غَيضٌ من فَيضِ يَمَنِيّاتِ علي سالم البيض
صدر أخيرًا كتابٌ جديد للباحث والصحافي اللبناني فيصل جلول عن “دار زمكان” الشابة في بيروت بعنوان “غيض من فيض يمنيات علي سالم البيض”.
مختار أحمد الجوفي*
صدر عن “دار زمكان” الشابة في بيروت قبل أيام كتابُ “غَيضٌ من فَيضِ يمنيّات علي سالم البيض” للباحث والصحافي اللبناني المخضرم فيصل جلول الذي سبق له أن أصدر قبل عشرين عامًا كتابًا حول التاريخ السياسي لليمن المعاصر 1962 و1994 بعنوان “اليمن الثورتان الجمهوريتان الوحدة” وذلك عن دار الجديد في العاصمة اللبنانية. وصدر له العام الماضي عن المعهد الاسكندينافي لحقوق الانسان في جنيف كتاب “مختصر أخبار اليمن في مرويات جارالله عمر”. والمعروف أن جلول هو واحدٌ من عدد محدود من الإعلاميين العرب الذين اهتموا عن كثب بالشؤون اليمنية .
ينطوي كتاب البيض كما تُشيرُ مقدمته التعريفية على “رواية تفصيلية للأدوار التي لعبها علي سالم البيض في التاريخ السياسي المعاصر لليمن بجناحيه الشمالي والجنوبي. فقد احتلَّ موقعًا مركزيًّا في “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل من الاستعمار البريطاني”، وشارك شخصيًّا في إسقاط السلطنات التي أنشأها المستعمر وبلغ عددها 24 سلطنة ومَشيَخة، وساهم مباشرة في إسقاط سلطنة الفضلي في أبين والسلطنتين القعيطية والكثيرية في حضرموت، وقام بعمليات حرب عصابات في عدن ضد الاحتلال واعتمد اسمًا مُستعارًا، وكان يتنكّر بملابس هندية أو باكستانية أو بدوية. وتولى البيض في عهد الاستقلال مناصب رفيعة في بلاده، فكان أولَ وزير للدفاع في اليمن، وقد اتخذ قرارًا بطرد الضباط البريطانيين من سلاح الجو اليمني، وتولّى وزارة الخارجية، وبادر إلى اتخاذ قرارات شجاعة مُنسَجِمة في سياسة بلاده القريبة من السوفيات، فقطع علاقات جنوب اليمن مع ألمانيا الغربية لصالح ألمانيا الشرقية، وتولّى وزارات عديدة أخرى طُبِعتْ بقراراته التي أثارت انتقادات واسعة من خصومه وتاييدًا كبيرًا من مناصريه. ولعب البيض دورًا قياديًا في الحزب الحاكم حتى وصل إلى مرتبة الأمين العام للحزب الإشتراكي بعد مجزرة المكتب السياسي في 13 كانون الثاني (يناير) 1986. وفي الكتاب رواية تفصيلية لكيفية نجاة البيض من المجزرة، وتفاصيل أخرى عن اغتيال رفاقه الكبار علي عنتر وعلي شايع وصالح مصلح وآخرين.
كان البيض طرفًا أساسيًّا في الصراعات التي شهدها جنوب اليمن الاشتراكي بين الأعوام 1967 و1990 تاريخ إعلان الوحدة اليمنية، فقد كان شاهدًا أساسيًّا أو مُشارِكًا فعّالًا في عهود قحطان الشعبي وسالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد، إلّا أنه في العهد الأخير تعرّضَ لنكسةٍ مُدَبَّرة بسبب زواجه ثانية، إذ كانت قوانين جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية تمنع تعدّد الزوجات فتعرّضَ لعقوباتٍ حزبية وأُقصِيَ عن مناصبه الأساسية التي استعادها في وقت لاحق .
راينا أن البيض كان الناجي الأبرز من مجزرة المكتب السياسي، وكان القائد التاريخي الوحيد الناجي من القتل، لذا اجتمع حوله ما تبقّى من قادة الحزب، وتم تعيينه أمينًا عامًا، والمنصب يعادل رئيس الدولة في الجمهوريات الليبرالية.
لم يكن البيض محظوظًا في منصبه الجديد لأنَّ الاتحاد السوفياتي راعي الدولة الاشتراكية الجنوبية قد قرر في نهاية الثمانينات الفائتة وضعَ حدٍّ للتجربة الاشتراكية وبالتالي الخروج من الحرب الباردة، وكان على جنوب اليمن أن يختارَ طريقًا آخر فقرّر الحزب الاشتراكي اليمني تطبيع علاقاته مع دول الجوار والانفتاح على جميع الدول واعتماد إصلاحات سياسية.
ونظرًا إلى الظروف الجديدة الناشئة بات البحث في توحيد اليمن مُرَحَّبًا به من طرف الحليف الروسي، فانطلقت مباحثاتٍ وحدوية بين الشمال والجنوب أدت الى الوحدة اليمنية. معلوم هنا أن طلاب المدارس في جنوب اليمن كانوا يهتفون كل صباح باسم الدولة الاشتراكية والخطة الخمسية والوحدة اليمنية.
نقرأ في كتاب جلول تفاصيل مهمة عن قرارات الوحدة وتنفيذها، وعن علاقات الطرفين الوحدويين، عِلمًا أنَّ البيض كان مُصِرًّا على الوحدة الاندماجية تطبيقا للدستور الوحدوي الذي اتَّفَقَ عليه الطرفان خلال الحرب الباردة .
ونقرأ أيضًا تفاصيل جديدة عن تجربة الاندماج الصعب بين الدولتين والجيشين، وعن محاولات فاشلة لدمج الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام الحزب الحاكم في شمال اليمن .هذا الفشل أشعل حرب العام 1994 التي اعتبرها الشماليون حربًا إنفصالية واعتبرها الجنوبيون حرب السيطرة على الجنوب والتنكّر لمعاهدة الوحدة .
بعد هزيمته في الحرب انتقل البيض الى سلطنة عُمان مع مجموعة من رفاقه المدنيين والعسكريين، وعاش في السلطنة تحت سقفِ قانونٍ يمنع النشاط السياسي، وسيخرج من عُمان مع بدايات “الربيع العربي”.
ونقرأ في الكتاب تفاصيل تجربة جديدة خاضها البيض في بيروت حيث افتتح محطة تلفزيونية لعبت دورًا أساسيًّا في الدعوة إلى العودة إلى صيغة الجمهورية الديموقراطية الجنوبية، وذلك استنادًا إلى تفاهمٍ سابق بين الحوثيين والحراك الجنوبي ينطوي على اعتراف “أنصار الله” بحقِّ تقرير المصير للجنوبيين، لكن موقف الحوثيين اختلف بعد وصولهم الى الحكم في صنعاء ما حدا بانصارهم في بيروت إلى عدم تاييد الحراك الجنوبي، وبالتالي اضطرار البيض للخروج من لبنان والإنتقال الى الإمارات العربية المتحدة، وما زال مُقيمًا فيها حتى اليوم .
لم يُغيِّر البيض قناعته بعودة الدولة الجنوبية الى سابق عهدها، وقد انخرط أحد أبنائه في المجلس الانتقالي الجنوبي لهذه الغاية.
في الخلاصة العامة نقرأ في كتاب “غيض من فيض يمنيات علي سالم البيض” جوانب من التاريخ اليمني المعاصر من خلال مواقف وسياسات أحد القادة البارزين في الحقبة الواقعة بين العام 1967 وحتى الوقت الراهن، مع التذكير بحديثٍ مُفَصَّل عن نشأة البيض ومعتقداته.
يقع الكتاب في 120 صفحة من القطع المتوسط، ويمكن العثور عليه في مكتبات بيروت وفي معرض بيروت الدولي للكتاب الذي سيُقام في كانون الأول (ديسمبر) المقبل والمعارض العربية .
- مختار أحمد الجوفي هو صحافي يمني مُقيم في القاهرة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.