حفيدة تولستوي تُؤْوي مهجّري أُوكرانيا

مارتا الطفلة تعانق جدَّتها تاتيانا ابنة تولستوي (روما 1948)

هنري زغيب*

قد يبدو مستغرَبًا من حفيدةِ الكاتب الروسي الشهير ليُو تولسْتُوي (1828 – 1910) أَن تُبادر إِلى إِيواء مهجَّري أُوكرانيا فيما بلادُها اليوم ترمي على أُوكرانيا قذائف الموت وصواريخ الدمار. غير أَن الاستغراب يزول حين نعرف أَنَّ من أَعلى القيَم لدى تولستوي هي السلام الذي سعى إِليه في جميع رواياته.

تولستوي محاطًا بزوجته وأَولاده وبعض أَحفاده

من هي هذه الحفيدة؟

حفيدة تولستوي مارتا أَلْبرتيني (84 سنة) تعيش في بلدة لِنس الجبلية السويسرية منذ سنوات، وهي سليلة عائلتَين عريقتَين تتحدَّر منهما: والدتُها هي تانيا أَلبرتيني (1905-1996)، وجدَّتُها لوالدتها هي تاتيانا سوخوتين (1864-1950) ابنة ليو تولستوي من زوجته صوفيا بيهْرْس (1844 – 1919).

من ناحية والدها: هي ابنة الإِيطالي ليوناردو أَلبرتيني، والدُه لويجي أَلبرتيني رئيس تحرير جريدة “كورييري دا سيرا” (“مراسل المساء”) بين 1900 و1925. هاجم الفاشية فراجت جريدته وباتت الأُولى في إيطاليا، وكان نائبًا معارضًا في مجلس النواب.

هكذا نشأَت مارتا بين جَذْرين: روسيا وإيطاليا، تميَّزا بشهرة النساء فيهما، واكتسبت منهما القيَم الثقافية والسياسية والاجتماعية. من هنا وضْعُها سنة 2020 كتابًا عن النساء في أُسرتها الشهيرة.

انتقلت إِلى لِنْس بعدما أَمضت ربع قرن في ڤيريـيـه (بلدة جبلية تضُمُّ إِحدى أَشهر محطات التزلُّج في سويسرا). واستقطبت حولها عددًا كبيرًا من المواطنين الروس في المدن المجاورة. حملَت معها صندوقةً ملأَى رسائلَ والدتها تاتيانا ميخايــيلوڤنا سوخوتين إِلى أَمها تاتيانا لوڤوڤنا (ابنة تولستوي) تبادلتَاها بين السنوات 1920 و1930.

تولستوي وزوجتُه صوفيا

التاتياناتان

كانت المرأَتان (ابنة تولستوي وابنتُها) استقرَّتا في پاريس هرَبًا من روسيا غداة الثورة البولشيفية. وعاشتا فترةً قاهرةً في تقشُّف وشبه عَوز لأَن الكاتب الروسي العظيم، بعد صدور روايته “آنا كارينينا”، تخلَّى عن جميع حقوقه كمؤلِّف. لذا لم يصل إِلى ابنته وحفيدته أَيُّ عائدات من مبيع الروايات. وكان تولستوي، بعدما عاد من الخدمة العسكرية (1856)، تزوَّج سنة 1862 في كنيسة السيدة العذراء في كييف (أُوكرانيا)، وكتب رائعته الخالدة “الحرب والسلم” عن الحروب التي خاضها بوناپارت، وأَتبعها بروايته الخالدة الأُخرى “آنا كارينينا” (1877). لكنه في أَواخر حياته تخلَّى عن كل ما له وعاش حياة صوفية متقشِّفة، أَبعدتْه عن بيته وأُسرته وبلدته، فهام من دون هدى، وانتهى سنة 1910 أَن مات على مقعد مهجور وراء محطة القطار في آستاپوڤو (جنوبي روسيا).

كانت ابنته تاتيانا تولستوي (1864 – 1950) وَلدت في الحارة الكبيرة التي ورثها تولستوي عن أُمه في پوليانا (مقاطعة تولا). وسنة 1899 تزوَّجت من المارشال ميخائيل سوخوتين، ورزقت ابنتها تاتيانا سنة 1905. سنة 1914 تعيَّنت مديرة المتحف الروسي في المقاطعة بين 1917 و1921، ثم مديرة متحف تولستوي في موسكو بين 1923 و1925 حين هاجرت إِلى باريس ثم إلى روما حيث ماتت سنة 1950. ابنتُها تاتيانا ميخايـيلوڤنا أَلبرتيني (1905 – 1996) كتبت مذكراتها واستذكرت فيها المآسي العائلية والوطنية عبر مراسلتها مع أُمها زوجة تولستوي.

مارتا واللاجئة الأُوكرانية

في حديث إِلى مندوبة “وكالة الصحافة الفرنسية” (AFP) في سويسرا، استهولَت حفيدة تولستوي مارتا أَلْبرتيني، مصدومةً، ما يجري في أُوكرانيا من مجازر في البشر ودمار مرعب في الحجر. لذا استقبلت في شقتها الصبية الأُوكرانية أَنانستازيا شيلودْكو الناجية من رعب الموت في مدينتها نيكولاييڤ (جنوبي أُوكرانيا) والملتجئة أُمها لدى مارتا في بلدة لِنْس الجبلية السويسرية (في كانتون ڤاليه).

اللاجئة أَناستازيا وأُمها هما بين 32 أَلف لاجئ في سويسرا من الحرب في أُوكرانيا، وبين نحو خمسة ملايين هارب من الحرب في البلاد. وهي غادرَت دراستها الجامعية في اختصاص الترجمة، وانتسبت إِلى جامعة سييرا السويسرية، تتخصَّص في الإِعلامياء. وتقول في غصة: “كأَنني في كابوس مرعب بعد عيشة هانئة في مدينتي وبلادي. فذات صباح استيقظْنا على قصف المطار وعلى انقلاب مرعب في حياتنا اليومية”. وتتذكَّر تمضيتَها وأُمها عشرة أَيام في كهف مهجور قبل هربهما جنوبًا في ممر شبه آمن، تاركة وراءَها جدتها وشقيقها البكر، ولا تعرف عنهما أَيَّ خبر”.

صوفيا تولستوي تطبع مخطوطة لزوجها (1909)

فظاظة الحرب

تضع مارتا في صدر شقتها صورة جدِّ والدتها الكاتب العبقري ليو تولستوي، لأَن في رواياته، خصوصًا “الحرب والسلْم” (1869)، و”آنا كارينينا” (1878)، دعوةً صارخة إِلى نبْذ الحروب ومآسيها وكوارثها وفواجعها، وإِلى اعتماد السلام والأَمان بين الشعوب وقادة الدُول. وتبوح مارتا لمندوبة “الوكالة الفرنسية”: “ما هذه الفظاظة! إِلى أَين وصلْنا؟ كان جدّي ليو رجلًا مسالِمًا، عاش هول الحرب في شبه جزيرة القُرم وعاين حصار مدينتها البحرية سيباستوڤول في خمسينات القرن التاسع عشر، وصوَّر مجازرَها في رواياته”.

وختمت مارتا حديثها إِلى المندوبة: “كتبْتُ رسالة اعتراض شديد باسم أَفرادٍ من أُسرتي إِلى ڤلاديمير بوتين، شدَّدتُ فيها أَن ما يقوم به في رأْينا هو اجتياحُ بلَد بريْء يريد حفظ الأَمان على حدوده، وأَن أُوروپا بعد هذه المجازر لن تعود كما كانت. وأَعرف أَن بوتين حتمًا رمى رسالتي في سلَّة المهملات ولم يقرأْها. لا يهُمّ. نحن أَوصلنا إِليه صوتنا بكل جرأَة وصراحة”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى