موزار “حيًّا” بعد 230 سنة على غيابه (1)
هنري زغيب*
ليس لأَنه كان عبقريًا في زمانه وبين معاصريه، ولا لأَن أَعماله ما زالت زوَّادة معظم أُوركسترات العالم السمفونية والفيلهارمونية، بل لأَنه ما زال يستكتب، من غيابه الساطع، باحثين ومؤَرخين وخبراء، كأَنما لا يزال هنا، كأَنما لا يزال يعطي، كأَنه لم يغب قبل 230 سنة.
1240 صفحة عنه
الكاتب الفرنسي كريستيان جاك (74 سنة، فرنسي يعيش في سويسرا) من قلائل المتخصِّصين بالشأْن المصري، وله في مصر القديمة مؤَلفات كثيرة. مع ذلك خصص لموزار أَربعة أَجزاء دسمة ظهرت قبل سنوات وما زال طبعها يُعاد وترجماتها تَزداد.
أَربعة أَجزاء في 1240 صفحة، جال بها المؤَلف في سبْك روائي حواريّ على حياة موزار (1756-1791) “عبقري الموسيقى في جميع العصور” (كما يسمِّيه) وجعل الأَجزاء الأَربعة، بخياله الروائي، في شكل يومياتٍ تابَعَها تسلسلًا زمنيًا حتى الساعة الأَخيرة من انطفاء موزار في عز ربيعه الخامس والثلاثين.
هذه الطريقة الروائية/التاريخية تجعل قراءة الكتاب، من جُزْء إِلى تالٍ، سلسلة مشوِّقة، خصوصًا لمن يحبُّون قراءة السيَر. لذا لن يجدوا في رباعية كريستيان جاك رتابةً كأَيِّ سرد بيوغرافي العادي التقليدي ذي تواريخَ وأَحداثٍ بدون سياق مشوّق.
- “الساحر الكبير”
يتناول المؤَلفُ الطفلَ النابغَ منذ هو بعدُ في السابعة ومع ذلك جال على غير مسرح وغير عاصمة في أُوروپا (پراغ، ڤيينَّا، فرنكفورت، …). و”يخترع” المؤَلف رجلًا يتابع مسيرة موزار: “تاموس”، سيِّد طيبة، مدينة مصرية قديمة على طول نهر النيل، عُرفَت باسم “واسط” (مدينة الصولجان)، أَطلالها داخل مدينة الأُقصُر، وهي رابع مدن مصر العليا. كانت طويلًا عاصمة مصر، ومركز عبادة في التاريخ المصري القديم.
جاء تاموس من مصر العليا كي يدرِّب الطفل “الساحر الكبير” موزار الذي كان في حياته سرٌّ يعزِّيه كلَّما كان يشعر بالإِرهاق، كنزٌ شخصي: مملكة افتراضية، هو مَلِكُها، مرسومةٌ جميلةً على بطاقة لا تفارقه. إِلى أَن كان يوم 25 آب/أُغسطس 1763، فيما كان الطفل ابنُ السابعة يتأَهب لركوب العربة مكْملًا سفرَه مع أُمِّه وأَبيه، ضاعت البطاقة فصُعِقَ الطفل. فتَّش طويلًا عليها. لم يجدها. وإِذا برَجُلِ مجهولٍ يتقدم منه فجأَةً ويعطيه إِياها.
فرِح الطفل موزار، وسأَل الرجلَ الواقف أَمامه:
- أَين وجدْتَها؟
أَجاب الرَجل الغريب:
- كانت هناك على الأَرض. أَبْعدَ قليلًا من قوائم الحصان.
ذاك الرجل المنقذ كان تاموس، سيِّدُ طيبة، جاء من مصر العليا كي ينفِّذ مهمة محدَّدة: أَن يكتشف طفلًا هو “الساحر الكبير” الذي كان يستعير من شقيقته نانِّيرْلْ آلتها الموسيقية كي يعزف عليها “باحثًا عن نغمات تتناغم في ما بينها”. ومن مهمة تاموس “أَن يجد الطفل الذي وُلِدَ في الغرب، وسيكون لأَعماله أَن تُنقذ البشرية من الغرق في الفوضى”.
ومنذ ذاك اليوم، لم يعُد تاموس ووولفغانغ موزار يفترقان أَبدًا.
وبالخيال الروائي الممتع ذاته يتنقَّل بنا المؤَلف من ڤيينَّا إِلى پراغ إِلى ميلانو فپاريس، خطوةً خطوةً، ويومًا فيومًا، مع الطفل الذي “كان يؤَلِّف بلا انقطاع، سعيدًا أَحيانًا وأَحيانًا متأَلِّـمًا، مرةً مغتبطًا بتصفيق الجمهور ومكتئبًا مرَّاتٍ من برودة الجمهور، يومًا محمولًا من تهانئ الحضور، ويومًا مكسور الخاطر من هُزء الجمهور. لكنه كان دومًا يقاوم بعنادٍ ضدَّ الفشل، ضدَّ الحسد، ضدَّ بعض رجال الكنيسة المتحكِّمين، ضد السُلطة المدنية، وخصوصًا ضد شرطيٍّ اسمه جوزف أَنطون الذي لم يكُن له سوى نية سوداء واحدة: تدمير الصبي النابغة.
ولكن، بفضل تاموس، معلِّمه وحاميه الدائم، كان موزار دائمًا يجد طاقة على التأْليف، ويكتب موسيقى روائعه: “الناي الطَروب”، “عرس الحلّاق”، “هكذا هنَّ النساء” (عنوانها الآخَر “مدرسة العشاق”) وهي الأَعمال الأُوپرالية الخالدة التي أَضاء بها على مستقبل الاحتفالات الموسيقية في الغرب. ويروح كريستيان جاك، من جزء إِلى آخر في رباعيته الروائية المتَخَيَّلَة، يكشف المغامرة الروحية والحياة الشخصية لأَحد أَكبر عباقرة التاريخ.
- “ابن النور”
في هذا الجزء يرسم المؤَلف كيف كان موزار في حالة تأْليف متواصل، كأَنما حياتُه متعلِّقة بهذا الإِيقاع المتوهِّج من التأْليف الدائم. لكنَّ هذه الحرية في غزارة التأْليف أَزعجَت وليَّ أَعماله: أُسقف سالزبورغ الذي لا يَقبَل من الناس في رعيَّته إِلَّا الطاعة التامة. نصَحه تاموس بالانتقال إِلى ڤيينا والسكَن فيها نهائيًّا. هكذا كان. وفي ڤيينا التقى بالمرأَة التي عرف معها الحب وتزوَّجها: كونستانْس ويبِر، وارتاح من ضغوط الأُسقف والحسَّاد، ووضع إِحدى روائعه الخالدة: “عُرس الحلَّاق”.
- “شقيق النار”:
في هذا الجزء الثالث من الرُباعية، يبيِّن المؤَلِّف دور تاموس، وهو آخر حافظي أَسرار الفراعنة، أَن يرعى بعنايةٍ عالية ذاك الفتى الذي “سيُنقذ البشرية بأَعماله”. ويروي لنا في هذا الجزء انصراف موزار، برعاية تاموس وحمايته، إِلى وضع رائعة أُخرى: “دون جوان”. يستريح موزار نفسيًّا ومادِّيًّا، فهو زوج سعيد ووالدُ طفل، وهو منطلِقٌ في مسيرته الإِبداعية. تتالت عليه طلبات التأْليف، وأَدَّت أَعمالَه أَشهرُ مغنِّيات الأُوپرا في عصره.
ولكنْ… وسْط تلك الهناءة، عاد يصطدم بتهديدات قاسية أَفسدَت طموحاته الفنية: تهديد السُلطة ومراقَبة تحرُّكاته بناء على “أَوامر عُليا”، تهديد الحسَّاد من المؤَلفين الموسيقيين الفاشلين، وفي طليعتهم سالييري، راحوا يحاولون إِفشال عُرُوضه الموسيقية. لكنه راح يقاومهم جميعهم، وسْط قلق عام في البلاد إذ كانت النمسا تتهيَّأُ لدخول الحرب ضد الأَتراك.
- “معشوق إِيزيس”
فيما كانت الثورةُ الفرنسية تهدِّد بزعزعة أُوروپا، كان شقيقُ موزار ينْقذه من همومه المادية وما كان يمر به من فترات صعبة. وبقي موزار وفيًّا لشقيقه وكان يعتبره مثاله الأَعلى.
بعد الصعوبات الكثيرة، انفتح أَمام موزار بابَ المستقبل كما كان يُعدُّه له راعيه تاموس. وفي تلك المرحلة أَنجز آخر أَعماله: رائعته الخالدة التي مجَّد فيها حكمةَ أُوزيس وأُوزيريس، وأَدخل النمط المصري القديم إِلى الغرب، كما كان يأْمل منه تاموس.
تلك الرائعة الأَخيرة هي أُوپرا “الناي الطَرُوب” التي أُعالجها في الجزء المقبل من هذا المقال في “أَسواق العرب” (28 أَيلول/سپتمبر) عشيَّة مُرور 230 سنة على عزْف هذه الأُوپرا للمرة الأُولى: 30 أَيلول/سپتمبر 1791.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.