كرامةُ لبنان بين فُؤَادَين: “تموز” و”أَبو الحن”

هنري زغيب*

لا أَتخيَّل أَيًّا منهما إِلَّا كتلةَ أَعصابٍ مضمومةً على قلَم عصبي، متوتر، متوهج، متحفِّز للوثوب دفاعًا عن الكرامة، كرامة لبنان الوطن، كرامة شعب لبنان، خصُوصًا حين دولتُه عقيمة رخوةٌ ساقطة تُقصِّر عن أَداء.

فؤَادان بصورة قَلَمَين ينبضان بحُبّ لبنان، يذوبان كي يظلَّ نورُه ساطعَ الصوت من الصباح إِلى الصباح.

فؤَاد سليمان (1912-1951) وفؤَاد حدَّاد (1915-1958).

الأَول انقصف في ربيعه التاسع والثلاثين، والآخر اغتيل في ربيعه الثالث والأَربعين. الأَول حمل غضَب “تموز” وانهال على كلّ فساد، والآخر حمَّله “أَبو الحن” نقدات لا تَرحم الفساد. الأَول اعتلى منبر “النهار” فاهتزَّ به المنبر، والآخر اتخذ “العمل” رسالةً للعمل من أَجل لبنان.

كيف أَجلو كلماتهما، ولا أَشعر أَنهما في الأَدب اللبناني عَلَمان من نار وكرامة!

النار؟ طبعًا كي يُحرقا بها هشيمَ التلكُّؤ عن واجب. والكرامة كي يرفعاها في وجه أَيِّ تقصير من الدولة، أَو أَيِّ ميل إِلى حرف لبنان عن هُويته الأُم الواحدة الوحيدة: اللبنانية وما سوى اللبنانية، ولا نعتَ له إِلَّا بها.

نُصغي إِلى نار فؤَاد سليمان: “إِذا كان صندوق الدولة فارغًا من المال فماذا يوجد إِذَن في هذه الدولة؟ وإِذا كانت الدولة لا تنوي أَن تقوم بأَيِّ عمل يكلِّف مالًا فماذا تريد هذه الدولة أَن تَفعل إِذَن؟ ولماذا ليس عندكم مال؟ أَين هو المال إِذَن؟ وأَين طار المال؟ كلَّما طالبناكم أَجبْتُم: “ما فيه مال. مفلّسين”؟ ولماذا لا تفلّسون وتَفرغ صناديقكم إِلَّا في ما يجعل اللبناني إِنسانًا؟ أَيُّ فلَّاح في الجمهورية اللبنانية يُصدِّق أَن لا مال عندكم وهو يرى مظاهر البذخ والإِسراف والترف والجخ؟ عيبٌ على كرامة الإِنسان اللبناني أَن يرتفع صوتُه إِلى المسؤُولين مطالبًا بالماء والكهرباء والطريق. إِن لبنان معتم عاطل عن العمل، كمقبرة تحرُسُها الأَشباح والوحشة”.

نُصغي إِلى نار فؤَاد حداد: “كرامةُ اللبناني أَوَّلًا. لبنانُ مساحة روحية. ولا قيمةَ لاستقلال أَيِّ وطن من دون أَن يكون فيه شعبٌ حر… شعبٌ يريد أَن يعيش حرًّا في بيئته، وأَن تكون له دولة مستقلة تعمل لأَجله كي يعيش فيكفي نفسَه دون أَن يأْخذ منه الغَير حريته أَو مقوِّمات فعلية تتيح له أَن يمارس حريته. القضية اللبنانية تفرض معالجة يومية في دولة حرة من أَيِّ التزام خارجي. فلا عبرةَ ولا قيمةَ لاستقلال دولة يكون شعبُها مستعبَدًا من دولة خارجية أَيًّا تكُن قوَّتُها ومهما امتدَّت سلطتها. هكذا نحن وهكذا تاريخُنا الذي ليس في الكتُب بل في كرامة الإِنسان اللبناني”.

هي زاوية صباحية كانت تطلع يوميًّا على اللبنانيين، كانوا يتلقَفونها صوتَهم وصرختَهم وضميرَهم فيَهنأُون بكلماتها… أَيُّ صدًى للكلمة إِن لم تكُن ذاتَ صوت؟ أَيُّ صوتٍ للأَدب إِن لم يكن ذا رسالة؟ والأَدب اللبناني يَغْنى بالكلمة الطالعة من أَتون الغضب. نقطةُ الماءِ المنهالةُ تَتَاليًا على نقطة في صخر، تَحفر في هذا الصخر أُخدودًا عميقًا. فلا نَستهينَنَّ بماء الكلمة في هدم أَعتى العروش، كما نقطةُ ماءٍ من نار يُطْلقها “تموز” أَو “أَبو الحن”.

فؤَادان في روح واحدة، فؤَادان في نبْض واحد، فؤَادان في قلَم واحد.

على صوتهما الهادر فَلْيَحْيَ لبنان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى