هل تُشَكِّلُ “الأونروا” مَوقِعًا بديلًا للصراع؟ حالة قطاع غزة
قد يكونُ تَعطيلُ وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة بال”أونروا” استراتيجيةً مُتَعَمَّدة لتقويض وضع الحماية للاجئين الفلسطينيين وفرض التطبيع، ولكن هل يضعف هذا حكومة حركة “حماس” في قطاع غزة؟
منى جبريل*
مُورِسَت في الآونة الأخيرة ضغوطٌ مُتزايدة على وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة بال”أونروا” لإغلاقها، وتحويل أعمالها إلى مُفَوَّضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، وهي خطوة قد تؤدّي إلى نَزعِ الشرعية عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين. يتمّ هذا الضغط من خلال الاقتطاعات المالية المُتزايدة عن الأونروا، وهي اقتطاعات تحدث بالاعتماد بشكلٍ أساس على المطالبات المُتعَلِّقة بمصداقية الأونروا المؤسّسية وبرنامجها التعليمي. لكن في قطاع غزة، تبدو هذه الاقتطاعات المالية عن الأونروا أيضًا تكتيكًا، لإجبار حكومة حركة “حماس” على التفاوض مع إسرائيل، وإضعاف موقفها ووضعها أيضًا قبل الانتخابات الفلسطينية المُحتملة.
الواقع أنه لا يُمكن الاستغناء عن الأونروا في قطاع غزة لأنها تُقدِّمُ خدماتٍ مُنقِذة لحياة المواطنين اللاجئين والمُحاصَرين. لكن الموقفَ ذي الحدّين للأونروا تَرك اللاجئين الفلسطينيين في الوقت نفسه في “حالةٍ من عدم اليقين”. فقد حافظ الفلسطينيون، لفترة طويلة، على عدم ثقتهم في الأونروا التي اعتبروها تُسهّل إعادة توطينهم وليس إعادتهم إلى الوطن. تعني محاولة الأونروا الحياد وولايتها المحدودة في مجال الحماية، بحكم الأمر الواقع، عدم تسييس القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى أزمة إنسانية دائمة، كما تعني دعم الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة.
في العام 2020، وقّعت أربع دول عربية – الإمارات والسودان والمغرب والبحرين – اتفاقات سلام لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، واعتبر الفلسطينيون في قطاع غزة هذه الاتفاقات خرقًا للإجماع العربي التاريخي السابق القائم على “الأرض مقابل السلام”. علاوة على ذلك، أوجدت خطة نتنياهو لضم الأراضي الفلسطينية، التي شجّعتها الولايات المتحدة، واتفاقات التطبيع التي توسطت فيها الولايات المتحدة، جوًا من الإحباط السياسي بين الناس في غزة. هذا الإحباط، واقترانه بحاجزٍ تاريخي دائم للثقة بين الفلسطينيين والأونروا يعني أن “أي تغيير في برامج الأونروا [من شأنه أن يثير [..] شبح ” مؤامرة التصفية “ويساهم في […] إثارة مشاعر الشك والريبة والتشاؤم بين اللاجئين”. على سبيل المثال، أدى نقص موازنة الأونروا في العام 2020 إلى إجبار وكالة الأمم المتحدة على تأجيل دفع الرواتب الكاملة لموظفيها وتقليص بعض خدماتها.
هذا أدى إلى تجمّع الفلسطينيين، في قطاع غزة، في احتجاجات حاشدة غاضبة أمام مقر وعيادات الأونروا. وضمت الاحتجاجات ممثلي اللجان الوطنية والسياسية. وطالبوا باستعادة الخدمات المعتادة، وحملوا أيضًا لافتات تقول “نحن جميعًا لاجئون” تعبر عن غضبهم تجاه استبعاد الأونروا للاجئين الفلسطينيين غير المسجلين، ولا سيما خلال هذا الوقت الحرج، نظرًا إلى حالة الطوارئ الصحية التي سببها وباء كوفيد-19. كما حمل المتظاهرون رسائل إدانة سياسية حيث يبدو أنهم فسروا تقليص الأونروا للخدمات بوصفه جُزءًا من “مؤامرة” إدارة ترامب.
الأونروا على مفترق طُرُق في تاريخها
مع التوجّهات نحو التطبيع، يُلاحَظُ تحوّلٌ سلبي في موقف بعض الدول العربية تجاه الأونروا. الدعوات لإصلاح الأونروا ليست جديدة، وهي مُتجذّرة تاريخيًا مع الرغبة في نزع الشرعية عن حقّ الفلسطينيين في العودة، فقد بُنيت دعوات إصلاح الأونروا السابقة على نزع الشرعية عن حقّ الفلسطينيين في العودة، وهي أيضًا تشمل “نقل مسؤوليات الأونروا إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، و”إخراج المواطنين من مسؤولية الأونروا”، و”الحدّ من التصريحات العلنية للأونروا”، و”فحص (تدقيق) موظفي المنطقة واللاجئين”، و”الانتقال إلى توفير الخدمات على أساس الحاجة”، و”مراقبة الكتب المدرسية والمُعلّمين”، و”إعادة التفكير في خدمات سيارات الإسعاف”، و”تحسين الإغاثة والخدمات الاجتماعية”، و”توسيع قروض الإسكان”، و”مراجعة برنامج التمويل الأصغر والمشاريع الصغيرة”. ولكن ما يُعتَبَرُ ظاهرة حديثة هو وضع شروط لتمويل الأونروا بمراقبة كتبها المدرسية المُستَخدَمة في تعليم اللاجئين الفلسطينيين.
هذه الدعوات كانت واضحة بشكلٍ خاص في الإدارة الأميركية السابقة، حيث “كان عهد دونالد ترامب موسمًا مفتوحًا لمُنتَقدي الوكالة”. فقد وصف الرئيس الأميركي السابق الأونروا بأنها “فاسدة بشكلٍ لا يمكن إصلاحه”، ودعا غاريد كوشنر، كبير مستشاري الرئيس السابق، إلى “بذلِ جهودٍ مُخلصة لتعطيل الأونروا”. كما نُقِلَ عن كوشنر في البريد الإلكتروني نفسه وصف الوكالة بأنها “فاسدة وغير فعّالة” وغير مواتية للسلام. على هذا الأساس، في العام 2018، شهدت الأونروا خفضًا ماليًّا غير مسبوق من قبل أكبر مانح منفرد لها، الولايات المتحدة.
بعد فوز جو بايدن بالرئاسة، تمّت استعادة جُزءٍ من التمويل الأميركي (235 مليون دولار) للأونروا. ولسدِّ فجوة التمويل، ساعدت مساهمات عربية من دول مجلس التعاون الخليجية وأخرى أوروبية الأونروا على التعامل مع الأزمة المالية التي سبّبتها إدارة ترامب، لكن بين العامين 2018 و2022، انخفض التمويل الخليجي للأونروا بشكلٍ كبير، لا سيما التمويل المُقدَّم من دولة الإمارات والبحرين.
بلغ إجمالي التبرّعات الإماراتية للأونروا 20 مليون دولار في العام 2018. ومع ذلك، بعد عامين فقط، إنخفضت تبرّعات أبو ظبي للأونروا إلى مليون دولار فقط. يُنظَرُ إلى هذا الخفض الكبير في التمويل الإماراتي على أنه مُرتَبِطٌ مباشرة باتفاقات أبراهام. كما قرّرَ البرلمان الأوروبي، ولأول مرة في تاريخه، مَنعَ 20 مليون يورو من المساعدات للأونروا إذا لم يتم إجراء تغييرات فورية على الكتب المدرسية الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، خفّضت المملكة المتحدة منحتها الأساسية للوكالة بأكثر من 50 في المئة. في هذا السياق، دعا المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني إلى “حماية الوكالة من أولئك الذين يحاولون الإضرار بسمعتها ونزاهتها وهدفها”.
مَوقِعٌ بديل للصراع ضد حكومة حماس؟
التعطيلُ المُتَعَمَّد لعمل الأونروا لا يُحرِمُ اللاجئين الفلسطينيين من حقِّ العودة فحسب، بل يُحَوِّلُ الوكالة أيضًا إلى أداةٍ سياسية لتجريدِ حكومة حماس من قوّتها. في صيف 2021، أعلنت الولايات المتحدة أنها ستساهم بمبلغ 135 مليون دولار للأونروا بشرط التوقيع على إطارِ عملٍ للتعاون ينصّ على أنه “لن يتمَّ استخدامُ أيّ جُزءٍ من المساهمة الأميركية لتقديم المساعدة لأيِّ لاجئٍ يتلقّى تدريبات عسكرية كعضو فيما يسمى ب”جيش التحرير الفلسطيني أو أيّ منظمة أخرى من نوع حرب العصابات أو انخراط في عمل إرهابي”، كما نص الإطار على بندٍ بشأن “مراقبة محتوى المناهج [المدرسية] الفلسطينية”. وقد احتجَّ العشرات من الفلسطينيين على الاتفاقية التي اعتبروها تنتهك العديد من حقوقهم وتُحوِّلُ الوكالة بشكل أساس إلى وكالة مخابرات.
على الرغم من أنها مُقَيَّدة بمحدودية الموارد، تتعرّض حكومة “حماس” الآن للضغط لسدِّ فَجوَةِ تقديم الخدمات الناجمة عن الاقتطاعات المالية للأونروا. وتاليًا، سيُجبِرُ هذا الوضع المؤلم هذه الحكومة على التفاوض مع إسرائيل، ما قد يُضعفها في أي انتخابات فلسطينية مقبلة. مع استمرار نضال ومعاناة الأونروا، رفعت إسرائيل حظرًا، دام سنوات على تصاريح العمل للفلسطينيين، للمرة الأولى منذ سيطرة “حماس” على غزة في العام 2007. وهذا الأمر يُعيدُ القطاع فعليًا إلى مستعمرةٍ اقتصادية، ويدعم المزيد من التطبيع وليس السلام. يمكن أن يؤدي هذا التغيير المفاجيء أيضًا إلى تخدير المقاومة في قطاع غزة واستمرار إضعاف الأونروا.
هل هي حقًّا مشكلة الكُتُب المَدرَسيّة؟
على عكس سيل الاتهامات التي رَوَّجَها منتقديها ضدها، فإن لدى الأونروا نظامَ مُراجعة قوي للكتب المدرسية يضمُّ خبراء من مختلف أنحاء العالم، وبالتالي هي تقوم فعليا ب “دمج التعليم الدولي في مناهجها الدراسية”. في العام 2021، حصلت الأونروا على جائزة المجلس البريطاني للتميُّز في التعليم العالمي. لذلك، فإن اعتماد تمويل الأونروا على أساس “مراقبة محتوى المناهج الدراسية الفلسطينية” غير مُبَرَّر. وكما أشار فيليب لازاريني، فإن “الأونروا ليست هي التي تديم إقامة دولة اللاجئين، وإنما عدم وجود حلّ سياسي هو ما يؤدي إلى استدامة دولة اللاجئين”. يتعلم الطلاب الفسطينيون في الفصول الدراسية في مدارس الأونروا قِيَمَ الأمم المتحدة للحرية وحقوق الإنسان تحت وقع أصواتِ القصفِ والتفجيرات، والأحياء المُدَمَّرة، وظروف الفقر التي يعيشونها في بيوتهم. هذا هو التحدّي الحقيقي الذي تواجهه الأونروا في سعيها إلى تحقيق مهمّتها التعليمية العالمية وهو التحدّي الذي يجب معالجته بأولوية حاسمة.
وبدلًا من تقديم الدعم الضروري للأونروا في هذه الأوقات الصعبة بسبب استمرار الأزمة الصحّية على مستوى العالم، فإن الخفضَ المالي للأونروا قد ترك وكالة الأمم المتحدة في “منطقة خطر”، ما يُهدد أكثر حياة السكان المُعرَّضين للخطر في قطاع غزة. وما لم يعترف المجتمع الدولي بالتكلفة الحقيقية لاستراتيجياته لتعطيل الأونروا، والتي تتجلّى في الإضرار بالحياة البشرية والتنمية الأساسية، فإن مستقبل الأجيال الجديدة في قطاع غزة سيتعرّض للخطر، وآفاق تحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة سيبقى مُجرّد خطابٍ سياسي.
- الدكتورة منى جبريل هي باحثة مشاركة في مركز جامعة كامبريدج لأبحاث الأعمال. هي عالمة اجتماع في التخصّصات المُتداخِلة، تُركّز على غزة والمناطق المتضررة من النزاع في الشرق الأوسط. يمكن متابعها عبر تويترعلى: @Mona_Jebril
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.