جديد فان غوخ: مات انتحارًا أَم اغتيالًا؟

جريدة محلية (7 أُغسطس 1890) تَنشر خبر وفاته

هنري زغيب*

بعد 132 سنة على حادث إِطلاق النار الغامض، ما زالت وفاة الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ (1853-1890) تثير فضول المؤَرِّخين ونُقَّاد الفن وكُتَّاب السيرة، لِما فيها من غرابة وتعدُّد روايات. أَحْدَثُ مَن اهتمَّ لها: باحثان أَميركيان مختصان بكتابة السيرة: ستيفان نايفه (م.1952) وغريغوري وايت سميث (م.1951). فماذا وَجَدَا؟

صباحَ الثلثاء 29 تموز/يوليو 1890 تُوُفِّيَ فان غوخ على سرير غرفته في الطبقة الثانية من نزْل رافو Ravoux (في قرية أُوڤير شماليّ فرنسا). وسرى من يومها أَن الرسام، وكان يائسًا وبائسًا ومحبَطًا، انتحر بإِطلاق رصاصة من مسدسٍ على صدره، ويقال إِنه هو اعترف بذلك قبل أَن يلفظ نَفَسه الأَخير.

فهل هذا موثَّق وصحيح؟

أَصحاب النزْل الذي تُوُفي فيه

تلك الليلة الرهيبة

بعد سنوات طويلة على وفاته ظلَّ الكثيرون من النقاد ومؤَرخي الفنون ينسبون يأْسه فانتحاره إِلى اضطرابه العقلي والذهني. فهو منذ مطلع تموز/يوليو 1890، بعد قضائه نحو سنة في مصح للأَمراض العقلية رسَمَ فيه مجموعةً من أَفضل أَعماله، بقيَت لديه رواسب اضطرابات تتماوج في سلُوكه وأَعصابه: يومًا يكون طبيعيًّا ويكتب رسائله إِلى شقيقه وشقيقته في مزاج إِيجابي، ويومًا آخَر يشكو من أَحزانه وآلامه الجسدية.

كانت الساعة التاسعة ليل الأَحد 27 تموز/يوليو 1890 حين وصل إلى النَزْل حيث كان يسكن، وبدا ممسكًا ببطنه وجيعًا في محيط معدته، ويئن صارخًا من الألم. تلقَّاه أَصحاب النزل فهرعوا إِليه مذعورين يستفسرون منه عمَّا به. راح يجيبهم بتقطُّع بين الآخ والآخ: “لا… لستُ … موجوعًا، إِنما … إِنما…”، وراح يصعد الدرج مسرعًا إِلى الطبقة الثانية حيث غرفتُه. لحق به صاحب النزل سائلًا إِياه إِن كان مريضًا، فكشَف له فان غوخ عن صدره وأَراه جرحًا نازفًا قُرب قلبه وشرحَ له بتقطُّع: “حاولتُ أَن أَنتحر برصاصة في صدري”.

على هذا الدرب أُصيب بالرصاصة

شهادة غير موثَّقَة

بعد نحو الساعة والليل يتقدم، فصَّل أَنه هيَّأَ مكانًا له في حقل القمح المجاور كي يبدأُ بالرسم كما اعتاد قبل فترة أَن يرسم في ذاك الحقل. وروى بتَعَثُّرٍ أَنه بُعَيْدَ الظهر أَطلق النار على صدره فغاب عن الوعي لحظات ثم انتعش ببرودة نسيم تلك الأُمسية. حاول البحث عن المسدس كي يُكمِل انتحاره. لم يجده فعاد إِلى النزل ومات بعدذاك بيومين.

هذه الرواية عن وفاته تستند إِلى شهادة أَدلين رافو ابنة صاحب النزل وكانت يوم الحادث في الثالثة عشرة. لكنها لم تَبُح بهذه الشهادة إِلَّا سنة 1953، متذكِّرة ما كان رواه لها والدها قبل نحو 50 سنة. وكانت تدلي بشهادات مماثلة غير متشابهة، ما يضعف فرضية الحادث.

الباحثان المدقِّقان

ظلَّ الأَمر غير موثوق ولا موثَّق، حتى ظهر لدى الباحثَين الكاتبَين ستيفن نايفه وغريغوري وايت سميث فأَعلَنَا (في كتابهما “حياة فان غوخ”) خبرًا صادمًا أَن فان غوخ تلقَّى في صدره خَطَأً رصاصةً طائشةً من يد فتى في السادسة عشرة. واستَنَدَا في فرضيّتهما إِلى طبيعة الجرح في صدره، وإلى شهادة شقيقه تيوفيل، وإِلى رسالة وُجدَت في جيبه كان كتبها نهار وفاته. ذلك أَنْ لم يكُن في تلك الرسالة إِلى تيوفيل أَيُّ مزاج سلبي، بل فيها كلام إِيجابي عاديّ لا يمكن أَن يوصل صاحبه إِلى الانتحار.

آخر لوحة ذاتية رَسَـمَها (يوليو 1890)

دلائل أُخرى

من العناصر الأُخرى: لم تَرِدْ فرضية الانتحار في أَيٍّ من الشهادات المروية والتقارير المكتوبة بعد وفاته. كلُّ ما جاء فيها أَنه كان جريحًا برصاصة.  ولم يَثْبُت في أَيِّ إِدلاءٍ من أَين جاء بالمسدس، وهو لم يكن أَبدًا يقتني مسدسًا.

وأَكثر بعد: اختفى نهارَئِذٍ كلُّ ما كان معه من أَغراض (قماشة الرسم، الـمَلْوَن الخشبي، أَنابيب الأَلوان، …) ولم يجدْها أَحد في حقل القمح حيث كان يرسم. وحار طبيبان في سر ذاك الجرح النازف عند سرير موته: طبيبُ الصحة وطبيبُ الأَعصاب.

أمر آخر: أَيُّ إِنسان يودُّ الانتحار ويصيب في جسده ما يُبقيه نحو 20 ساعة من الأَلم والصراخ؟

ذاك الفتى الأَرعن

استنادًا إِلى تلك الفرضيات أَعلاه، لجأَ الباحثان الأَميركيان إِلى شهادة التلميذَين في “ليسيه باريس” غاستون ورُنيه سيكريتان Secrétan، مفترضَين أَنهما تسبَّبا بالوفاة. ففي شهادة أَدلى بها رنيه سنة 1957 أَنه كان يملك مسدَّسًا استعاره منه الرسام. يومها كان رينيه متنمِّرًا  وأَراد أَن يقلِّد الممثل بافالو بِلّ كودي (1846-1917) في مسرحية “الغرب البرّيّ” كان الفتى حضرها في باريس قبل سنة، وفيها يُطلق الممثل النارَ من مسدسه فيصيب هدفه بمهارة سريعة. وأَكثر: كان الفتى اشترى ملابس من طراز رُعاة البقر في الغرب الأَميركي، ومعها مسدس عتيق غير محترف يكاد لا يعمَل.

وصل رُنيه صيفًا إِلى أُوفير ليُمضي العطلة، فوجد فان غوخ محطَّ سخرية من سكَّانٍ في القرية يُسَخِّفون ما يرسمه، إِذ يجدونه تائهًا في أَنحاء القرية، بأُذُنه المضمَّدة (كان قبل أَيامٍ بَتَرَها بسكينه الحادّة) ويحمل عُدَّة رسمه الثقيلة ليَرسم أَينما اتفق. وكان غالبًا سكرانَ ثمِلًا ويتكلَّم بِلُغة متعثِّرة بين الفرنسية والهولندية.

حقيقة الرصاصة

راح رُنيه يجلس إِلى الرسام المتوحِّد في مقهى الضيعة، ثم يخبر رفاقه ساخرًا عن سخافات الرسام المضحكة وأَحاديثه الغريبة عن الفن. ولاحقًا، حين بات رُنيه رجلًا محترمًا في المجتمع الفرنسي: مصرفيًّا ناجحًا ورجلَ أَعمال ثَريًّا، تقاعد في بلدته. ولدى سؤَاله، أَنكر أَيَّ علاقة له بموت فان غوخ. كلُّ ما اعترف به أَنه يومها أَعار الرسَّام مسدَّسه الذي غالبًا ما لم يكن صالحًا لإِطلاق رصاصه. إِنما يُضيف بأَن ذاك المسدس في يده صدَف يومها أَن انطلقت منه رصاصة. لكنه قال إِنه كان غادر الضيعة يوم حادثة الرسام، وهو ما ليس منطقيًا لأَن الصيف كان في عز موسمه.

عنصر آخر: شهادةُ سيدةٍ من عائلة مرموقة في تلك الضيعة لم يسائلْها أَحد. لكنها خالفَت سُكوت أَهل القرية وفضحَت أَن فان غوخ لم يكن في حقل القمح وقت الحادث بل كان في الطريق المتعرج المؤدّي في نهايته إلى بيت التلميذَين غاستون ورُنيه.

حَـمَى قاتلَه مستقبلًا مَوْتَه

لاحقًا، حين قام المؤَرخ جون ريوالد بزيارة تلك القرية سنة 1933، وحاور بعض سكانها ممَّن لا يزالون يتذكرون حادثة الرسام، قال له بعضهم إِن الرسام أُصيب خطأً برصاصةِ أَحد الشابَّين، فعاد مسرعًا إِلى النزل ولم يرافقْه الشابان خوف أَن يُتَّهَمَا بمحاولة قتله. وأَصر فان غوخ على حمايتهما بعدَم ذكْر ما حصل له منهما شعورًا منه برغبة الموت، هو الذي، بهبوط معنوياته وازدياد يأْسه، كان أَصلًا يرغب في أَن يموت، لذا حمل جرحه إِلى النزْل كما شاكرًا ذينَك الشابين على فِعْلتهما. وقال وهو يحتضر: “لا تتَّهموا أَحدًا بإِصابتي، أَنا شئتُ أَن أَنتحر”.

مع جميع هذه الاكتشافات، ما زال غامضًا سببُ موت فان غوخ. لكنَّ ما ليس غامضًا ولن يَكون، أَنه من عمق مرضه النفسي والعقلي أَنتج لوحاتٍ هي بيت الأَغلى حاليًّا في تاريخ الفن العالمي.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى