الإنسحاباتُ العسكريّةُ الأميركية لا تَضمَن خاتمة مُنَظَّمة – أُنظُروا إلى بيروت

مايكل يونغ*

في الآونة الأخيرة، كتب المُعلّق السياسي في صحيفة واشنطن بوست “مارك ثيسن” (Marc Thiessen) مقالاً عن كارثة الانسحاب الأميركي من أفغانستان. كانت حجّة “ثيسن” هي أن الفشل الذريع في كابول كان تكراراً لانسحاب مشاة البحرية الأميركية من بيروت في العام 1984 أكثر بكثير من الانسحاب المُهين من سايغون في نيسان (إبريل) 1975.

بالنسبة إليه، فإن مغادرة لبنان، بعد الهجمات التفجيرية على مبنى السفارة الأميركية في نيسان (إبريل) 1983، وضد ثكنةٍ لقوات المارينز بالقرب من مطار بيروت التي أدّت إلى مقتل 241 شخصاً في تشرين الأول (أكتوبر) التالي، شجّع أعداء أميركا، ولا سيما أسامة بن لادن. وكتب: “إذا انسحبنا [من أفغانستان] في 31 آب (أغسطس) وذيلنا بين أرجلنا، فإن ذلك سيُرسل إشارة ضعفٍ مؤكَّد لإلهام الإرهابيين في جميع أنحاء العالم”.

إن ألم “ثيسن” مفهوم. لكن لو أنه أخذ حجّته إلى أبعد من ذلك قليلاً، لربما رأى أن الانسحاب من لبنان نفسه لم يكن هو الذي أحدث فرقاً، حتى لو شجّع بن لادن، ولكن الخيارات التي اتّخذتها واشنطن في تحضيرها لخروجها من البلد وكيف أثر الأمر في أعقاب ذلك.

من خلال الانسحاب، سلّمت إدارة ريغان فعلياً لبنان إلى سوريا، وبالتالي إلى إيران، وهو الوضع الذي استمر في ظلّ إدارتَي جورج دبليو بوش وبيل كلينتون. كانت لهذا الأمر عواقب بعيدة المدى. في السنوات التي أعقبت العام 1984، التي سبقت الانسحاب السوري من لبنان في العام 2005، لعبت دمشق دوراً مركزياً في تسليح ودعم “حزب الله” وتعزيز مصالح إيران في المشرق العربي. في حين أن التكاليف قد لا تكون دراماتيكية مثل قصف البنتاغون ومركز التجارة العالمي، إلّا أن حلها أصعب بكثير.

حتى لو كانت الولايات المتحدة تنفصل عن الشرق الأوسط الكبير، فلا تزال لديها مصالح كبيرة في المنطقة. لقد هدّدت محاولة إيران للتوسّع الإقليمي في أماكن مثل لبنان والعراق واليمن حلفاء الولايات المتحدة، لا سيما إسرائيل ودول الخليج. كما إن لديها القدرة على زعزعة استقرار أسواق النفط العالمية، مع تأثير سلبي على الانتعاش الاقتصادي الأميركي في فترة ما بعد كوفيد-19. علاوة على ذلك، قد تؤدي التوترات الإقليمية إلى زيادة احتمالية نشوب حربٍ أو حتى سباق تسلّحٍ نووي، مما يؤثر بشكل كبير في المنطقة وخارجها.

حدث صعود “حزب الله” في لبنان خلال التسعينات الفائتة، عندما كان تحت حماية ورعاية سوريا، التي كانت القوّة المُهيمنة في البلاد آنذاك. ولم يُوسّع “حزب الله” قدراته العسكرية فحسب، بل أصبح أيضاً طرفاً في اتفاقٍ رسمي في نيسان (إبريل) 1996، تفاوض عليه وزير الخارجية الأميركي السابق وارن كريستوفر، الذي أرسى قواعد الاشتباك بين الحزب وإسرائيل. لقد أعطت الوثيقة “حزب الله” شرعية كبيرة.

من جهتها لم تُقدم إدارة كلينتون ضمنياً على الإعتراف ب”حزب الله” كلاعبٍ رئيس على الساحة اللبنانية فقط، فإن مسؤولين أجانب واصلوا مباركة النظام الذي فرضته سوريا والذي جعل ذلك مُمكناً. عندما تفاوض كريستوفر على تفاهم نيسان (إبريل)، أو تفاهم وقف إطلاق النار الإسرائيلي-اللبناني لعام 1996، فعل ذلك في دمشق، وليس في بيروت. لم تُحِد واشنطن عن هذا النهج، لأنها كانت تعلم أن الشؤون اللبنانية الجادة يجب أن تُعالَج وتُناقش مع الرئيس السوري في عهد حافظ الأسد.

بحلول العام 2006، تحوّل “حزب الله” إلى مصدر إزعاج كبير للولايات المتحدة والعديد من الدول العربية وإسرائيل. أظهرت الحرب التي استمرت شهراً مع إسرائيل في ذلك العام قدرة الحزب على البقاء قوّة قتالية قوية على الرغم من التفوّق العسكري الإسرائيلي الهائل. وقد زادت قدرات الحزب بشكل كبير في 15 عاماً منذ نهاية الحرب، حيث طوّر صواريخ توجيه دقيقة وطائرات مُسيَّرة وقدرة كبيرة على حفر الأنفاق.

في حين أن الحرب المُستقبلية من المرجح أن تكون مُدمّرة للبنان، فإن الوضع المالي والاقتصادي الكارثي للبلد ربما يعني أن “حزب الله” سيكون قادراً على النجاة من مثل هذا الصراع وفرض إرادته على بقية المجتمع بعد ذلك.

بعبارة أخرى، في حين أن البعض مثل “ثيسن” يعتبر الانسحاب الأميركي من بيروت كارثة، فإن افتراض واشنطن بأن الانسحاب سيؤدي إلى نتيجة مُرَتّبة واضحة كان خاطئاً. النظام السياسي الذي شجّعته الولايات المتحدة  بالانسحاب كان أكثر تحدّياً لمصالحها ومصالح حلفائها في المدى الطويل. اللحظات التأسيسية – مثل المغادرة من بيروت أو الانسحاب من كابول – تُثير النقد، لكن طبيعة ما يأتي بعد ذلك غالباً ما تكون أكثر أهمية.

والدليل الأكثر على ذلك هو ما حدث في أفغانستان في العام 1989. تخيّلت الولايات المتحدة أنها قد توصّلت إلى نوعٍ من الحلّ المُناسب بعد انتصارها في الحرب بالوكالة ضد الاتحاد السوفياتي. إختارت الانفصال عن البلد بدلاً من تحقيق الاستقرار فيه. وكان هذا مُتَوَقَّعاً بعد أن ساهم الأميركيون في تدمير أفغانستان بتسليح مجموعات المجاهدين، لكن لم يكن الأمر كذلك.

كانت النتيجة النهائية هي الحرب الأهلية، واستيلاء طالبان على السلطة في العام 1994، وعودة أسامة بن لادن، واستخدامه للبلاد لشن هجمات ضد نيويورك وواشنطن في أيلول (سبتمبر) 2001. وهذا ما أثار التدخل الذي قادته الولايات المتحدة بعد العام 2001 والذي استمر لمدة عقدين. كان من الممكن تجنّب كل هذه التطورات.

غالباً ما تنبع التأثيرات غير المتوقعة للخيارات السيئة من افتراض أن هذه الخيارات ستؤدي إلى نهاية مُرتَّبة مُنتَظمة هادئة. سيتم تذكّر الانسحاب الأميركي الفاشل من أفغانستان لفترة طويلة، لكن ما يهمّ أكثر هو ما ستُقدم عليه إدارة بايدن وتنفيذه بمجرد انتهاء هذه المرحلة. سيتعيّن عليها أن تُفكّر ملياً في هذا الأمر وألّا تؤدي سياساتها إلى وضعٍ يعني قدراً أقل من الأمن لأفغانستان وكل الآخرين.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى