الزلازل في هولندا تُضيفُ مشكلةً إلى أزمة الطاقة في أوروبا

قبل بضع سنوات، بدأ التنقيب عن الغاز في هولندا بإحداث الزلازل. أصبحت الهزّات أكثر حدّة وأكثر تدميرًا، مما وضع السكان في مسارٍ تصادمي مع صناعة النفط القوية والحكومة.

رئيس الوزراء مارك روتي: تعهّد بأنه لن يعيد إنتاج الغاز إلّا في حالة قصوى.

سمير الحلو*

في الشهر الفائت، بينما كانت الدول الأوروبية تستعدُّ لانخفاضٍ حاد في إمدادات الغاز الطبيعي وأزمة طاقة وشيكة قبل أول شتاء كامل منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، أصدرت هولندا إعلانًا مثيرًا للاهتمام: ستُخفّض الإنتاج في واحدٍ من أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم، واحدٌ يمكنه أن يحل محل الكثير من الغاز الذي تستورده أوروبا من روسيا.

لم يكن القرار مفاجئًا، لكنه كان تذكيرًا مؤلمًا بالخيارات الصعبة والمشحونة سياسيًا التي تتخذها الدول الأوروبية أثناء محاولتها التخلص من الغاز الروسي والاستعداد ليس فقط لارتفاع أسعار وقود التدفئة بشكل حاد، ولكن أيضًا لنقصٍ يُحتَمَل أن يكون خطيرًا.

الواقع أن لأزمة الطاقة تداعياتٍ مُتعدّدة، من جعل الحياة اليومية أكثر تكلفة للأُسر التي تُعاني موازناتها أصلًا، إلى احتمالِ تهديد النشاط الاقتصادي الحيوي لبلدان الإتحاد الأوروبي، وربما دفع الاقتصادات الأوروبية إلى ركودٍ عميق.

كل هذا يُضيفُ إلى الاضطراب السياسي والاقتصادي الذي يَخلُقُ توتّرات بين المصالح المتنافسة ويؤدّي إلى إعادةِ تقييمٍ مؤلمة للأولويات في جميع أنحاء القارة.

في هولندا، يكمن مركز المعضلة في مقاطعة خرونينغن الشمالية، والتي زوّدت الهولنديين وبعض جيرانهم الأوروبيين بالغاز الرخيص والوفير لأكثر من نصف قرن – حتى بدأ السكان يلاحظون أن كل شيء لم يكن على ما يرام.

قبل بضع سنوات، بدأ التنقيب عن الغاز بإحداثِ الزلازل. أصبحت الهزّات أكثر حدّة وأكثر تدميرًا، مما وضع السكان في مسارٍ تصادمي مع صناعة النفط القوية والحكومة، التي كانت عائداتها المتأتية من الغاز تملأ خزائنها.

بدأت الحكومة في تعويض السكان عن خسائرهم – غير الكافية، كما قالوا – ووافقت في النهاية على تقليص الإنتاج والتركيز على مصادر أخرى للوقود، لا سيما مصادر الطاقة المتجددة.

كان هذا كله قبل أن تُطلقُ الحرب في أوكرانيا العنان للاندفاع لإيجاد مصادر للطاقة لا تأتي من روسيا، التي كانت حتى ذلك الحين المزود الرئيس لأكبر اقتصاد في أوروبا، ألمانيا، بالإضافة إلى أعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي.

إذا كان هناك ضغطٌ لعكس القرار، فلن يكون سكان غرونينجن راضين. لقد تم هدم حوالي 3,300 مبنى متضرر بشكل كبير بعد أكثر من 1,000 زلزال. حسب بعض الإحصاءات، تعرّض عشرات الآلاف من االمباني الأخرى للضرر ولكنها ما زالت صامدة، ويعاني الكثير منها من تشققات عميقة وتتمايل بشكل خطير.

وعدت الحكومة بإغلاق صناعة الغاز المحلية وأصرّت على أنها ستفي بوعدها، حتى مع تضاعف أسعار الغاز أربع مرات، بعدما تم قطع خطّي أنابيب روسيين رئيسيين إلى ألمانيا – نورد ستريم ونورد ستريم 2 – ومن ثم تخريبهما على ما يبدو.

في 26 أيلول (سبتمبر)، أعلنت الحكومة الهولندية أنه بدءًا من 1 تشرين الأول (أكتوبر)، ستُخفّض إنتاج الغاز في خرونينغن إلى مستوى “خفيف تجريبي”، وهو الحد الأدنى للحفاظ على الحقول والبنية التحتية قيد التشغيل في حالة الطوارئ. ومن شأن ذلك أن يرفع الإنتاج إلى 2.8 ملياري متر مكعب في السنة المالية 2022-2023، انخفاضًا من أكثر من 20 مليار متر مكعب قبل أربع سنوات وذروة تاريخية بلغت 40 مليار متر مكعب سنويًا.

صرح وزير التعدين الهولندي هانز فيلبريف للبرلمان أنه إذا سمح الوضع الجيوسياسي بذلك، فإن الحكومة ستوقف الإنتاج تمامًا في أواخر العام المقبل. وسمح بأنه إذا أصبحت أزمة الطاقة حرجة للغاية بحيث لا يمكن ضمان سلامة المدارس والمستشفيات بسبب نقص الغاز، فقد يكون هناك تغييرٌ في الخطط. وقد أصرّ رئيس الوزراء مارك روتي، وهو يزن التداعيات السياسية، على أن عكس المسار لن يحدث إلّا في ظل السيناريو الأسوَإِ المطلق. وتعهّد بأنه سيكون “آخر شيء نقوم به”.

تراقب بقية أوروبا بقلق. ناشد المفوض الأوروبي تييري بريتون هولندا لإعادة النظر في قرارها. بعد كل شيء، يمكن أن تنتج خرونينغن ما يكفي من الغاز لتحل محل جميع واردات ألمانيا الروسية. وبدلًا من ذلك، اقترحت هولندا أن تحافظ ألمانيا على تشغيل محطاتها النووية، وهو أمرٌ تحاول برلين مبدئيًا القيام به، على الرغم من تسرّبٍ إشعاعي تم العثور عليه قبل أيام قليلة في محطة “برانسبوتل”  (Brunsbuettel) في شمال ألمانيا.

الحقيقة هي أن جميع البدائل في هذا الجهد المتسارع للتخلي عن الغاز الطبيعي مقلقة.

السياسة الرسمية للحكومة الهولندية تجعل الأمر يبدو بسيطًا. تدعو خطتها المُكَوَّنة من ثلاث نقاط لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي إلى تخزين الاحتياطات وتقليل الاستهلاك والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة.

الواقع هو أكثر تعقيدًا.

قبل ثلاثة أشهر، قامت الحكومة بتنشيط خطتها الخاصة بأزمة الطاقة، حيث رفعت القيود المفروضة على محطات الطاقة فائقة التلوث التي تعمل بالفحم. تم تحديد الإنتاج بنسبة 35 في المئة من القدرة في محاولة للحد من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. وقد تنازلت الحكومة الآن عن هذه القيود كجُزءٍ من مرحلة “الإنذار المبكر” من الخطة. تشمل المراحل الأخرى المعروفة باسم مرحلتَي “الإنذار” و “الطوارئ” تقنين الطاقة وغيرها من التدابير.

كما بدأت الدولة التخطيط لبناء المزيد من محطات الطاقة النووية.

تتخذ الأُسَر الفردية أيضًا خطوات خاصة بها، والتي لا تتوافق في الغالب مع خطط مكافحة تغير المناخ، وهي أولوية ينظر إليها البعض الآن على أنها ثانوية بالنسبة إلى حالة الطوارئ التي تلوح في الأفق. وقد ارتفعت مبيعات الفحم والخشب وكريات مواقد التدفئة بشكل كبير وسط ارتفاعٍ حاد في أسعار الغاز وتوقّعات بفصلٍ شتاءٍ قاسٍ.

كما هو الحال في بلدان أخرى، تقوم الحكومة الهولندية بصياغة خطط لمواجهة التأثير الاقتصادي لفواتير التدفئة الشتوية. وضعت الحكومة سقوفًا لمعدلات الطاقة للأسر وأعلنت أن المنازل ستكون مؤهّلة للحصول على تعويضٍ للمساعدة على تحمل تكاليف المرافق. ليس من الواضح حتى الآن ما هو الدعم الذي ستقدمه الخطة، التي لا تزال قيد المناقشة، للشركات. على أية حال، فإن الحدود القصوى للأسعار والإعانات، التي ستكلف الدولة عشرات المليارات من اليورو، ستخفف الألم، لكن لن تُلغيه.

بالنسبة إلى بقية أوروبا، فإن قرار هولندا بخفض إنتاج الغاز لا يرقى إلى مستوى الغضب.

مثل كل دولة في الاتحاد الأوروبي، يتصارع الهولنديون مع أولويات متنافسة. لا تتحمل كل حكومة عبء تقرير ما إذا كانت ستعوق إنتاج الغاز الطبيعي من أجل الوفاء بوعدها لجزء من الناخبين، ولكن جميعها تقريبًا تُوازن الأولويات التي تضع الأهداف المناخية مقابل أزمة طاقة تلوح في الأفق. في الوقت الحالي، أصبحت البيئة ضحية أخرى للحرب في أوكرانيا.

في الوقت الحالي، يحاول شركاء هولندا الأوروبيون أن يظلوا مهذبين، بينما ينتظرون لمعرفة ما إذا كانت أشهر الشتاء تفرض انعكاسًا في قرار خفض إنتاج الغاز الطبيعي في غرونينجن. إذا لم يكن الأمر كذلك، فقد تجد الحكومة الهولندية نفسها مضطرة إلى تدعيم التصدعات الناشئة في وحدة الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تلك الموجودة في منازل خرونينغن.

  • سمير الحلو هو صحافي من أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى