بَعدَ عامَين على اندلاعِ حَربِ السودان… لا بَوادِرَ على نهايتها

على الرُغم من استعادة القوّات المسلّحة السودانية السيطرة على الخرطوم، لا تزال الحرب مُستعرة، مّا يعمّق الانقسامات العرقية، ويعزّز نفوذ المجموعات المسلّحة، ويُقوّض دعائم المجتمع المدني

وحدهم المدنيون يدفعون الثمن.

لينا بدري*

مع دخول الحرب الأهلية الوحشية في السودان عامها الثالث، أثارت التطوّرات السياسية والعسكرية الأخيرة تكهّنات عن اقتراب نقطة تحوّل. لكن نظرة أكثر دقّة تكشفُ واقعًا أشدّ قتامة: لا تلوح في الأفق نهاية قريبة للصراع، لا عبر تسوية سياسية ولا من خلال نصرٍ عسكري. والأسوأ من ذلك أنّ التحوّلات الأخيرة حجبت سلسلةً من الوقائع المدمّرة التي جرى التطبيع معها، والتي تهدّد نسيج الدولة السودانية، من تفشّي التمييز العرقي وانهيار الفضاء المدني وصعود نفوذ المجموعات المسلّحة وزعمائها.

في الوقت نفسه، ساهَمَ الوضعُ المُتأزّم على الحدود الجنوبية مع جنوب السودان والنهج الدولي غير المُنَسَّق لإنهاء الحرب، فضلًا عن المصالح الجيوسياسية العميقة للفاعلين الخارجيين داخل البلاد، في زيادة تعقيد الصراع.

تُشكّل الحرب في السودان صراعًا على الشرعية بقدر ما هي معركة عسكرية. وفي هذا السياق، بات الطرفان المُتحاربان، أي القوّات المسلّحة السودانية وقوّات الدعم السريع، يُتقنان صياغة سردياتهما عن الدولة وترويجها، والسعي إلى بناء تحالفات تُعزّزُ مواقعهما، وتقديم نفسيهما كجهاتٍ فاعلة ذات قيمة أمام مَن يمكن أن يمدّهما بالسلاح والدعم.

الوضع الراهن

اندلعت الحرب في نيسان (أبريل) 2023 كمظهرٍ لصراعٍ على السلطة كان يختمر بين القوّات المسلّحة السودانية وقوّات الدعم السريع، في ظلّ اتفاق هشّ لتقاسم السلطة بعد انقلاب تشرين الأول (أكتوبر) 2021، حين اعتقلت القوّات المسلّحة السودانية أعضاءً مدنيين في المجلس الانتقالي الذي تأسّس بعد ثورة 2019. في المراحل الأولى من الحرب، تمكّنت قوّات الدعم السريع من بسط سيطرتها على أجزاء واسعة من غرب السودان ووسطه وشماله، بما في ذلك مناطق إستراتيجية من العاصمة الخرطوم.

لكن تغيّر هذا الوضع في أواخر آذار (مارس) 2025، عندما نجحت القوّات المسلّحة السودانية، بعد أشهر من تنفيذ إستراتيجية هجومية مدعومة بتحالفات مع مجموعات مسلّحة، في استعادة مواقع حيوية في الخرطوم، من بينها القصر الجمهوري والمطار الدولي، مُعلنةً تحرير العاصمة من قبضة قوّات الدعم السريع. شكّل هذا التطوّر تحوّلًا كبيرًا في مجريات الحرب بعد فترة طويلة من الجمود والاستنزاف العسكري. ومنذ ذلك الحين، تعهّد قادة الطرفين بمواصلة القتال حتّى القضاء على الآخر.

بطبيعة الحال، تظلّ الخرطوم رمزًا ذا دلالة كبيرة، وتعكس السيطرة عليها، على الأقل ظاهريًا، مَن يملك اليد العليا. ومع ذلك، لا تزال قوّات الدعم السريع تسيطرُ على مساحاتٍ شاسعة في إقليمي دارفور وكردفان في غرب البلاد، حيث تتواصل أعمال العنف بلا هوادة. وتشهد هذه المناطق مذابح جماعية واستهدافًا عرقيًا وانتهاكات جنسية ترتكبها قوّات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها. أمّا مدينة الفاشر الخاضعة لسيطرة القوّات المسلّحة السودانية، فهي تحت حصار خانق، يرزح السودانيون بسببه تحت وطأة الجوع والقصف المدفعي وهجمات الطائرات المسيّرة.

تعتمد عمليات القوّات المسلّحة السودانية في غرب السودان، إلى حدّ كبير، على الغارات الجوّية، ما ألحق دمارًا واسعًا بالبنية التحتية، وشرّد عشرات الآلاف، وأوقع عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى. وفي المقابل، تسعى قوّات الدعم السريع، بعد انسحابها من الخرطوم، إلى تعزيز مواقعها في الغرب. ولا يبدو أنّ القوّات المسلّحة السودانية بصدد تغيير تكتيكاتها أو اللجوء إلى شنّ هجوم برّي، ما يعني أنّ الخسائر البشرية والعنف مرشّحان للتصاعد. ويُعقّدُ هذا الواقع الجديد التحالفات القائمة، ويُعزّز الطابع العرقي للصراع، ويكرّس الانقسام الفعلي بين الشرق والغرب، بما ينذر بمخاطر تطبيع الخطاب حول التقسيم الجغرافي أو تغذيته.

وفي عضون ذلك، أضفت التوتّرات المتفاقمة في جنوب السودان بُعدًا إقليميًا أشدّ خطورة على الصراع. ففي آذار (مارس) الماضي، ظهرت ادّعاءات بأنّ قوّات الدعم السريع تعمّدت تعطيل خطّ أنابيبٍ رئيسي ينقل نفط جنوب السودان عبر الأراضي السودانية، ما أدّى إلى شللٍ اقتصادي في جوبا. واضطرّ الرئيس “سالفا كير” إلى التواصل مع قوّات الدعم السريع، في خطوةٍ أثارت غضب سلطات بورتسودان، لكنها وفّرت في الوقت نفسه فرصة لقوّات الدعم السريع للحصول على موطئ قدم في جنوب السودان. ومن المرجّح أن تستغلّ الأخيرة هذا التقارب لتوسيع طرق التهريب وشنّ عمليات في وسط السودان وشماله. وفي المقابل، من المتوقّع أن تدعم القوّات المسلّحة السودانية خصوم كير في الداخل، الأمر الذي يُنذِرُ بتطوّر ديناميةٍ خطيرة لحربٍ بالوكالة. وقد تتشابك الحربان قريبًا على نحوٍ يصعبُ التكهّن بعواقبه.

تمزيق النسيج

ترافقت هذه الديناميات العسكرية مع رؤى سياسية أحادية الجانب أعلنها الطرفان أخيرًا. ففي أوائل العام 2025، أعلن قائد القوّات المسلّحة السودانية الجنرال عبد الفتّاح البرهان عن خطّة انتقالية يقودها الجيش مدتها 39 شهرًا، تنتهي بإجراء انتخابات. وهي خطوة تُعَدُّ بمثابة إعلان غير مباشر عن قيام حكومة عسكرية. كما كلّف بعض الشخصيات القضائية بالإشراف على هذا الانتقال، الذي يتضمّن هدفًا معلنًا يتمثّل في “تطهير السودان من المتمرّدين”. وفي المقابل، كشفت قوّات الدعم السريع وحلفاؤها، بمن فيهم بعض المدنيين، عن ميثاق حكومة السلام الانتقالية في نيروبي في شباط (فبراير) 2024، يتضمّن وعودًا بحكم علماني وميثاق للحقوق وحكم ذاتي للأقاليم وجيش وطني موحّد.

ومن العواقب التي لم تحظَ بتغطيةٍ كافية في الصراع، هو انتشار المجموعات المسلّحة. تحظى القوّات المسلّحة بدعم ميليشيات بارزة، مثل لواء البراء بن مالك وقوّات درع السودان في الشرق، التي كانت سابقًا متحالفة مع قوّات الدعم السريع. في المقابل، نجحت قوّات الدعم السريع في تأمين دعم فصائل مثل حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، وقد أيّد قادتها ميثاق نيروبي. والسودان ليس غريبًا عن الفاعلين المسلّحين الذين يستخدمون العنف للحصول على تنازلات من المركز، لكن نفوذهم المتزايد ودورهم في العمليات العسكرية الأساسية يعني أنّهم سيطالبون حتمًا بحصصٍ في الحكم بعد الحرب. ومن دون وجود خططٍ واضحة لإصلاح قطاع الأمن ونزع السلاح وإعادة دمج هذه المجموعات في الجيش الوطني، يخاطر السودان باستبدال مجموعةٍ من الميليشيات بأخرى، ما ينذر باستمرار الديناميات نفسها التي أوجدت قوّات الدعم السريع في المقام الأول.

وفي ظل الحرب، يتعرّض الفضاء المدني لحصارٍ مستمرّ. فقد أفادت الشبكات المدنية، لا سيما غرف الطوارئ، وهي مبادرة مجتمعية لتقديم المساعدات الإنسانية، والنقابات المهنية، بتعرّضها لاستهدافٍ مُمنهج من القوّات المسلّحة السودانية وقوّات الدعم السريع على حدٍّ سواء. وأعربت نقابة أطباء السودان عن قلقها بشأن احتجاز طواقمها الطبّية في المناطق التي استعادت القوّات المسلّحة السيطرة عليها في ولاية الجزيرة. ووقعت حوادث مشابهة في المناطق التي تسيطر عليها قوّات الدعم السريع.

تزايدت وتيرة الاستهداف العرقي والإعدامات الميدانية، التي باتت تُنفّذها حتى ميليشيات غير معروفة أو قوّات متحالفة. وفي حربٍ تتغيّر فيها السيطرة على الأرض باستمرار، أصبحت تُهَمُ الخيانة فضفاضة بشكلٍ خطير، وخاضعة لأهواء الطرف المُسَيطِر. ويُثيرُ هذا الأمرُ تساؤلاتٍ جوهرية. ففي حربٍ اضطرَّ فيها كثيرون إلى التعاون مع أحد أطراف الصراع من أجلِ ضمان سلامتهم أو تقديم المساعدة، أو القيام بالأعمال الإنسانية، أو تأمين احتياجاتهم الأساسية، كيف يمكن تحديد الخيانة؟ يرسّخ غياب المحاكمات العادلة سابقة خطيرة بالإفلات من العقاب لجميع مَن يملك السلاح لتنفيذ مثل هذه الانتهاكات.

فضلًا عن ذلك، وفي ظل هذا القمع الواسع، تُصبحُ الأسئلة أساسية عن شكل الفضاء المدني الذي سيبقى بعد الحرب، وما يعنيه ذلك لمستقبلٍ سياسي ديموقراطي. كما إنَّ تقليصَ المساعدات الإنسانية من قبل الكثير من الجهات الدولية المانحة يعني أنّ الكثير من هذه المجموعات المدنية التي وقفت في الخطوط الأمامية لتقديم المساعدة المنقذة للحياة قد تُصبحُ غير قادرة على الاستمرار. على سبيل المثال، بعد تجميد إدارة دونالد ترامب مساعدات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، تراجع عدد المطابخ المجتمعية العاملة في السودان من 1,460 إلى 324 فقط.

فَشَلٌ في تقديمِ العون

على الرُغم من المحاولات الدولية المتكرّرة للوساطة، لا يزال السلامُ بَعيدَ المنال. وتتركّز الجهود المنسّقة الأخيرة على الاستجابة للأزمة الإنسانية، كما يتجلّى في المؤتمر الرفيع المستوى للمانحين، الذي تستضيفه بريطانيا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا، والمقرّر عقده في 15 نيسان (أبريل) الجاري (اليوم) في لندن. أمّا العقوبات الغربية، التي فُرضت على شركات وأفراد مرتبطين بالطرفين، فقد كان تأثيرها محدودًا.

بدأ الطرفان المتحاربان بالفعل في توجيه أنظارهما نحو الخليج ومنطقة الشرق الأوسط الأوسع، حيث يواصل الداعمون الرئيسيون تقديم الدعم السياسي والمادي، وغالبًا بموافقة ضمنية من حلفائهم الغربيين. وفي ظل غياب تحرّك جاد لاستهداف الشبكات المالية غير المشروعة ومسارات تهريب السلاح التي تُغذّي آلة الحرب، فإنّ أيَّ عقوبات تُفرَض ستظلّ رمزية في أفضل الأحوال، وستستمر ويلات الحرب في الانتشار.

مع تزايد الدعوات لإنهاء الحرب بسبب الإنهاك والصدمات النفسية التي يُعانيها المدنيون الذين لا يزالون يتحمّلون العبء الأكبر من الصراع، يظلّ الطرفان المتحاربان متمسّكَين حتّى الآن بأمل تحقيق نصر عسكري. وفي هذا السياق، أُهمِلت معالجة الأسباب الجذرية لهذه الحرب من طريق إصلاح القطاع الأمني وتنويع الاقتصاد والمشاركة السياسية المدنية الشاملة، حتى أنَّ بعضهم اعتبرها أنّها غير واقعية لمستقبل السودان. أتت الحرب على ولايات السودان الثماني عشرة بلا استثناء، ولا يوجد حتى الآن ما يدلّ بشكلٍ قاطع على اقتراب نهايتها. لكن الحرب، عاجلًا أم آجلًا، ستضع أوزارها، وعندها سيُطرح سؤال مصيريّ: في بلدٍ خُنِقَ فيه الفضاء المدني، وتعاظم فيه نفوذ المجموعات المسلّحة وانهارت بنيته التحتية وتفكّك أواصر مجتمعه، كيف سيكون شكل الدولة التي ستنهض من بين أنقاض الحرب؟

  • لينا بدري هي زميلة في مؤسسة “مو إبراهيم” ضمن برنامج الأمن الدولي في مركز الأبحاث البريطاني تشاثام هاوس في لندن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى