لبنان: مَلهاةُ الاستراتيجية الدفاعية!

محمّد قوّاص*

في أبجديات الدفاع في الولايات المتحدة وروسيا كما في مصر وإندونيسيا واليابان والمغرب وغيرها من بلدان الكوكب، إن الأمرَ مُناطٌ بالجيش.

المؤسسة العسكرية في تشكّلاتها وقطاعاتها المُختلفة هي التي تتولّى الذّودَ عن الأوطان وردعَ المُعتدين عليه. والأمر من البديهيات بحيث لا يحتاج إلى فذلكاتٍ وفتاوى كالتي تفتّقت بها العبقريات اللبنانية.

انتهت المقاومة في فرنسا بعد هزيمة ألمانيا النازية وتحرير البلاد من الاحتلال في العام 1944. عادت فرنسا آليًّا إلى الدولة الفرنسية، أسقطت “حكومة فيشي” وراحت تُحاكِمُ العُمَلاء وتُلاحِقُ مَن ارتكبوا جرائم ضد فرنسا المُحتَلَّة. عاد الناس، بمَن فيهم رجال ونساء تشكيلات المقاومة، إلى الانخراط في هياكل الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، يحتكمون إلى صناديق الاقتراع في ترتيب علاقة التيارات السياسية وضبط لعبة السلطة والتناوب على تولّيها. حتى أن شارل ديغول “بطل” التحرير، وبسبب انتخاباتٍ تشريعية في تشرين الأول (أكتوبر) 1945 اضطر إلى مغادرة السلطة بعد أشهرٍ في كانون الثاني (يناير) 1946.

تُرِكَ أمرُ الدفاع عن البلد للمؤسّسة العسكرية الفرنسية وحدها. جرى انتهاجُ آلياتٍ للدفاع، سواء في مستويات التسليح وتوزيع مهام الدفاع وبناء القدرات العسكرية، أو من خلال انخراطٍ مُجتَمعي في فرض الخدمة العسكرية الإلزامية في مرحلة أولى والتخلّي عن هذا “الواجب” في مرحلةٍ لاحقة. ولا وجود في مفردات الدفاع واستراتيجياته أيُّ توجّهٍ آخرٍ خارجٍ عن إطار الدولة والمؤسسات والقوانين.

وإذا ما كان المثال الفرنسي قد يُعتَبَرُ “طوباويًا” في ما تنتهجه فرنسا في مسائل الدستور والقانون والديموقراطية مُقارنَةً بأحوالِ دولٍ أخرى في مساحة ما يُسمّى “العالم الثالث”، فإنه، مع ذلك، من النادر ما تجد لدى هذه الدول مساراتٍ أُخرى للدفاعِ غير تلك النظامية التابعة للدولة ولوزارات الدفاع. صحيحٌ أن هذه البلدان قد تستعين بدولٍ حليفةٍ مُجاورة أو بعيدة للدفاع عنها وردّ عدوان طارئ، إلّا أن السياق يبقى دولاتيًا لا مجال لمساراتٍ غير نظامية أن تكونَ قاعدةً وأساسًا لشروطِ الدفاع.

والحال أن مسألةَ الحوارِ حول سلاح “حزب الله” في لبنان تحت عنوان “الاستراتيجية الدفاعية” هو تمرينٌ استُدرِجَت إليه كل الطبقة السياسية اللبنانية بهدَفِ مأسسة السلاح وجعله من العاديات القابلة للنقاش. وكلّما اشتدّت الأزمات يجري اقتراحُ الحوارِ من قبل أهل السلاح وحلفائه كجوائز ترضية مَحشوّة بتواضعِ الأقوياءِ المُفتَعل. والخطيئة أن تَحلّقَ قادة البلد حول طاولةٍ لتناول الموضوع، جعل من الأمرِ أصلًا فيما الجدل حوله من الهوامش. ولئن فرض السلاح على ساسة البلد أن يُدرجوه تحت مُسمّى “المقاومة” في البيانات الوزارية، وبالتالي جعله شرعيًا حين يمنح البرلمان الثقة بالحكومات، فإن تبدّلَ مزاج البرلمان الجديد يفترضُ حُكمًا تبدّل الموقف من ديباجة السلاح في بيان الحكومة الجديدة.

والحال أن على المشهد البرلماني الجديد أن لا يرفدُ أي دعوةٍ للحوار حول السلاح.

أولًا، لأن الأمرَ لا يعدو كونه إضاعةً للوقت وإغراقًا للمسألة في “الجدل البيزنطي” المعروف، ناهيك من أن أيَّ مخرجات تبقى حبرًا على ورق، وما “إعلان بعبدا” في العام 2012 المُنبَثق عن الحوار إلّا دليلًا واضحًا.

وثانيًا، لأن إمرةَ السلاحِ خاضعةٌ لآمرٍ خارج حدود البلاد. ولا يُمكِنُ لحوارٍ لبناني-لبناني أن يُمارِسَ أيَّ ضغوطٍ صادرة من بيروت على طهران لتبديل سلوك هو مدرسة في السياسة الخارجية الإيرانية وعقيدة استنتجناها مع رواج ميليشياتها التابعة في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن أيضًا.

وثالثًا، لأنه وَجَبَ أن لا يكون حوارٌ حول السلاح حتى لو كان هذا السلاح قويًّا فائضًا وأملى واقعه على اللبنانيين. ذلك أن السلاح في أيِّ دولة هو سلاح الدولة فقط، وأيُّ سلاحٍ آخر غير خاضع للتفاوض والمساومة والتسويات.

في هذا السياق أيضًا وَجَبَ التوقّفُ عن الانزلاقِ بسذاجةٍ نحو الحديث عن “الاستراتيجية الدفاعية” والابتعاد عن تعقيد الكلام حول بديهيات الدفاع.

لا يحتاج لبنان إلى فذلكات. ما يحتاجه فقط هو تقوية الجيش ورفع مستويات أدائه، ورفده بالتسليح المُتقدّم الكمّي والنوعي، وتعزيز قواه البشرية، وربط البلد باتفاقاتٍ دفاعية إقليمية ودولية كما هو حال دول الجوار العربي، على أن يكون سلاح الجيش الذي يأتمر من قبل السلطة السياسية المدنية هو استراتيجية البلد الدفاعية شأنه في ذلك شأن دول العالم أجمع. فالسؤال الحقيقي ليس كيفية مقاربة سلاح “حزب الله”، بل الاستثمار في سؤالٍ وطني واحد هو “كيف نجعل من الجيش قويًّا رادعًا”.

وإذا ما وقع برلمان لبنان الجديد، وخصوصا البرلمانيون الجدد، من جديد ضحية نظرية أن سلاح “حزب الله” هو سلاحٌ إقليمي لا يمكن حلّ معضلته إلّا بتسويٍة إقليمية، فهذا يعني اعترافًا قانونيًا جديدًا بقَدَرية هذا السلاح على لبنان من جهة، والتموضع المُبكر حول مُسَلّمة أن لحلّ مشكلة السلاح أثمان خارجية على البلد الاستعداد لدفعها وربما على حساب النظام السياسي اللبناني ودستوره و”طائفه”. صحيحٌ أن السلاحَ إقليمي وهو جُزءٌ من ترسانة إيران في المنطقة، لكن إقليميته لا تعني لبننته وجعله من مفردات المؤسسات الشرعية اللبنانية سواء جاء ذلك في بيانٍ وزاري أو من خلال طاولات الحوار.

وفي ما خرج عن منابر “حزب الله” قبل، وخصوصًا بعد، الانتخابات من تحذير من حرب أهلية إذا ما تعرّض السلاح لرفضٍ واعتراض، فإن هذا التهديد واقعيّ وسبق أن أظهرته واقعة “7 أيار” وغيرها. غير أن مأزق الحزب الحقيقي هو في غيابِ خصمٍ لهذه الحرب الأهلية، ذلك أن كافة منابر الاعتراض سياسية بامتياز وبعضها تَعزَّزَ حضوره البرلماني. فإذا ما كانت للسلاح لهجاته المحدوده في التهديد والوعيد، فإن لنتائج الانتخابات واجهات ورسائل هي في القول والعمل البرلماني أمضى وقعًا إذا ما سحبت الغطاء العام عن السلاح وجعلته “واقعًا” أمنيًا شاذًا مؤقتًا لا قَدَرًا بُنيَوِيًّا تنهمك البرلمانات والحكومات في صيانته والتفاخر به بديلًا من جيش البلد ومؤسّساته.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى