هل تُقَدِّمُ أزمةُ أوكرانيا لتركيّا فُرصَةً لإعادة تثبيتِ عُضوِيَّتِها في “الناتو”؟
فيما تشتعل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا المدعومة من الغرب، يتطلّع المراقبون إلى موقف تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) من تلك الأزمة، خصوصًا إذا اشتعلت الحرب بين الحلف وروسيا.
كمال كريشي*
يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) ربما أكبر تحدٍّ عسكري للنظام الأمني الأوروبي منذ تشكيله حيث أن الغزو الروسي لأوكرانيا، وفقًا لما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن، “بات ممكنًا بشكل واضح في أي لحظة”. حذّرت الولايات المتحدة والعديد من الدول الأعضاء في “الناتو”، بما في ذلك تركيا، رعاياها وطلبت منهم مغادرة أوكرانيا. تلوح في الأفق مسألة أين تقف أنقرة في هذه الأزمة؟ هل يمكن أن يكون للأزمة الروسية-الأوكرانية بصيص أمل لإعادة ترسيخ تركيا في “الناتو” – الذي انضمت إليه قبل 70 عامًا هذا الأسبوع – بطريقةٍ تُفيدُ الأمن التركي والأوكراني والأوروبي الأوسع؟
تركيا، الغرب و”الناتو”
أعادت الأزمة الأوكرانية-الروسية إشعال الأهمية الجيوسياسية لتركيا وحلف شمال الأطلسي لبعضهما البعض. في السنوات الأخيرة، نمت شكوكُ الغرب حول عضوية تركيا في “الناتو” وموثوقيتها بشكلٍ كبير. كانت هناك أسبابٌ مُتعدّدة لهذا. لقد كان “الناتو” هدفًا للانتهاكات الشعبوية المستمرة في تركيا. في أعقاب محاولة الانقلاب في العام 2016، زَعَمَ نوابٌ من حزب العدالة والتنمية الحاكم تورّط “الناتو”، من دون تقديمِ أيِّ دليل، بل وصفوه بأنه “منظمة إرهابية”. وقد تبنّت الحكومة هذا الادّعاء بشكل دوري، وأخيرًا من قبل عضو في حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. كما أدى قرار أنقرة شراء صواريخ “أس -400” من روسيا إلى ضررٍ كبير في العلاقات مغ الغرب، حيث احتدمت على أثره معركة ديبلوماسية شديدة الحدة كانت نتيجتها فرض عقوبات على تركيا من قبل الولايات المتحدة وإخراجها من برنامج طائرت “أف-35” (F-35). ولا يزال الخبراء الأتراك في حيرة من أمرهم بشأن الأساس المنطقي وراء هذا القرار. وأثار تهديد أردوغان بطرد 10 سفراء غربيين، سبعة منهم من الحلفاء في “الناتو”، لانتقادهم احتجاز فاعل الخير عثمان كافالا إلى أجلٍ غير مُسمّى مزيدًا من الشكوك حول مكانة تركيا في الحلف.
مع ذلك، تحت الرادار، كانت تركيا طوال هذه الفترة مُساهمًا منتظمًا في مهام “الناتو”. في أفغانستان، نفذت مجموعة واسعة من العمليات من توفير الأمن لمطار كابول إلى قيادة فريق إعادة إعمار إقليمي في ولاية “وارداك”. خلال العام 2021، قادت تركيا قوة العمليات المشتركة عالية الاستعداد التابعة لحلف “الناتو”، ووضعت الآلاف من جنودها على أهبة الاستعداد للنشر في غضون أيام لمهام الحلفاء. في الوقت نفسه، واصلت المشاركة بواسطة طائرات “أف-16” (F-16) في عمليات الشرطة الجوية في البلطيق وبولندا وأوفت بمهمات المراقبة الجوية لحلف شمال الأطلسي. ومع تهديد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم بإحداث تغيير جذري في التوازن العسكري في البحر الأسود، كثّفت تركيا من جهودها لدعم تعاون الحلفاء في المنطقة. تُشارك الأصول البحرية والجوية التركية بانتظام في التدريبات والمناورات الأطلسية، مثل مناورات “نسيم البحر” (Sea Breeze) التي استضافتها الولايات المتحدة وأوكرانيا، ومهام الدوريات مع وحدات من الدول الأعضاء في “الناتو”. أخيرًا، وبغض النظر عن حالة علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا لاحقًا، فقد دعمت تركيا باستمرار توسّع “الناتو” بما في ذلك سياسة “الباب المفتوح”.
هل تستطيع تركيا مساعدة أوكرانيا؟
من الناحية المثالية، قد ترغب تركيا في مواصلة بيع الأسلحة إلى أوكرانيا، وتعميق تعاونها الدفاعي معها، وتوسيع صادراتها إليها بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرّة أخيرًا. لكن الغزو الروسي لأوكرانيا سيترك أيدي أنقرة مُقَيَّدة بشدة لأنه سيؤدي إلى مزيد من الاضطرابات الاقتصادية وإحجامٍ عن دعم سياسة العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة. الاقتصاد التركي في حالته الأسوأ منذ عقود، بدون أي مؤشرات فورية على التعافي، بينما تعتمد تركيا على روسيا في العديد من المجالات، من إمدادات الطاقة إلى الدخل السياحي إلى موافقة موسكو على الوجود العسكري لأنقرة في شمال سوريا. علاوة على ذلك، في ضوء التقارير عن إبحار ست سفن حربية روسية في البحر الأسود، من المشكوك فيه أيضًا أن تكون تركيا قادرة على استخدام سلطتها التقديرية بموجب المادة 21 من اتفاقية مونترو لعام 1936 وإغلاق المضائق التركية في وجه السفن الحربية الروسية المشاركة في الأعمال العدائية. من غير المرجح أن تخاطر أنقرة بوضعٍ مُكلف يُذكّرنا بالموقف الناجم عن العقوبات التي فرضتها روسيا على تركيا عقب إسقاط طائرة حربية روسية في العام 2015.
لا تكمن المشكلة في اعتماد تركيا على روسيا في حدّ ذاته، بل تتعلّق بحقيقة أن أنقرة لا تُشارك بنشاط أكبر في الجهود الغربية لردع موسكو وحل الأزمة الحالية. من الواضح أن أردوغان، على الرغم من دعمه المطلق لوحدة أراضي أوكرانيا بالإضافة إلى حماسه لإيجاد حلٍّ تفاوضي للأزمة، غائبٌ بشكلٍ واضح عن الجهود الديبلوماسية رفيعة المستوى لتنسيق ردٍّ مُوَحَّد مع الحلف الأطلسي، في حين أن بايدن لا يبدو أنه يعتبر تركيا حليفًا أساسيًّا. لقد اقتصرت الاتصالات على المكالمات الهاتفية المهذبة بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ومستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جايك سوليفان ومستشار أردوغان إبراهيم كالين.
تكمن المشكلة في ابتعاد تركيا الأوسع عن الغرب والصعود الدراماتيكي لاستبداد حكمها، الأمر الذي أبعدها كثيرًا من القيم الديموقراطية المُشترَكة التي من المفترض أن تربط أعضاء “الناتو”. أحدث ظهورٍ لهذا الأمر حدثَ عندما رفض أردوغان رفضًا قاطعًا قرار مجلس أوروبا برفع دعوى تأديبية ضد تركيا لفشلها في الالتزام بحكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الداعي إلى إطلاق سراح كافالا. كان من المفارقات بشكل خاص أن هذا الحكم صدر في الوقت الذي كان أردوغان يقوم بزيارة لأوكرانيا، البلد الذي خاطر – وشهد – الحرب حتى يتمكن من الانضمام إلى الغرب والحفاظ على أسلوب حياة ديموقراطي. وقد اعتبرت العضوية في مجلس الحلف على الدوام، منذ إنشائه في العام 1949، والالتزام بالتقيّد بأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، تأكيدًا على الروح الغربية لتركيا.
تفاقمت هذه الصورة بسبب الرأي العام السلبي تجاه أوروبا والولايات المتحدة. سنواتٌ من السرد المستمر المُعادي للغرب والمُناهِض للولايات المتحدة والادعاءات الشعبوية بأن الغرب يُحاول تقويض تطلعات تركيا إلى أن تكون قوة عالمية قد شكلت بشكل عميق المواقف العامة. يمنع غياب الإعلام الحر والنقدي الجمهور من الوصول إلى رأي أكثر توازنًا وواقعية حول تركيا والغرب. وفقًا لشركة “متروبول” (Metropoll)، وهي شركة أبحاث واستطلاع للرأي العام، فضّل 39.4٪ من المشاركين علاقات أوثق مع الصين وروسيا (الشرق) أكثر من 37.5٪ يفضلون توثيق العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة (الغرب) في استطلاعٍ جرى في كانون الثاني (يناير) 2022، مُقارنةً بـ 27.6٪ و40.9٪ على التوالي قبل عام. إن حقيقة أن هذا التأرجح حدث في وقت كانت روسيا تُهدّد أوكرانيا علنًا بالغزو هو أمرٌ مُدهش بشكلٍ خاص، حيث إن حرمة وحدة الأراضي والسيادة تحظيان باحترامٍ كبير في تركيا. علاوة على ذلك، يرى الجمهور التركي أن تهديدًا أمنيًا من الولايات المتحدة ضد تركيا هو أكبر مما هو عليه من روسيا.
لقد أدّت السياسة الخارجية المتناقضة مع الغرب، حتى وقت قريب جدًا، والعدائية تجاه مجموعة واسعة من البلدان المجاورة، إلى تغذية صورة تركيا التي “فقدت إحساسها بالاتجاه والانتماء”. وبالتالي، فليس من المستغرب أن يتساءل الكثيرون عما إذا كانت تركيا “لا تزال عضوًا في مجتمع الدول الغربية” و”من بين الأعضاء الملتزمين في الناتو؟”. مثل هذه الشكوك تمنع تركيا من لعب دور كامل في ردع روسيا عن غزو أوكرانيا.
المضي قُدُمًا
ومع ذلك، لم يُفقَد كل شيء. أدت الأزمة الأوكرانية إلى زيادة التساؤلات حول الحكمة من علاقة تركيا الحميمة مع روسيا وتقدير أكبر لقيمة “الناتو”، والتي كرّرها أخيرًا سفييران تركيان بارزان متقاعدان. ومن المثير للاهتمام، أن منطقهما لا يختلف كثيرًا عن الديبلوماسيين الأتراك ووزراء الخارجية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، والذين لعبوا دورًا مركزيًا في التفاوض بشأن انضمام تركيا إلى “الناتو”، كاشفين عن الاستمرارية التي تأتي مع الجغرافيا، ولكن أيضًا عن الالتزام المستمر والثابت بالروح الغربية الذي يعود تاريخه إلى العصر العثماني.
للمضي قدمًا، فإن تنشيط المهمة الغربية التقليدية لتركيا وعضويتها في “الناتو” سيعتمدان على تطورين. يفشل أردوغان في معالجة مشاكل تركيا المتصاعدة. لقد انخفضت معدلات مؤيديه من 56٪ تقريبًا في بداية جائحة كوفيد-19 إلى 38.6٪ في نهاية العام 2021، بينما فقد حزب العدالة والتنمية الحاكم دعمه بشكل مطرد وانخفض إلى 23.9٪. في ظل هذه الظروف، تتمتّع المعارضة بفرصة متزايدة للفوز في الانتخابات المقبلة إذا كانت حرّة بشكلٍ معقول. ومع ذلك، فإن المعارضة التي يقودها حزب الشعب الجمهوري ظلت هادئة إلى حدٍّ كبير بشأن قضايا السياسة الخارجية وابتعدت من تأييد السياسات الموالية للغرب. سيحتاج هذا الوضع إلى التغيير، وستحتاج المعارضة إلى تبنّي منصّة مُستَنيرة وعقلانية تُبدّد التحيّزات وتشرح للجمهور بشكل أفضل لماذا سيعود تنشيط العلاقات القوية مع الغرب بالفائدة على مصالح تركيا.
من ناحية أخرى، ينبغي على الغرب القيام بدوره أيضًا. قبل كل شيء، يجب أن يكون هناك اعترافٌ بأن هناك تغييرًا سياسيًا وشيكًا في تركيا. ومع إنه ليس مؤكّدًا بالطبع، لكن هناك احتمالية جيدة أن تفوز المعارضة في الانتخابات المقبلة. في غضون ذلك، سيكون من المهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن تدرك أن الأزمة الحالية بشأن أوكرانيا أظهرت مرة أخرى القيمة الإستراتيجية لتركيا بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي، وأن تُطَوِّرَ، جنبًا إلى جنب مع الحلفاء الآخرين، سردًا بنّاءً من شأنه أن يُرحّب بعودة تركيا بعد الانتخابات في قلب حلف شمال الأطلسي. نظرًا إلى توقف عملية التوسيع، من غير المرجح أن يتمكن الاتحاد الأوروبي من لعب الدور القوي الذي لعبه في إصلاح الديموقراطية التركية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن مثلما حدث قبل 70 عامًا، يمكن لعضوية تركيا في “الناتو” أن تصبح قناة لتعزيز رسالة أنقرة الغربية وديموقراطيتها بشكل متبادل، مع الاستفادة من الأمن الأوروبي، بما في ذلك أمن أوكرانيا.
- كمال كريشي هو زميل كبير غير مقيم في مركز مشروع الولايات المتحدة وأوروبا في معهد بروكينغز، ويتمتع بخبرة في السياسة الخارجية التركية ودراسات الهجرة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @kemalkirisci
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.