضع اهتمام مُلِح ومُرَكّز لسنواتٍ عديدة. ومن المحتمل أن يكون تأثيرها في المنافسات الجيوسياسية، لا سيما في المجالين السياسي والعسكري، بالأهمية نفسها التي تؤثر فيها في الأنشطة التجارية.

في الواقع، إن المنافسةَ بين القوى العظمى على الذكاء الاصطناعي جاريةً على قدمٍ وساق. في حين أنها تُركّزُ على المسائل العسكرية والاستراتيجية، فإن الأهمية المُتزايدة للذكاء الاصطناعي تتزامن مع ارتفاع حدة التوترات بين الولايات المتحدة والصين، والاتجاه العالمي ضد العولمة، لخلقِ مَشهَدٍ جيوسياسي جديد وربما أقل استقرارًا.

يُعَدُّ الذكاءُ الاصطناعي بالفعل عاملًا في السياسة الداخلية. وقد أُطلِقَ عليه اسم “السلاح الخارق” الذي استُخدِمَ بنتائج فعّالة للغاية في استهداف الناخبين. ويقوم المستشارون السياسيون في الولايات المتحدة بتعريف وإطلاع عملائهم على أهمية الذكاء الاصطناعي، ليس فقط لتكثيف البحث عن المساهمات المالية والسياسية ولكن أيضًا في صياغة الرسائل والتكتيكات الأخرى. سيلعب الذكاء الاصطناعي أيضًا دورًا متزايدًا في حملات التضليل، والتي كان لها فعلًّا تأثيرٌ في الانتخابات الديموقراطية.

ولكن إلى جانب الآثار الدقيقة في السياسة الانتخابية، يعمل الذكاء الاصطناعي بالفعل على تغيير المشهد الجيوسياسي الدولي، مع تداعياتٍ بعيدة المدى.

الغرب، مُستَغنمًا التحوّل نحو إزالة العولمة الذي تسارعَ نتيجةً لوباء كوفيد-19 وغزو روسيا لأوكرانيا، يبذلُ جهودًا كبيرة لإبعاد الصين عن الذكاء الاصطناعي يمكنها أن تُعيدَ تشكيل الاقتصاد العالمي. بقدر ما أصبح السفر إلى الفضاء وتطوير الصواريخ مجالًا للمنافسة بين القوى العظمى في منتصف القرن العشرين، حيث دقَّ التقدّم السوفياتي ناقوس الخطر في الغرب، أصبح الذكاء الاصطناعي ساحة معركة رئيسة في منافسة القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين.

والذي أذهل المراقبين الغربيين هو أن الصين قد اتخذت زمام المبادرة في وقت مبكر في مجال الذكاء الاصطناعي، ما أثار ليس فقط المخاوف ولكن أيضًا مجموعة من الإجراءات ردًّا على ذلك.

قبل سنوات، أفادت تقاريرٌ عدة مُتطابقة أن الرئيس الصيني شي جين بينغ جعل تطوير الذكاء الاصطناعي مُكَوِّنًا مركزيًا في رؤيته الاستراتيجية، لأنه بات مُقتنعًا بأن قيادة العالم في هذا المجال ستكون ضرورية لقدرة الصين على التنافس مع الغرب في كلٍّ من الساحتين الاقتصادية والعسكرية. وقد شجب المسؤولون الصينيون علنًا فكرة أنهم يشاركون في سباقِ تسلّحٍ للذكاء الاصطناعي. لكن من جهة أثخرى، تفيدُ معلومات مخابراتية غربية أنَّ الصين تعمل بنشاط على تطوير الاستخدامات العسكرية وحتى تصدير الأنظمة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لأغراضِ المراقبة وتكنولوجيا الطائرات المُسَيَّرة.

مع الإلحاح المتزايد، حاول صانعو السياسة في الولايات المتحدة تشجيع التصنيع المحلي وكذلك البحث والتطوير التكنولوجي، بما في ذلك الرقائق الدقيقة المتطورة المستخدمة في الذكاء الاصطناعي، مع السعي إلى منع وحرمان الصين من استخدام المعرفة الغربية لتحسين وتوسيع تطويرها للذكاء الاصطناعي.

قبل الوباء والحرب في أوكرانيا، شكلت جهود الولايات المتحدة لقمع التهديد العسكري المُحتَمل للصين معضلة. كانت واشنطن ملتزمة بشدة بتعزيز العلاقات التجارية مع الصين، بينما كانت تحاول في الوقت عينه تقليص صعود بكين العسكري. ولكن الآن، يتداخل التركيز على الذكاء الاصطناعي مع وجهة نظر بعض الأصوات المؤثرة بأن التجارة ليست دائمًا عَرضًا يربح فيه الجميع. بدلًا من ذلك، يمكن أن تُنتِجَ رابحين وخاسرين، في بعض الأحيان مع عواقب استراتيجية.

تأمّل الوضع  قبل سنوات، فقد حاولت إدارة الرئيس باراك أوباما في ذلك الوقت إيقاف مبيعات رقائق “Xeon” المتطوِّرة من الشركة الأميركية “إنتال” (Intel) إلى الجيش الصيني، بما في ذلك للجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع. لكن الصناعات الحكومية والخاصة في الصين غالبًا ما تكون مترابطة، وغالبًا ما تُنشِئ بكين شركاتٍ وهمية تزعم أنها تعمل في القطاع الخاص من أجل التهرّب من مثل هذه الإجراءات. ونتيجةً لذلك، فإن قيودَ التصدير لم تفعل شيئًا يُذكَر لإفشال وصول الجيش الصيني إلى الرقائق المتقدّمة.

لقد فشلت محاولات حماية التجارة الدولية أثناء إقامة حواجز حماية على التكنولوجيا الدفاعية، تمامًا مع اشتداد التوترات مع الصين وتنامي الاهتمام بـ “الدعم القريب” لتقريب التصنيع والتجارة من حدود الولايات المتحدة. كانت النتيجة فرض حظر أوسع نطاقًا على صادرات التكنولوجيا الرئيسة إلى الصين، بغض النظر عما إذا كان المشترون المحتملون هم شركات خاصة أو شركات مرتبطة بالدفاع تسيطر عليها الدولة.

في العام الفائت، تحرّكت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، مع التركيز الشديد على الذكاء الاصطناعي، لمنع جميع مبيعات الرقائق المتطوّرة إلى أيِّ منظمة في الصين. أصبح من غير القانوني الآن بيع رقائق ذكاء اصطناعي متطوّرة تستخدم أي مكوِّن من أصل أميركي – وهو ما يصل إلى جميع المكوّنات – للجيش الصيني وشركات التكنولوجيا الصينية وحتى للشركات الأميركية العاملة داخل الصين. قبل سنوات، كان هذا الأمر غير مُتَصَوَر وغير وارد على الإطلاق.

نحن نقف راهنًا عند تقاطع ثلاثة اتجاهات: صعود الذكاء الاصطناعي، وتراجع العولمة، واشتداد التنافس بين الصين والغرب.

الثلاثة كلها كانت تُبنى وتَنشَأ منذ سنوات. حسب بعض الحسابات، بلغت العولمة ذروتها في العام 2008. والذكاء الاصطناعي كان في طور الإعداد لأكثر من نصف قرن، والتنافس بين الولايات المتحدة والصين ليس تطوّرًا جديدًا. لكن كل هذه الاتجاهات تسارعت في السنوات القليلة الماضية. في هذه المرحلة، يبدو أنه من غير المعقول تقريبًا عدم سؤال “تشات جي بي تي” (ChatGPT) عن تأثير الذكاء الاصطناعي في النزاعات العالمية. بعد سرد عدد من الاحتمالات، خلص روبوت المحادثة إلى أنه “سيعتمد على كيفية تطويره واستخدامه”، وقدّم بعض النصائح بينها أنَّ تطويرَ واستخدام الذكاء الاصطناعي يجب أن “يسترشدَ بالمبادئ الأخلاقية والقانونية، لمنع العواقب غير المقصودة وضمان أنه يفيد البشرية جمعاء”. ونحن نضيفُ بأن القيامَ بذلك قد يكون مهمة شاقة وأصعب بكثير من بناء محرّك بحثٍ أفضل على الإنترنت.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى