“العادِلون” انتقامُ الثوّارِ باغتيالِ الزَعيمِ الطاغية

الاستعداد لعملية الاغتيال

هنري زغيب*

بين قراءتي مسرحيةَ “العادلون” لأَلْبِر كامو ومُشاهدَتي نسختَها اللبنانية هذا الأُسبوع (مسرح مونو – بيروت)، نَشَب الإِيقاع الراهن للمزاج اللبناني بعد الخروج من حجْر الثلاث السنوات الأَخيرة.

لا للفارق الزمني بين كتابة المسرحية (1947 وصدور عرضها الأَول في 15 كانون الأَول/ديسمبر 1949 على مسرح “هيبيرتو” (Hébertot) پاريس، بإِخراج پول أُوتليŒttly ) وعرضها الأَول في بيروت بتوقيع كارولين حاتم اقتباسًا وإِخراجًا، بل لأَن الإِيقاع النفسي (لبنانيًّا على الأَقل) تَبدَّلَ بين بْطْء الحركة الدرامية في النص المسرحي (قبل ثلاثة أَرباع القرن) ودينامية الحركة المشهدية في الأَعمال التلڤزيونية القائمة على مشاهد قصيرة ولقطات قصيرة وحوارات قصيرة وتعدُّد الديكورات وتتالي الشخصيات بدون إِطالة.

أَقول هذا لا عن عمل كامو بالذات، وهو تحفة فنية خالدة، بل عن أَيِّ عمل مسرحي كلاسيكي من شكسپير أَو قبله أَو بعده. وأَرى أَن كارولين حاتم تنبَّهَت إِلى هذا الأَمر فحاولَت تحريك الممثلين ما استطاعت (وقوفًا، جُلُوسًا، دَوَرانًا دائريًّا، ذَرعًا أُفُقيًّا، تنويعات صوتية، …) حتى تُـمرِّرَ مقاطع في الحوار جامدةَ الحركة، خاليةَ الفعل، ساكنةَ الحدَث، حتى لهي أَقرب إِلى حوار إِذاعي يمكن الـمُشاهد أَن يغمض عينيه ولا يتابعه فلن يفوته تحرُّك. ذلك أَن كامو، في ثنايا نصه الجميل جدًّا، مـرَّر لقطات بليغة عن الثورة والحب والعدالة في مشاهد مطوَّلة يصعب على أَي مخرج أَن يحرِّك بها المشهد. وهنا كان تحدي حاتم في إِشغال العين مع مخاطبة السَماع، في ديكور واحد بسيط رمزي، فصلَت فيه الإِضاءةُ بين غرفة الثوار (إِضاءة شبه كاملة) والزنزانة (إِطفاء شبه كامل). كما فصلَت بالتعتيم الكامل لتغيير المشهد احترامًا لخمسة فُصُول النص الأَصلي.

ما بثَّه كامو في رسالة النص الثورية بعد الحرب العالمية الثانية، أَسقطَتْه حاتم مباشِرًا على الوضع اللبناني بعد ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، في مشابَهةٍ قرَّبَتْها منّا أَسماء محلية (سارة، ربيع، ريَّان، نصري، أَبيض،…) ما أَدخلَنا في جو الغضب المؤَدِّي إِلى الانتقام باغتيال السياسي الطاغية لإراحة الشعب من تَحَكُّمه بمصير البلاد.

أَحداث المسرحية من الواقع التاريخي: تجري في موسكو سنة 1905، حين تقرِّر خلية ثورية أَن تغتال، بقنبلة يدوية، الدوق سيرغي، الحاكم الظالم الذي يبطش من دون رحمةٍ بأَهل المدينة. لتنفيذ الاغتيال اختارت الخليةُ الشابَّ الثائر نصري (شخصية “كاليايـيـڤ” في النص الأَصلي، أَدَّاها سنة 1949 الممثل المغنِّي سيرج ريجياني) وكلَّفَتْهُ إِلقاءَ القنبلة التي أَعدَّتْها سارة (شخصية “دورا” في النص الأَصلي أَدَّتْها سنة 1949 الممثلة الشهيرة فترتئذٍ ماريَّا كازاريس، حبيبة أَلْبِر كامو). ولحظة إِلقاء القنبلة عند مرور الموكب، رأَى نصري في العربة وَلَدَي أُخت الدوق، فارتدع وعاد إِلى غرفة الخليَّة فثار عليه رفاقه متَّهمينه بالتخاذل وخيانة المهمة الثورية. لكنه يعترف أَنه لم يشأْ أَن يقتل طفلَين فيما يغتال الدوق. عاد الثوار فكلَّفوه المهمة مجددًا في يوم آخر، فنجح في إِلقاء القنبلة واغتيال الدوق. يلقى القبض عليه ويُسجَن ثم ينفَّذ به فجرًا حكمُ الإِعدام شنقًا. ولأَن نصري (جوزف عقيقي) على علاقة حب بسارة (سارة عبدو) تَنْذُرُ حبيبتُه أَن ترتمي في الإِرهاب حتى يصار إِلى اعتقالها وسجنها فإِعدامها فتلتقي نهائيًّا بحبيبها في الموت، إِذ لم تجمع بينهما الحياة. وهكذا ثبُتَ أَن الثوار “عادلون” في اغتيال الظلم لتحقيق العدالة.

يتكوكب حول عبدو وعقيقي: حمزة أَبيض، ريَّان نيحاوي، ربيع عبدو، وماريا دويهي (في إِطلالة وميضة إِنما وُثْقى)، وجميعُهم في أَداء مسرحي ممتاز. ومن هذه الكوكبة عالجت كارولين حاتم النص الدرامي في أَمانة عادلة شبه حرفية حتى لكأَنها ترجمت النص بحرفيته وقدَّمته في اقتباسها الذي سعَت إِلى تحريكه مشهديًّا في سينوغرافيا جيِّدة تُكرس جهدها في إِبراز عمل كامو على مستواه اللائق، بعدما عرف في العالم ترجمات كثيرة واقتباسات عدة في لغات عدة على مسارح عالمية كبرى.

في هذا الزمن اللبناني الصعب تَطمَح كارولين حاتم، عبر منظمتها “يَزَن”، أَن تدور بهذا العمل على قرى وبلدات ومُدُن لبنانية في الساحل والقلْب والأَطراف، كي تأْخذ المسرح مجَّانًا إِلى جمهور المناطق فلا يبقى المسرح مقتصرًا على الزحف إِلى بيروت لمشاهدته.

ومع تَوَلّي الممثلة/المخرجة/الناشطة جوزيان بولس حديثًا إِدارة “مسرح مونو”، يمكن أَن نَعِدَنَا من برامجه بأَعمال مسرحية تعيد النبْض إِلى المسرح اللبناني، ومنه إِلى الحضور الفني اللبناني بعد حجْر السنوات الأَخيرة، فيتَّضح لنا وللعالم أَن المقاومة الثقافية الإِبداعية في لبنان أَقوى من الـمَوَات، وأَنها هي الراية التي لا يهدِّدها خطر، ولا يَشُلُّها وضْع سياسي حقير فاسد على صورة سياسيي لبنان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى