تبرئة بودلير بعد 100 سنة  (2 من 3)

مدام ساباتييه: ظنَّها الشاعر ملاكه لكنها تخلَّت عنه

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذه الثلاثية ذكرتُ عن صُدور كتاب بودلير “أَزهار الشر” (25 حزيران/يونيو 1857)، وكان صادمًا بجُرأَته في تَحدّي الأَعراف الخلُقية في عصره. وما لفت إِليه أَوَّلًا كان مقال في “الفيغارو” هاجم الكتاب. فماذا حدَث؟

الأمن العام يتدخَّل

في 5 تموز/يوليو 1857 نشَر الصحافي غوستاڤ بوردين Bourdin  مقالًا في “الفيغارو”، قصيرًا لكنه حادّ، نبَّه فيه القراء والعدالة إِلى “أَربع قصائد جريئة، جميلة شعريًّا وعاطفيًّا وفنيًّا، لكنها تَخدُش الحياء العام”. وجاء في المقال أَنه كصحافي “لا يدَّعي الحُلول مكان النيابة العامة، وليس له أَن يُطْلق حُكْمًا ولا أَن يمنع الكتاب، لكنه يلْفت العدالة أَن تتحرَّك”. وهو ما تمسَّك به المدَّعي العام إِرنسْت پينار عنصرًا إِضافيًّا كي ينهال بسوط العدالة على الشاعر.

تأْثير المقال كان فوريًّا: بعد يومَين (7 تموز/يوليو) صدَر تقرير عن المديرية العامة للأَمن العام التابعة لوزارة الداخلية (وزيرُها أَدولف بيُّو  Billaultمن رجال السلطة الأَمبراطورية) يَذكر فيه قصائد “تتحدَّى القوانين التي تَحمي الدين والأَخلاق، في لغة محرِّضة داعرة”. ورفعَت المديرية العامة التقرير إِلى النيابة العامة لافتةً إِياها خصوصًا إِلى “خطورة ست قصائد في المجموعة”.

الصحافة تزيد النار اشتعالًا

وزاد من اشتعال القضية أَيضًا صدورُ مقال آخر في “الفيغارو” (12 تموز/يوليو) بتوقيع جول هابانس Habans الذي اتَّهمه بودلير بأَنه “من مَحاسيب الوزير بِيُّو”. في 16 تموز/يوليو داهمَت الشرطة المطبعة في آلانسون (بلدة في منطقة النورماندي)، وفي اليوم التالي أَعلن المدَّعي العام الدَعوى على الشاعر وناشِرَيْه كليهما، بناءً على تقرير المديرية العامة للأَمن العام، وأَمَرَ بمصادرة نُسخ الكتاب جميعها (كما كان أَمرَ عند حُكْمه على كتاب فلوبير “مدام بوڤاري”). واستغلَّت القرارَ “جريدةُ بروكسِل” فنشرَت في 15 تموز/يوليو مقالًا ساخطًا بتوقيعٍ غريب (ز.ز.ز.) جاء فيه: “رواية مدام بوڤاري الـمُشينة تبدو كلُّها تقوى أَمام هذه المجموعة الشعرية الداعرة المسمَّاة “أَزهار الشر”.

حاول بودلير الدفاع عن كتابه، فكتب إِلى آشيل فولْد Fould (وزير الدولة في بلاط الأَمبراطور) رسالة جاء فيها: “لا أَحسَبُني مخطئًا، بل على العكس: أَفخر بأَنني أَصدرتُ كتابًا لا ينضَح إِلَّا بالإِشارة إِلى كُرْه الشر ونَبْذِه”. حاول الوزير دعمَه لكنَّ هذا الدعم لم يلقَ تجاوُب وزيرَي الداخلية والعدل.

بودلير في فترة المحاكمة

التحقيق الأَوليّ

مَثُل الشاعر أَوَّلًا أَمام محقِّقٍ كان متساهلًا معه نوعًا، لكنَّ الدعوى، للأَسف، انتقلَت إِلى الغرفة السادسة الجنائية في محكمة السين Seine حيث المدَّعي العام پينار الغَضوب يمثِّل النيابة العامة. قرأَ المجموعة (وهي من 100 قصيدة) وركَّز على 13 قصيدة جاء في تقرير المديرية العامة للأم العام أَنها تخدش الأَخلاقَ العامة والتقاليدَ الاجتماعية وخصوصًا الأَعراف الدينية (بحسب المادتَين 1 و8 من قانون 18 أَيار/مايو 1819). أَخذ بودلير يجمع عناصرَ الدفاع لمحاميه الذي، للأَسف أَيضًا، لم يكُن ديستانج D’Est-Ange (الذي كان دافع عن فلوبير وربح الدعوى) لأَنه فترتئذٍ كان يتهيَّأُ ليسمَّى المدَّعي العام الأَمبراطوري، فكلَّف بالدفاع ابنَه غوستاف ابن الخامسة والعشرين وغيرَ المتمرِّس بعد، للدفاع عن بودلير.

زَها بودلير أَن يكون محطَّ انشغال ثلاثة وزراء، فكتبَ إِلى والدته (17 تموز/يوليو 1857) أَنه يبحث عن دعمَين: أَحدُهما من أَهل الأَدب المعروفين (ساعدَه سانت بوڤ Beuve بمطالعة دفاعية)، والآخَر من سيدات لهنَّ علاقة برجال السُلطة الأَمبراطورية، حاول بينهنّ الاتصال بالأَميرة ماتيلد، إِنما لم يوفَّق، فسَعى لدى أَپُّولين ساباتييه، ذاكرًا لها أَن القاضي والمدَّعي العام ركَّزا على قصيدتَي الحُب اللتين كتبهَما لها، ورجا “الرئيسة” (هكذا كان يلقِّبها زوَّارُ صالونهها الأَدبي) أَن تتدخَّل لدى معارفها في السُلطة كي تساعده على الخَلاص من ورطته القانونية. ومما جاء في رسالته: “فلوبير أَنقَذَتْه الأَمبراطورة، وأَنا ما لي سواكِ”.

لم ينقذه محاميه الضعيف

لكنه تأَخَّر في طلب النجدة لأَن الوقت داهمَه، فجلسة المحاكمة كانت نهار 20 تموز/يوليو في الغرفة السادسة الجنائية.

في تلك الجلسة المصيرية، ركَّز المدَّعي العام پينار على 13 قصيدة شرَحَها وشرَّحها على طريقته أَثناءَ مرافعته، وشدَّد فيها على الكلمات “الوقحة”. اتَّكل بودلير على محاميه الشاب الذي، للأَسف، لم يأْخذ من نص سانت بوڤ العبارة الدامغة: “كل شيْءٍ قيل في الشعر. لامرتين أَخذَ السماء، هوغو أَخذ الأَرض، لابراد أَخذ الغابات، موسيه أَخذ الشغف، غوتيـيه أَخذ إِسپانيا وأَلوانها. ماذا يبقى؟ يبقى ما أَخذه بودلير مكْرَهًا”. وهو ما سيستعيده بودلير لاحقًا في مسوَّدة مقدمته لطبعةٍ لاحقة من كتابه، ويضيف: “تقاسَمَ الشعراء الكبار من زمانٍ أَجمل أَقاليم الشعر المزْهرة، فبدا لي سائغًا أَن أَعتمد المهمَّة الأَصعب: استخلاص جمال القُبْح والشر”.

كان بودلير يريد أَن يؤْخذ الكتاب في مُجمله لا مُجَزَّأً. ودعمًا دفاعه، أَصدَر كتيبًا صغيرًا من 32 صفحة في 100 نسخة نشَر فيه قصائد تدعم موقفه بعنوان “مقالات تبريرية لشارل بودلير صاحب كتاب “أَزهار الشر”، جمع فيه 4 مقالات لصالحه كانت صدرَت عن الكتاب. لكنَّ ذاك الكتيِّب لم ينفَع في تليين موقف المدَّعي العام.

فماذا حصَل؟

الجواب في الجزء الثالث الأَخير من هذه الثلاثية: المُـحاكَمة وقرارُها القاسي

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى