بوتين في الخليج: قِراءَةُ مَشهَدٍ بَينَ حَربَين

محمّد قوّاص*

الزِيارَةُ التي قامَ بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأربعاء الفائت، إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة أقلقت العواصم الغربية. أتى الحَدَثُ ليَفرُض حقيقةً داخل سياق التوتّر الشديد في الشرق الأوسط بسبب الحرب في غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وداخل سياقِ حربٍ أُخرى تنخرطُ فيها روسيا في أوكرانيا منذ شباط (فبراير) 2022.

أطلّ بوتين على الرياض وأبوظبي ليؤكّدَ ومضيفيه متانةَ العلاقات بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي عامةً والسعودية والإمارات بخاصة. وإذا ما ارتفعت مستوياتُ هذه العلاقات حتى في ظلِّ حربِ أوكرانيا، فإنَّ هذه الزيارة تُشدّدُ على رسوخها ونهائيتها في ظلِّ سياقات الحرب في غزة.

وبَغَضِّ النظرِ عن مضمونِ مُحادثاتِ الزعيم الروسي في الرياض وأبوظبي، فإنَّ كلَّ واجهاتِ ومَشاهدِ استقباله من قبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، ورئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد في أبوظبي تُعبّرُ في حرارةِ الحفاوة عن مستوى الكيمياء الشخصية في علاقة الزعماء الثلاثة، وهو أمرٌ نَدَرَ ملاحظته أثناء زيارات بعض الزعماء الغربيين.

تُمثّلُ الزيارة حدثًا لافتًا لجهة قيام الرئيس الروسي بالسفر إلى خارج الفضاء الجغرافي الذي اعتادَ التنقّلَ داخله منذ اندلاع حرب أوكرانيا. زار خلال الفترة الماضية الصين وعددًا من الدول المجاورة التي كانت جُزءًا من الاتحاد السوفياتي سابقًا. وإذا ما اختار “الخروج إلى العالم” من بوابات السعودية والإمارات فذلك أنه يَعتبرُ أنه يتجوّلُ في “نطاقٍ آمن” ويثقُ بالمدى الذي وصلت إليه علاقات هذه الدول البَينية من ترابطِ أهدافٍ وتشابُكِ مصالح وتلاقي في الرؤى الاستراتيجية.

وعلى الرُغمِ من سعيِ الولايات المتحدة، وخصوصًا إثر الحرب في غزة، إلى تأكيد استعادة مستوى نفوذها في الشرق الأوسط، وعلى الرُغمِ من جهودٍ بذلتها واشنطن لتصويبِ علاقاتها مع المنطقة ومع الرياض وأبوظبي بخاصة، وعلى الرُغمِ من تدفّقِ المسؤولين الأميركيين لترميم ما تصدّعَ في جدارِ الثقة مع دول المنطقة، فإنَّ زيارة بوتين تبعثُ برسالةٍ إقليمية واضحة بأنَّ العلاقات مع الشرق هي خيارٌ استراتيجي ونهائي ولا تتعارض مع العلاقة التاريخية مع الغرب (حتى لو أن صحيفة فايننشال تايمز ذكرت أنَّ الرياض أجّلت زيارةً لولي العهد إلى لندن بسبب زيارة بوتين).

ما بين روسيا والسعودية تبادلٌ تجاري تعهّدَ سفير روسيا في الرياض سيرغي كوزلوف في شباط (فبراير) الماضي أن يصلَ إلى 5 مليارات دولار سنويًا. وقد حقّقَ هذا التبادل التجاري حجمًا وصل إلى 1.75 مليار في العام 2022. بالمقابل ارتفع التبادل التجاري بنسبة 68 في المئة بين روسيا والإمارات وحقّقَ حجمًا وصلَ إلى 8.5 مليارات دولار في العام 2022.

يَهُمُّ روسيا والسعودية والإمارات الإبحارَ سَوِيًّا وعلى موجةٍ واحدة داخل سوق الطاقة. فالدول الثلاث أعضاء داخل تجمّع “أوبك بلَس” ولديها مصلحةٌ في الحفاظِ على مستوياتِ أسعارٍ تُناسِبُ الدولَ الأعضاء من دون أن يُسَبِّبَ الأمرُ اختلالًا في الأسواق والاقتصادات الدولية. وإذا ما كانت حاجات الحرب في أوكرانيا فرضت ضغوطًا اقتصادية على روسيا وحاجةً إلى وفوراتٍ أعلى من سوق الطاقة، فإنَّ خطط السعودية والإمارات التنموية فرضت بدورها الحاجة إلى الحفاظِ على مستوى مُعَيَّن من الأسعار من خلال ضبط مستويات العَرضِ في أسواق النفط.

ومع ذلك فإنَّ بوتين لا يحتاج إلى السفر إلى المنطقة لبحث مسائل الطاقة، ذلك أنَّ آلياتَ العمل داخل “أوبك بلَس” تولّت بنجاحٍ توليفَ المواقف وتنسيقها والحفاظ على وحدة الصف لدى الدول الأعضاء. ووفق ذلك الواقع فإنَّ الرئيس الروسي يطمحُ إلى توسيع علاقاتٍ أبعد من قطاع الطاقة مع دول الشرق الأوسط ودول الخليج بخاصة. يودُّ البناء على موقفها المتوازن بشأن الحرب في أوكرانيا في وقتٍ شنّت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة حربًا اقتصادية وسياسية (إضافةً إلى العسكرية غير المباشرة في أوكرانيا) من أجلِ تهميشِ مَكانةَ روسيا وفَرضِ عُزلةٍ على زعيمها.

ولا شكّ أنَّ استقبالَ الرئيس الروسي بعد عودته إلى بلاده لكلٍّ من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وولي عهد سلطنة عُمان ذي يزن بن هيثم آل سعيد يصبّ في إطارِ الإطلالةِ الروسية المُستَجِدّة على الشرق الأوسط والتي قد تفرجُ عن مجموعة من المواقف والسياسات وتُبرزُ دورًا مطلوبًا لموسكو في رسم خرائط مآلات حرب غزة على مستقبل العالم والشرق الأوسط.

والحالُ إنَّ حربَ غزّة قدّمت واقعًا جديدًا يجرُّ مياهًا إلى طواحين موسكو. يُوّفّرُ الحدثُ سرديةً تصبّ لصالحِ سرديةِ روسيا في تقييم العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة، خصوصًا لجهة ازدواجية معاييرها في مُقاربة حَربَيِّ غزة وأوكرانيا. غطّت صُوَرُ الدمارِ الشامل في غزّة صُوَرَ ما أصابَ مُدنٍ في أوكرانيا من دمار الحرب هناك. كما إنَّ الحدثَ أعادَ تعويمَ خطابِ بوتين في الشرق الأوسط وسط تخبّطٍ في خطابِ الولايات المتحدة والرئيس الأميركي جو بايدن في رَسمِ مسارٍ مُقنِعٍ ذي مصداقية لإنهاءِ الحرب في غزّة والصراع التاريخي في الشرق الأوسط. سلّطَ الحدثُ جُهدًا روسيًّا في مجلس الأمن لتقديمِ مشروعِ قرارٍ لوَقفِ إطلاقِ النار في غزّة أحبطه تصويتٌ غربي مُضاد وتصويته لصالحِ قرارٍ قدّمته الإمارات يوم الجمعة الفائت وأحبطه “فيتو” أميركي.

وعلى الرُغمِ من سَعيِ واشنطن لإبرازِ تواصُلٍ مع الصين لبَحثِ مخارج الحرب في غزة وسطَ غيابِ أيِّ تواصُلٍ أميركي-روسي خارج إطار حرب أوكرانيا، إلّا أن الولايات المتحدة تكتشُفُ كلّ يوم أنها لم تعدّ الطرفَ القادر على فرض رؤيته في الشرق الأوسط من دون توافقٍ مع كافة دول المنطقة، وأنَّ هذه الدول ترى أيضًا أنَّ دولًا أساسية كبرى في أوروبا كما روسيا والصين يجب أن تكونَ جُزءًا من التحوّلات المُقبلة.

كما إنَّ السجالَ الداخلي في الولايات المتحدة بشأنِ وجاهة وأكلاف الحشود العسكرية الأميركية المُستَجِدّة في الشرق الأوسط وارتفاع درجات الخلاف والاحتكاك مع إسرائيل يدفع في واشنطن لاستدراجِ شراكاتٍ إقليمية ودولية لا يُمكِنُ لروسيا والصين أن تكونَ بعيدةً منها. يأتي هذا الجدلُ مُتواكِبًا مع جدلٍ آخر داخل الكونغرس بشأن وجاهة الاستمرار في دعم أوكرانيا ما استدعى استعانة واشنطن بمواهب وزير الخارجية البريطاني (رئيس الوزراء الأسبق) دايفيد كاميرون لإقناعِ المُشَرِّعين الأميركيين بضرورات استمرار هذا الدعم.

أرادت روسيا والسعودية والإمارات أن تؤكّدَ شراكتها داخل المشهد الدولي الحالي. وأرادت الرياض وأبوظبي أن تؤكد على تمسّكهما بما تحقّقَ من تقدّمٍ بات استراتيجيًا في علاقاتهما مع روسيا (ومع الشرق عامة: الصين، الهند، اليابان، كوريا الجنوبية..إلخ). وبدا أنَّ بوتين، الذي تعترف مجلة “إيكونوميست” البريطانية “وكأنه قادرٌ على الانتصار” في أوكرانيا، أكثر ثقة، يفتتح من خلال هذه الزيارة وهذه الاطلالة على الشرق الأوسط والعالم العربي مرحلةً يُبَلّغُ فيها العالم أنَّ حربَ أوكرانيا على أهمّيتها باتت ملفًا وليست الملفَّ الوحيد في مقاربة موسكو للعالم.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى