هذه قصة ميخائيل نعيمه ومي “ملاكه الحارس”

(في الذكرى الثامنة لرحيلها)

بعد غربة أميركيّة دامت 20 سنة ونيّف (من أيلول/سبتمبر1911 حتى أيّار/مايو 1932) عاد ميخائيل نعيمه إلى ربوع لبنان، وبه عطش روحانيّ لا يرويه سوى سكون الشخروب وعزلته وأصداء منزله المتواضع في بسكنتا وطيبة أهله وأهل قريته، كما عبّر عن ذلك في سيرته الذاتيّة “سبعون” (الجزء الثالث) إذ رست سفينته في مرفأ بيروت فجرَ ذاك اليوم وأطلّ عليه جبل صنّين “ما كان أروعه فجرًا في حياتي!” (ص 220)، ويتابع: “عيناي تكادان تقفزان من وجهي، وقلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي. إنّي أودّ لو أدرك تلك القمّة الحبيبة قبل أن تدركها الشمس  فأتبرّك بلمس خمارها الأبيض،  وأفتح صدري لأنفاسها المثلوجة، النعشة، وأطلّ من فوقها على الشخروب ومن فيه وما فيه … ” (ص230).

وفي ميناء بيروت كان في استقباله نجيب (شقيقه الذي يصغره بإحدى عشرة سنة) مع سوزان زوجة شقيقه الأصغر نسيب، وخاله سليمان خلف سبعون (2004). وبعد طريق طويل المخاض من بيروت إلى بسكنتا وصل ميخائيل إلى قريته ومرتعه الأوّل، في وقت متأخّر من ليل ذاك اليوم، فلاقى والدته بعد طول غياب. وصباح اليوم التالي عانق والده الآتي من الشخروب، وتعرّف للمرّة الأولى على أولاد نجيب الثلاثة: ميّ ويوسف ونديم، وعلى أولاد شقيقته غالية. ويصف انطباعه الأوّل عن مي: “… من عينيّ ميّ، ابنة نجيب، الواسعتين السوداوين الناعستين، المكلّلتين بأهداب طويلة مقوّسة، ومن تقاطيع وجهها الملائكي، ومن الذؤابتين المسدولتين على ظهرها والشريط الحريري المعقود في آخرهما، ومن الفستان الزاهي الذي كان يبدو أنها تعتزّ به، أطلّت عليّ دنيا من الطهر والحسن والحلاوة، ودنيا من الأحلام والأسرار (نعيمه، 2004، ص 380).

مي تتكرس لخدمة عمّها

وتمضي الأيّام وتكبر ميّ وتصبح في الرابعة عشرة، وتكون المسؤولة عن أمور بيت بسكنتا في صيفًا حين تكون والدتها مع والدها في الشخروب يهتمّان في أمور الأرض والزرع والجنى. ويشرح نعيمه: “بعد موت الوالدة تغيّر نمط معيشة العائلة إذ انقسمت في الصيف إلى شطرين متساويين: زكيّة ونجيب ويوسف في الشخروب، وأنا ونديم وميّ في الضيعة، فلم يكن في الإمكان إقفال البيت في الضيعة لأسباب كثيرة أهمّها كثرة الزوّار الذين كانوا يفدون إليّ في كلّ يوم تقريبًا من أيّام الصيف ومن شتّى الديار” (نعيمه، 2004، ص 295).

وجود ميّ في بسكنتا لم يكن فقط لإدارة المنزل بل أيضًا لاستقبال زوّار عمّها ميخائيل. لم يكن في بسكنتا آنذاك فندق أو نزل، فلا بدّ للزائر أن يستريح في منزل في بسكنتا أو أن يبيت ليلته. كانت ميّ غالبًا تترك غرفتها لضيوف عمّها وتقضي ليلتها على كنبة غرفة الشتاء. ومع الفجر تستيقظ لتحضير الفطور فالغداء فالعشاء لتكريم الموجودين، إلى شؤون البيت الكثيرة كتحضير الأسرّة والتنظيف وغيرها. وكلّ هذا لتأمين راحة زوّار عمّها فتشعرهم بطيب وجودهم وتفرّح عمّها بحسن استقبالها وكرم ضيافتها. “وميّ، ولا معين لها، تقوم وحدها بخدمتهم إكرامًا لعمّها.  فرضا عمّها عندها بات من رضا الله، وتوفير الراحة له، حتى في أتفه الأمور، بات من الواجبات التي لا يفوقها من الأهميّة أيّ واجب” (نعيمه، 2004، ص 295 – 296).

وها هو نعيمه يتوجّه إلى ميّ برسالة خاصّة في ذكرى مولده (17 تشرين الأوّل/أكتوبر 1985). والرسالة بخطّه كانت في منزله في الزلقا وانتقلت مع محتوياته إلى منزل سهى في المطيلب (كانون الأوّل/ديسمبر 2018)، ومما جاء فيها: “… ضيفك أبدًا معزّز ومكرّم، حتى يشعر كأنّه صاحب البيت فيصحّ فيه قول الشاعر: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل …”.

مي في أدب نعيمه

في مراهقة ميّ وصباها كان لها ميخائيل خير صديق ومرشد، فيهديها قصّة قصيرة بعنوان “صورة (إلى ميّ)” من كتابه “هوامش” لكي تعْتبر ميّ منها وترى الحياة بمنظار أصفى وأنقى.  ويختم القصة المهداة إلى ميّ: “على أن يكون لك قلبان: قلب للآلهة، وقلب للنّاس” (نعيمه، 2012، ص 237).

ويصف نعيمه في سيرته الذاتيّة (“سبعون”، المرحلة الثالثة -2004) ما كتبه في قصّته القصيرة “عدوّ النساء”: “بيتي من بعدك، يا بنيّتي، ليس بيتي.  إنّه وجار ضبع، بل حجر ضبّ … (ص 296) … وأنا من بعدك، يا بنيّتي، غير أنا … ولا ارتسمت بسمتك في عيني ولا رنّ صوتك في أذني … إلّا بعثْت في جسدي وروحي حرارة حياة تتجدّد … وتنبسط على مدى الآفاق” (ص 297).  وهذا الفيض أوحى لنعيمه بقصّته “عدوّ النساء”، كما أوضح: “هذا الفيض من العاطفة الطاهرة، والذوق اللطيف، والإحساس المرهف تغمرني به ميّ” (ص 296).

كبرت ميّ وتعمّقت الصّلة الروحانيّة المميّزة التي تربطها بعمّها ميخائيل، حتى باتت مي تشعر بعمّها وتقلّباته عن بُعد، دون أن تكون بجواره أو حتى بمحيطه، ودون أن تراه بعينيها الجسديتين بل بما يتعداهما روحيًّا.

بعد ظهر 28 آب/أغسطس 1958، يروي نعيمة في “سبعون” (الجزء الثالث – 2004) كيف كان في الشخروب فزلّت قدمه ووقع، ما أدّى إلى كسر في كتفه الأيمن نُقل على أثرها إلى المستشفى. كانت وشقيقها نديم وأصدقاء في مصيف قريب من بسكنتا. ساعة وقوع الحادث شدّ ميّ إلى عمّها شوق وحنين غريبين وكبيرين:  “كانت ورفاقها جالسين في مطعم عندما أخذت تردّد بينها وبين نفسها “بدّي عمّي. بدّي عمّي”. وظلّت تردّدها حتى طفر الدمع من عينيها. حار في أمرها رفاقها،  وكانت حيرتها أشدّ من حيرتهم” (نعيمه، 2004، ص 327).

مي في مسرحية عن نعيمه

في أيار/مايو 1978 كرّم الرئيس الراحل الياس سركيس نعيمه في مهرجان أدبيّ لمدّة أسبوع، تشكّل من ندوات ومحاضرات وكلمات ووثائقيّات (منهاكتاب د. نديم نعيمه عن عمّه ميخائيل “طريق الذات إلى الذات”، وفيلم وثائقي بعنوان “تسعون” للمخرج مارون بغدادي، ومسرحيّة من فصلين من تأليف وإخراج يعقوب الشدراوي) تجلّت من خلالها الحقبات والتأثيرات الرئيسيّة في حياة نعيمه، بينها العلاقة الروحانيّة المميّزة القائمة على المحبّة والتضحية التي تربط ميخائيل بمي “ملاكه الحارس”.  ولعبت دور ميّ في المسرحيّة الممثّلة القديرة رضا خوري، للدلالة على الدور الرئيسي الذي لعبته ميّ في حياة “أنكولتها”، فها هي تطلّ على عمّها في كتاب “نجوى الغروب” لتذكّره بأنّ وقت الأكل حان: “أنكولتي! مش ناوي تتغدّى اليوم؟”  وأمّ الطفلة هي ميّ إبنة أخي نجيب التي ما برحت تسهر على راحتي الجسديّة والنفسيّة منذ ثلاثين سنة … و”أنكولتي” كلمة نحتَتْها ميّ من كلمة “أنكل” الإنكليزيّة التي تعني “العمّ”.  وذلك زيادة في التحبّب” (نعيمه، 1973، ص 80).

التحية في ذكراها

ميّ نجيب نعيمه هي الحنونة المتفانية الحاضنة الطيّبة المحبّة لعمّها ميخائيل نعيمه ولعائلتها ولكلّ من عرفها.

في الذكرى الثامنة لرحيل ميّ (15 كانون الثاني/يناير 2014) “الملاك الحارس” لعمّها ميخائيل، أطلب منك يا ربّي أن تضمّها وأن تضمّ “جدّو ميشا” عنّي، وأن تُبقيهما منارة في حياتي وبركة خير وصلاة في عمري الأرضيّ وديمومتي الأبديّة ومرآة لرضاك عليّ.

إلى اللقاء يا حبّة قلبي، ويا كلمتي الواحدة النابضة أبدًا بالـ”ميماسونا” (ميخائيل، ميّ، سهى، نعيمه).

سهى ميّ نعيمه/سهى فوزي حدّاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى