الصُعُود إِلى الوادي (2)

هنري زغيب*

للهواء هنا لونٌ آخَر. مَذاقُهُ صدى الوادي المقدَّس (ناحية تاريخية في شمال لبنان، على لائحة اليونسكو للتراث العالمي).

هناك على كتفه المقابلة: بشَرّي جبران لم تفارق هيبتَه عيناه حتى لهو في معظم لوحاته، كأَنْ تعويضًا عن بُعاده من عَلْوَة نيويورك إِلى علوات قاديشا.

هنا نحن، على الكتف الأُولى من الوادي وتراثه العبقريّ. دليلُنا مؤَرخُه الزميل جورج عرب.

إِنه الصرح البطريركي الصيفي في الديمان – يُحدِّد جورج: “جديدة قنوبين”- بدأَ بتشيـيده “سيِّدُ لبنان الكبير” البطريرك الياس الحويِّك، وأَنجَزه ديرًا وكنيسةً خلَفُهُ البطريرك أَنطون عريضة الذي، ذات صادف في باريس (1935) الرسَام صليبا الدويهي، دعاه للعودة إِلى لبنان ورسْم جدرانيات كنيسة السيِّدة في الصرح. وإِخال الدويهي، حين تلقَّى دعوة البطريرك، وَمَضَت في باله ذكرى ميكالنجلو إِذ طلب منه البابا يوليوس الثاني في الفاتيكان رسم جدرانيات “كنيسة سيسْتينا” وسَقفَها فحمَل ريشته، تمَدَّد على إِسْكالة خشبية، وأَمضى أَربع سنواتٍ (1508 – 1512) يرسم فضاءً خالدًا في سقف الكنيسة.

هكذا تم بالضبط مع صليبا الدويهي (1912 – 1994): حملَ ريشته الـمُشْبَعة بانطباعية أُستاذه حبيب سرور (رائد الفن الكنَسيّ)، تَـمدَّد على إِسكالة خشبية، وأَمضى أَربع سنوات (1938 – 1942) يرسم فضاءً جميلًا في سقف كنيسة الديمان.

ندخل الكاتدرائية. تَندَهُنا مَهابَتُها: طولُها نحو 40 مترًا، ونحو 16 عرضًا، ونحو 30 عُلُوًّا. سقْف نصف دائري غرابَتُهُ أَنه يبدو مبسوطًا صقيلًا. نرى إِلى فوق. يَنفتح السقْف. يَتحوَّل سماءً غيومُها أَلوانٌ وأَشخاصٌ ومَشاهد. عوض أَن ننزلَ فنزورَ الوادي، نصعد إِليه في فضاء الكنيسة إِذ انفتح، ونتنقَّل في الفَوق: هي ذي دورة وادي قنوبينَ الـمَهيب بتفاصيلها كُوًى وتجاويفُ وتضاريسُ وهضباتٌ تحنو على الوادي، شمسٌ تعانقه يسارًا من دورة قاديشا إِلى تلَّة حَوقا، ويمينًا حتى جبل الديمان وحدث الجبّة، لوحات متتالية متجانبة متخاصرة من الكتاب المقدس، رجْمُ الشمَّاس أُسطفانوس (طليع الشهداء المسيحيين)، القديسة مارينا، مراحل من حياة يسوع منذ بشارة مريم إِلى يوحنا يُعَمِّدُه في مياه الأُردنّ التي من ثلج حرمون لبنان، حتى الصلب وإِكليل الشوك، فالقيامة فالصعود فالتجلِّي عند بحيرة طبريَّة لتلاميذه وبينهم “نتنائيلُ الذي مِنْ قانا الجليل” كما رَوى يوحنا (21: 2)، رُعاةٌ عند خصر الوادي منثورون كأَوراق ورد على حضْن صبيَّة، ملائكة يرفرفون كفراشات في زهو صباح ربيعيّ مشمس، فلَّاحون وقرويون في خلفية قُرًى بعيدة أَو أَمامية قريبة، عاديُّون بُسطاءُ العيش أَنقياءُ الطوية واضحو القسَمات اللبنانية طِيْبةً وعزمًا جُرديًّا قَنوبيًّا من شمال لبنان، أَجواءُ فريدةُ النكهة والجمال تَتَبَهْرَج في أَصداء الصلَوات تَصَّاعدُ من تلافيف الوادي المقدس ابتهالاتِ نُساكٍ خُشَّعٍ في مغاورهم، طبيعةٌ لبنانيةٌ غنيةُ الأَلوان مُتَماوجَتُها بين فصلٍ وفصل، بين شمسٍ وشمس، بين غروبٍ وضُحى، بين شُروق وسطوع، بين ليلٍ أَزرقَ ونجومٍ زُهْر، مدى وساعة تَتَمَهْرَجُ في الهواء الطلق فُسحةَ حريةٍ عُمْـرُها جبالُ لبنان.

إِخال صليبا الدويهي – مُمَدَّدًا على إِسكالته أَو راكعًا أَمام فِلْذةٍ من جدار – كانت تَتَناهى إِليه كلماتُ جبران من صخْب نيويورك شغفًا إِلى سُكون وادي قاديشا: “لبناني تُلولٌ تَتَعالى بهيبةٍ وجلالٍ نحو ازرقاق السماء، وأَوديةٌ هادئة سحرية تتموَّج في جنباتها رنَّات الأَجراس وأَغاني السواقي، وصلاةٌ مُجنَّحة تُرفرفُ صباحًا عندما يقود الرعاة قُطعانهم إِلى المروج وتتصاعدُ مساءً عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم. لبناني كلمةٌ علوية تهمسها الأَرض في أُذُن الفضاء، ورجلٌ مُتَّكئٌ على ساعده في ظلال الأَرْز منصرفٌ عن كل شيء سوى الله ونور الشمس”.

نُغْلق السقف. نَخرج. يَنبسط أَمامنا الوادي. نَفهم كيف في الديمان تَكون زيارةُ الوادي صُعودًا إِلى سقْف كنيسة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى