واشنطن-الرياض: سؤالُ التاسعِ من نوفمبر
محمد قواص*
أمام الإدارة الديموقراطية في الولايات المتحدة إستحقاقٌ انتخابي تقليدي في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. سيتم انتخاب أعضاء مجلس النواب (435 عضوًا)، و34 عضوًا من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ، وأكثر من ثلث حكام الولايات (36 من أصل 50 حاكمًا).
من شأن الانتخابات النصفية أن تُغَيِّرَ التوازنات داخل مجلس الشيوخ ومجلس النواب لصالح الخصوم الجمهوريين في حال أتت رياح الانتخابات مُغايرة لمزاج ساكن البيت الأبيض. لكن الأمر لا يطال فقط السلطة التشريعية، بل قد يُحدّد العلامات الأولى للهوية السياسية المحتملة للرئيس الأميركي المقبل.
يجزم الرئيس الديموقراطي جو بايدن أنه قادرٌ على إلحاق الهزيمة بالمرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية في العام 2024 حتى لو كان دونالد ترامب هو المرشح العتيد. على هذا فإن انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) هي استطلاع رأي أميركي أوّلي بالحزب الديموقراطي ومرشحه، المُفترَض حتى الآن، لإعادة حجز المقعد في البيت الأبيض.
وفيما ينشغل العالم أجمع بمستقبل الحرب في أوكرانيا وخطر تصاعدها لتصبح أوروبية عالمية أو نووية، فإن سياسات بايدن وفريقه في هذا المضمار لا تتداعى مباشرة على مزاج الناخبين ولن تقف وراء حوافزهم للتصويت لصالح الحزب الموالي أو الحزب المعارض. وما يهم المقترع هذه الأيام، كما في جلّ الاستحقاقات الانتخابية، هو العامل الاقتصادي المعيشي البحت المتعلّق هذه الأيام بالقيمة الشرائية ومستويات التضخم وبسعر الغالون في محطات الوقود.
على خلفية الواقع يعمل الرئيس الأميركي وفق قواعد وشروط وضغوط انتخابية لتمرير استحقاق تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وفي أي حملة انتخابية يجوز اللجوء إلى أقصى درجات الشعبوية لتظهير الانجازات، ولو كانت مغلوطة، وتحميل وزر “المصائب” للآخرين أو لأدوات خارجية، لا بأس أن توصف بالمعادية أو غير الصديقة ويُشهر ضدها سلاح “العواقب”.
وإذا ما تعترف منابر أميركية (السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام مثلًا) بأن سياسات الإدارة الديموقراطية (المُعرقلة لإنتاج الطاقة الإحفورية في الولايات المتحدة اتساقًا مع إيديولوجيات يسارية بيئوية) هي التي تقف وراء محدودية العرض وارتفاع الأسعار، فإنه يَسهلُ على الفريق الديموقراطي الحاكم أن يستورد العلّة من الخارج وينفخها سببًا وحيدًا لأزمة الأسعار في محطات الوقود.
هنا فقط تكمن ديناميات الحملة ضد السعودية، والسعودية فقط من ضمن الدول الـ 23 لمنظمة “أوبك+” التي قرر أعضاؤها، مجتمعين، في 5 تشرين الأول (أكتوبر) خفض معدلات انتاج النفط مليوني برميل يوميًا ابتداءً من أول تشرين الثاني (نوفمبر).
تَوَتُّرُ علاقات واشنطن والرياض ليس وليد لحظة “أوبك+” الجديدة، بل هو نتاجُ خطابٍ بدأه بايدن منذ أن كان مرشَّحًا للرئاسة في بلاده. نهل الرجل الحجج تلوَ الحجج لإرضاء الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي بزعامة السيناتور بيرني ساندرز واستمر في ذلك الخطاب حتى حين حمله اليساريون رئيسًا إلى البيت الأبيض. وعلى الرغم من الانقلاب المفاجئ في مواقف بايدن لصالح الودّ والتذكير بالعلاقات التاريخية بين البلدين بمواكبة زيارته للسعودية في تموز (يوليو) الماضي، إلا أن التحوّل لم يكن حقيقيًّا ولم يُقنِع الرياض ولا الزعماء العرب الذين حضروا قمّة جدة.
يعود بايدن لإعادة انتاج خطابه القديم ضد السعودية. وإذا ما كان لسان حال واشنطن يزعم أن الأسعار “الخيالية” للغاز الأميركي، وفق وزير الاقتصار الألماني روبرت هابيك، والتي تصل إلى 4 أضعاف ما يباع للزبائن الأميركيين، وفق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ترجع لاعتبارات اقتصادية بحتة تفرضها قواعد السوق وشروط العرض والطلب، فإن الإدارة الديموقراطية غير مهتمة بالسياق الاقتصادي البحت الذي أملى قرار “أوبك+ ” لاتخاذ قرارٍ رفعَ سعر النفط بنسبٍ طفيفة لا تُقارَن بـ “خيالية” الأسعار التي تفرضها شركات الغاز المُسَيَّل الأميركية على المستهلك في أوروبا.
وأن يخرج بايدن شاكيًا واعدًا السعودية بـ”العواقب” مدعومًا بأصواتٍ ديموقراطية من داخل الكونغرس ترتجل لبوس الصقورية والشدّة، فتلك مناورات انتخابية بدائية متقادمة لا تُقنِعُ العالم لكنها أيضًا لا تُقنِع الكتلة الأميركية الناخبة. ثم إن تسريبات صحف أميركية عن خلافاتٍ بين دول “أوبك+” داخل الاجتماع الذي قرر ما تقرر، تلفيقٌ ركيك لدقِّ إسفينٍ في وحدة الدول الـ23.
لقرار “أوبك+” تداعيات منطقية على سوق الطاقة في العالم أجمع. وعلى الرغم من أن القرار لم يُحدِث ارتفاعًا صادمًا في الأسواق، فإن احتمالًا من هذا النوع إذا حصل يطالُ المستهلكين في كل دول العالم، لا سيما لدى دول المنظومة الغربية المتحالفة مع الولايات المتحدة. ولئن لم يصدر أي توتر في مواقف كل هذه الدول، فإن الغضب الأميركي انفعالي مُفتَعَل لدواعٍ انتخابية صرفة ستزول بعد إقفال صناديق الاقتراع مساء اليوم الانتخابي.
مَن يُراقبُ ما صدرَ عن وزارة الخارجية السعودية وعن وزير الخارجية، الأمير فيصل بن فرحان، ووزير الدولة للشؤون الخارجية، عادل الجبير، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، نايف الحجرف، يستنتج رصانةً وحصافةً ورويّةً وخطابًا رافضًا للهجة واشنطن وينحصر بالمحددات الاقتصادية لقرار “أوبك+” والحرص على علاقات تاريخية استراتيجية مستقرة مع الولايات المتحدة، وتأكيد الحياد والموضوعية في مسألة النزاع الأوكراني (صوّتت السعودية وبقية الدول الخليجية لمصلحة القرار الأممي المُندّد بضم روسيا أخيرًا لمناطق أوكرانية).
الرئيس بايدن، وفي عزّ أزمة بلاده مع روسيا والصين وظهور تجمّعات إقليمية تتمايز عن أجندة واشنطن منذ سنوات، يعرف أن العالم قد تغيّر، وأنه لم يعد فاعلًا ولا لائقًا تهديد الحلفاء بـ”العواقب”، ليس فقط لدواعٍ بيتية بإقراره أن أمرًا كهذا يجري بالتوافق مع الكونغرس، بل لأن موقع الولايات المتحدة في العالم لم يعد يتيح لها هذه الأريحية المطلقة في قيادة شؤون العالم.
لن يُغيّرَ موقف بايدن من سعر الوقود في محطات ناخبيه. في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) بعد يوم واحد على إجراء الانتخابات سيخرج من النخب والناخبين مَن يسأل رئيس البلاد عن سياسة إدارته التي تمتهن تصعيد الصدام ضد الخصوم وتتمتّع بتحويل الحلفاء (ألمانيا، فرنسا، أوروبا، السعودية والخليج..) إلى خصومٍ جدد.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)