الطوائفُ اللبنانية غير المُتَّحِدة حَوَّلت أطفالَ لبنان إلى أقلّية

الدكتور هيكل الراعي*

يستيقظ الطائفيون في لبنان، قياداتٍ ومناصرين، كلّ صباح وآلاتهم الحاسبة في أيديهم. يُدقّقون في عددِ أفراد طائفتهم وفي أعداد أفراد الطوائف الأخرى. يتّصلون بدوائر النفوس وبالمخاتير وبالمستشفيات لمعرفة عدد المولودين الجُدد وعدد المُتَوَفّين عند كل طائفة. يستفسرون من المطار عن أرقام المسافرين مع حقائب كثيرة وعن العائدين. يراقبون وجوه هؤلاء المسافرين أو العائدين، وألبستهم، أسلوبهم في الكلام، الإشارات الدينية التي يحملون، علّهم يكتشفون انتماءهم الديني فيَطمئنّون إلى غدهم، أو يخافون. يُشغّل الطائفيون كل ما يملكون من أجهزة الرصد في الوطن وفي بلاد الانتشار لمعرفة تطور حجمهم العددي، وحجم شركائهم في الشركة المُسَمّاة وطنًا.

إنها لعبة العدد يُجيد الطائفيون التفكير بها والتخطيط لأجلها. فكلُّ مولودٍ جديد هو سهمٌ إضافي مُربِحٌ في الشركة-الوطن. وكلُّ فقيدٍ أو مُهاجِرٍ هو خسارة. إنه سباقٌ محموم بين الطوائف اللبنانية غير المُتَّحدة، للإمساك بالسلطة. سباقٌ على تملّك الأرض وعلى امتلاك صناديق الاقتراع. والأسلحة كثيرة، أرحام النساء وخزائن الدول الصديقة أو الحليفة. والتاريخ يُعلّمنا أن العلاقة بين الطوائف اللبنانية قامت، منذ أواسط القرن التاسع عشر، على تسوياتٍ مؤقتة وحروب أهلية مُدمّرة.

عندما طُرِحَ موضوع تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، تطبيقًا لاتفاق الطائف وللدستور، ووجِهَ بالرفض. وعندما طُرِحَ موضوع تخفيض سن الاقتراع الى ثمانية عشر عامًا، اشتعلت حربٌ باردة بين الطوائف. استنفر الطائفيون يومها آلاتهم الحاسبة مُجَدّدًا، ودرسوا الأعداد بدقّة، مع حسابات الربح والخسارة. استعان الطائفيون بمراكز الأبحاث “العلمية” من أجل الحصول على المعطيات الدقيقة. صدمتهم الزيادة غير المُتوازنة للناخبين الشباب.استهجنوا هذا الفارق غير المتوقع بين المُسلمين والمسيحيين. وتمنّى بعضهم، ربما مُتضرّعًا الى الله، لو تُصابُ نساء الآخرين بالعقم، تجنباً لشرٍّ آتٍ. دقّقَ الطائفيون أكثر في الأرقام. درسوا موازين القوى في المدن والبلدات والقرى والأحياء فخافوا. خافوا من هؤلاء الشباب غير المُدَجَّنين الذين يمكن أن يُحدثوا تغييراتٍ اذا ما أعطوا حق الاقتراع، وتمّ وأد الموضوع. بعضهم قال يومها أن هؤلاء الشباب بحاجة الى تثقيفٍ سياسي كي يُحسِنوا الاختيار. ونسي هذا البعض عشرات آلاف المُجَنَّسين “المُثقّفين” الذين يشاركون في كل الانتخابات وبعضهم من أصحاب السوابق!!!. فكل قرار يُطرَحُ للنقاش في لبنان يجب أن يُحسَبَ طائفيًا وتُدرَس تداعياته الطائفية. من تعبيد طريقٍ الى بناء مطار، ومن توظيف حاجب الى اعتقال سارق أو فاسد أو إعدام مجرم.

التوازن الكاذب

في النقاشات التي سبقت إقرار قانون الانتخاب الهجين والمسخ، الذي يُطَبَّقُ حاليًا، حاول البعض المُقايضة بين قانون تخفيض سن الاقتراع وتنفيذ الاجراءت المتعلقة باعطاء المغتربين الحق بالمشاركة في الانتخابات، على أمل إحداث “توازن” بين الزيادات على أعداد الناخبين عند مختلف الطوائف. وكانت النتيجة أن طار قانون تخفيض سن الاقتراع، وأُقرّ في قانون الانتخاب حق المغتربين باختيار ستة نواب يمثلونهم في ما سمي الدائرة السادسة عشرة. ولكن هذا البند تمّ تعليقه في الانتخابات النيابية في العام 2018، وأُعطِيَ المغتربون الحقّ بالمشاركة في اختيار نواب المجلس ال 128. وبدل أن تبادر الحكومات المتعاقبة، إلى وضع المراسيم التنظيمية لتوزيع مقاعد المغتربن الستة على القارات، وتحديد آليات انتخابهم، تجاهلت الموضوع حيث عاد المجلس النيابي إلى إقرار تعديل لقانون الانتخاب، يعطي المغتربين المسجلين الحق بالمشاركة في اختيار كامل أعضاء المجلس النيابي. وهذا ما تم الطعن به أمام المجلس الدستوري ولكن بدون نتيجة. ويُمكن لأي اقتراح جديد بتعديل قانون الانتخاب، حول هذا الموضوع، أن يؤدّي إذا ما أُقر، إلى تأجيل أو تطيير الانتخابات النيابية المُقرَّر إجراؤها في 15 أيار (مايو) المقبل.

وتُشير الإحصاءات إلى أن عدد المغتربين الذي تسجّلوا للمشاركة في هذه الانتخابات لم يتجاوز ال 225 ألفًا ( تقديرات أعداد المغتربين اللبنانيين تتحدث عن ملايين عدة)، بينما بلغ عدد اللبنانيين الذين غادروا وطن الأرز خلال السنوات الأربع الماضية فقط 215,653 شخصًا حسب “الدولية للمعلومات”. ومشكلة أغلب السياسيين اللبنانيين أنهم لا يعرفون المشاعر الحقيقية التي يحملها المغتربون تجاههم. فهم لا يمكن أن يستوعبوا درجة القرف لدى المغتربين من سلوكيات السياسيين في لبنان، من خلافاتهم ومصالحاتهم وشتائمهم وفسادهم وكذبهم ونهبهم وسرقاتهم. فالمغتربون اللبنانيون، في غالبيتهم الساحقة، واعون الى حقيقتين: الأولى، أنهم ما كانوا أُجبروا على ترك بيوتهم وأرزاقهم وقراهم ومدنهم وأهاليهم، لولا فساد هذه المنظومة السياسية وسوء إدارتها للشؤون الوطنية، ولولا الصراعات الدموية التي نظمتها هذه المنظومة حفاظًا على مصالحها. والثانية، أن هؤلاء المغتربين اندمجوا، بنسبة كبيرة، في المجتمعات التي استقبلتهم، حيث للديموقراطية وللمساواة معنى وحيث لحقوق الانسان قيمة. ولذلك فهم لا يرغبون، باستثناء قلة طائفية مُتعصّبة، في الانغماس مجدداً في أوحال السياسة اللبنانية.

الأرقام صادمة

يخاف الطائفيون من الأرقام. يصرّون على تجاهل الوقائع الديموغرافية. يدفنون رؤوسهم في الرمال، بينما العواصف والمتغيّرات صاخبة. في العام 1932 جرى أول وآخر تعداد سكاني رسمي في لبنان. بعده نُشرت تقديرات مختلفة ومتناقضة لعدد السكان. وفي اتفاق الطائف قرر أهل السياسة التوقّف عن تعداد السكان، واعتبار المناصفة بين المسلمين والمسيحيين هي القاعدة في الحكم والإدارة. هذه التسوية احتضنت في داخلها تكاذبًا على الذات وعلى الآخر. فالمسلمون يعرفون ويمارسون على أنهم أصبحوا الأكثرية، والمسيحيون يعيشون ويتصرفون على أنهم الأقلية. بينما آخر الإحصاءات الصادمة تشير إلى أن الأطفال اللبنانيين، ومن كل الطوائف، تحت عمر العشر سنين، أصبحوا أقلية في لبنان.

متى يخرج لبنان من أرقام الطوائف إلى رحاب المواطنة؟ ومتى سيتوقّف السياسيون عن ممارساتهم وسلوكياتهم وفسادهم وسوء إدارتهم كي يبقى اللبنانيون في لبنان؟ ومتى سيعرف المسؤولون أن العالم تغيّر، وأن الشباب اللبنانيين أصبحوا على تماسٍ مع أحدث ما تنتجه البشرية بفضل وسائل التواصل الاجتماعي؟

أسئلة برسم قيادات سياسية اجتماعية واقتصادية ودينية، تخدع ذاتها وجماعاتها بشعاراتٍ كاذبة واهية، وتنتظر فراغ قرى، وربما مدن، من سكانها كي تعي الحقيقة. ويومها ستكون الحقيقة مؤلمة. وقديمًا قيل: على نفسها جنت براقش.

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث لبناني وأستاذ جامعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى